أمِّ النَّكَبَات الفلسطينيّة فى ذِّكرَاها السادسة والسّبعون.. هل ما زال لدينا ما نقوله حيال ما أمسينا نراه ونشاهده؟
د. محمّد محمّد الخطّابي
فى الخامس عشر من شهر مايو الجاري 2024 مرّت ستة وسبعون عاماً على ”ذكرى نكبة فلسطين”، بل أمّ النكبات التي عانى منها الشعبُ الفلسطيني وقاسى من جرّائها الكثير انطلاقاً من وعد “آرثر جيمس بلفور” المشؤوم 1917، ومروراً بالتقسيم اللعين 1947، والإحتلال الصّهيوني العسكري لما يقارب 80 فى المائة من أرض فلسطين، وإعلان إقامة “دولة إسرائيل” عام 1948، وتشريد ما يقارب المليون فلسطيني بعد احتلال مدنهم، وقراهم، ومداشرهم، وضِيَعِهم، وأراضيهم، وتشريدهم وإبعادهم الى قطاع غزّة، والضفّة الغربيّة، ونهر الأردن، وإلى عددٍ من الأقطار العربية المجاورة، ثمّ وصولاً إلى “النّكسة” اللعينة عام 1967، حيث تلا تلك الأحداث والفواجع، والمواجع سلسلة متواصلة من المعاناة تلو المعاناة ما فتئ هذا الشعب يقاسي منها الكثير، فى ظلّ ما تشهده الأوضاع فى مختلف بلدان وأوطان بني طينتنا، وأبناء جلدتنا فى الظروف الرّاهنة من نزاعاتٍ مذهبيّة، ومن مواجهاتٍ أيديولوجيّة، وحروب دينيّة، وصراعات طائفيّة، وخلافات عرقية، وتطاحنات سياسيّة، ومشاكسات كلامية، ومنابذات لسنيّة، ومهاترات يومية. كلّ هذا المخاض العسير، وهذا الأوارالمستعر، الله وحده يعرف ما هي عاقبته، وما هو مَآله ومُنتهاه…!
صّبر وتحمّل وجَلد
أحداث تاريخية مؤلمة، مفاجآت غير سارّة خبّأها القدر لأبناء فلسطين الذين رمت الأقدار بالعديد منهم خارج وطنهم، وبعيداً عن أرضهم، وعن ذويهم، وأحبّائهم، وخلاّنهم قهراً وقسراً، وعُنوة، فانتشر منهم الكثير فى بلاد الله الواسعة فى غياهب المهاجر، ومحاجر الاغتراب، من أقصى أصقاع العالم إلى أقصاه، ولكنّهم على الرّغم من نأيهم عن أرضهم، وبُعدهم عن وطنهم، ظلّوا مشدودين إلى جذورهم ، متشبّثين بحقوقهم ، فقد ألهمهم الله، وأعطاهم،وحباهم طاقة كبرى من الصّبر، والجَلد، والأناة، والتحمّل، والتمرّس، والمواجهة، والمقاومة، والتحدّى، والإصرار ما لا نظير له.
فقد عملت الصّهيونية العالمية منذ إبعادهم واقتلاعهم، وإقصائهم من بلدهم عام 1947 بلا كلل، ولا ملل، وبدون هوادة من أجل القضاء ليس فقط على هذا الشّعب واستئصاله من جذوره، وطمس شخصيّته، واجتثاث هويّته، ومحو كلّ أثر له، بل إنّهم حاولوا محو حتى جغرافيته وتضاريسها، وتاريخه، وتراثه في حملات متوالية باستعمال مختلف ضروب الحيل والأكاذيب، والدسائس، والخسائس، والمكر، والمكائد لتحقيق هذه الغايات الدنيئة. ثمّ انطلقت الثروات والانتفاضات والمواجهات الواحدة تلو الأخرى، حيث طفق هذا الشّعب فى كتابة صفحات جديدة من تاريخه النضالي الحديث، حاملاً السلاح فى المقام الأوّل ثمّ رمزَ كفاحه وثورته الكوفية الفلسطينية المرقّطة، أو المنديل الفلسطيني المميّز وأغصان الزيتون، وأعاد إحياء هويّته وجذوره، ذاكرته التاريخية، والثقافية، والتراثية الجماعية من تحت الأرض والأنقاض.
الأبطال الفلسطينيون الشّهداء ما زالوا يروون ثرى أرضهم الفيحاء، وما فتئت الآلة الحربية الإسرائيلية تقتّل وتنكّل بهذا الشعب بدون رحمة ولا شفقة، وتزجّ بأبنائه وبأحفاده في غياهب وظلمات جحيم السّجون الإسرائيلية، ليُحْرَمُوا ليس فقط نعمة صلة الرّحم مع ذويهم، وأهاليهم، وأقربائهم، بل ليُحْرَموا كذلك من القوت اليومي لسدّ رمقهم ورمق بنيهم وأهاليهم، وما انفكّت الأنفس تتنفّس الصّعداء، وتعدّ العدّة للمراحل القادمة من كفاح هذا الشعب، وما برحت ألسنة اللّهب تتصاعد، وأعمدة الدخان تتعالى فى كلّ مكان.. إنّهم يستشهدون من أجل بلادهم لأنّهم صادقون في حبّهم لها.
المسألة مسألة بقاء أو لا بقاء
الأصدقاء، والأشقّاء الأبعدون منهم والأقربون لم يقتنعوا بعد، بأنّ المسألة، مسألة بقاء أو لا بقاء ليس إلاّ، أيّ أن نكون أو لا نكون، إنّهم فقط يذرفون الدّموع حرّى ساخنة، وينزوون بأنفسهم لينظموا كلماتٍ مسجوعةً ومقفاة، مشحونة بالغضب والانتقام.. وتمرّ الأيام، وتتوالى الليالى، وفي رحمها، وزخمها، وخضمّها تتولّد، وتستجدّ الأحداث، وينسوا أو يتناسوا ما فات، المآسي ما زالت تترى وتنثال أمام أعينهم، وعلى مرأى ومسمع منهم، فيشاطرهم العالمُ طوراً أحزانهم، وأحياناً يجافيهم.. ويكتفون بالتفرّج، والتحديق والتصفيق، والتهليل، والتعليل، والتحسّر، والتأثّر بلغة باكية شاكية كئيبة حزينة مذلّة.
ما أكثرَ لوحات الشّرف التي نزهو بها، وتمتلئ بها دورُنا ، وتعلو جدرانَ قصورنا وبيوتاتنا، وما أكثرَ النياشين والأوسمة التي تنمّقُ صدورَنا، وما أكثرَ ما نعود القهقرى لنعانقَ التاريخَ، ونستلهم منه الدروسَ والعبرَ، ونستشفّ منه معنوياتٍ جديدةً لإستئناف مسيرتنا الكسيحة..!
إننا قوم رحماء بغيرنا ،نذوذ عن حوضنا وجيراننا بسلاحنا، ونحن قوم مشهود لنا ومشهورون بالصّفح والتسامح..! رحماء فيما بيننا بالصّغير والكبير، والقويّ والضعيف، معروفون بهذه الثنائية المركبّة التى تجمع بين الجَلد واللين، والبأس والشدّة، والقوّة والرّخاوة، والصّلابة والطراوة.!.
أمّا الآخرون.. فلقد إقتدّت الرّحمةُ من قلوبهم، وكأنّها قلوب صيغت من فولاذ، لا يفرقون بين الصّغير والكبير، إنّهم ينكّلون ويقتلون بدون تمييز، ويسجّل التاريخ عليهم همجيّة “المجازر” ويدوّن لبني طينتنا روعة ورونق المظاهر.. وما إنفكّ العالم يتفرّج بدون اكتراث، وبلا مبالاة!
السّجون الإسرائيلية الرّهيبة لا تعرف معنىً للشّفقة والرّحمة، حيث تضرب إسرائيل عرضَ الحائط بكلّ العهود العالمية، والمواثيق الدّولية ذات الصّلة بحقوق الإنسان أو حقوق “الأسرى” المعترف بها فى كل مكان، ناهيك عن سوء المعاملة التي يُوسمُ بها هؤلاء داخل هذه الدهاليز المظلمة، وتعرّضهم لأقسى وأعتى ضروب التعذيب والتنكيل التي يعانون منها بدون انقطاع، ممّا أدّي ببعضهم إلى الاستشهاد داخل هذه الأقبية السّوداء المعتمة، وما إنفكّت براكين الغضب الفلسطينية الهادرة تقذف حِمَمَها ولهيبها إلى السماء، والمطالبة بالردود الحاسمة على هذه الجرائم الآثمة، وسواها من التجاوزات الخطيرة التي تقترفها السّلطات الإسرائيلية بدون خجل أو وجل، ممّا ينذر بقرب إنطلاق مواجهات جديدة صاخبة التي يحسبُ لها الخصمُ العنيدُ والعنيف ألف حساب.
التصالح والتسامح
ستة وسبعون حولاً، مرّت على أمّ النكبات.. وما زلنا نستّذر، عطفَ العالم ونسْتَجْدي رحمته، ونصف له فداحةَ الأهوال، وسوءَ الأحوال وقساوة الفظائع التي تُرتكب في حقّنا، إنّنا قومٌ حالمون، ما برحنا مُنشغلين بأمورنا، مُنبهرين مَشدوهين بالأوار المستعر وسط ساحاتنا، ومياديننا، وحول مرابضنا، وأرباضنا، وداخل بيوتاتنا، وأحيائنا، وأفئدتنا. أمّا الآخرون فمنذ أن دنست أقدامُهم أرضَ السّلام، ما انفكّوا يفتكون وينكّلون.
الإخوان الفلسطينيون ما فتئوا يعانون مختلف ضروب التعنّت والتنكيل الإسرائيلي على الأرض فى مختلف المناطق والجهات الفلسطينية، كما أنّهم ما برحوا يعانون الشّقاق الداخلي، والتشرذم، والخلافات، وأمسى التصدّع قاب قوسين أو أدنى من أن يُصيبَ صرحَ الوحدةَ الوطنية المنشودة، وما زال الأمل معقوداً على تحقيق التصالح، والتسامح، والتصافح ، والتقارب والتصافي، وإقصاء التجافي، والتداني، والتفاني، والتفاهم، ورأب الصّدع، واِلتئام الفصائل، والبحث عن البدائل، وتسخير وتفجير كلّ الطاقات، واِستغلال كلّ الخِبْرات، والنبش في الأديم، والثّرىَ، و التراب والتراث…
كلّ يحمل هواجسه على ظهره ويمضي
كلٌّ منّا يحملً صخرته على كاهله ويمضي، صيفنا قائظ مستعر، وخريفنا شاحب مكفهرّ، وشتاؤنا صقيع منهمر، وربيعنا مزهر مزدهر… كلّ يحمل همومه، وقلقه، وهواجسه، ونكده، وضنكه، وأوهامه ، وأثافيه فوق ظهره ويسير، ولا أحد يبالي به، ولا بآلامه ومعاناته، ولا أحد يكترث بأحزانه، وأشجانه، وعذاباته..!
تاريخهم حافل أثيل، وماضيهم تليد مجيد ، وتراثهم زاخر مبهر. إنهم قومٌ كُثر، والكثرة قوّة (!) قالها يوما فارسٌ من حيّهم: لا يسألون أخاهم حين يندبهم / في النائبات إذا قال برهانَا…! وقالها آخر: حشدٌ على الحقّ عيّافُو الخَنَا أنُفٌ /إذا ألمّت بهم مكروهةٌ صَبرُوا….وردّ آخر: وأقسم المجدُ حقّا ألاّ يحالفُهم /حتى يحالفَ بطنَ الرّاحة الشّعرُ.. ! وأردف آخر: تعيّرنا أنّا قليل عديدنا / فقلت لها إنّ الكرامَ قليل…! وبالإضافة لهذه الذخائر، لديهم الأنفة والشّموخ، والسّؤدد، والعزّة والمجد، والأبراج الشّاهقة التي تناطح عنان السّماء، ..ولكنّ أعوادهم هشّة ضعيفة واهية، انطلقوا يتوقون بلا بَوْصَلة ولا هادٍ نحو بطولات وهمية لا طائل تحتها..!
إنهم قوم رحماء بغيرهم، وإن كانت بهم غلظة وفظاظة. مشهود لهم ومشهورون بالصّفح والتسامح، وإن كانت بهم أثَرَة وكبرياء. مع ذلك هم قومٌ رحماء بالصّغار والكبار، معروفون بهذه الثنائية المركّبة التي طالما تغنّى بها شعراؤهم، ونبغاؤهم، وأجدادهم إنهم ما إنفكّوا يقولون: ”هم قومٌ تذيبهم الأعينُ النّجْلُ /على أنهم يذيبُون الحديدَا…طوعُ أيْدى الغرامِ تقتادهم الغيدُ / ويقتادُون في الطّعان الأسودَا… وترانهم يومَ الكريهة أحراراً / و في السِّلمِ للغوانيِ عبيدَا…”!!!
لقد كشفت لهم الأيامُ عن مدى ضعفهم، ووهنهم، وخذلانهم، وخيبتهم، ولزمت الكآبةُ مُحيّانهم، وسكنت الحَسْرةُ قلوبَهم. وعزاؤهم أنّ الحروبَ سجالٌ، والأيّامُ دولٌ… والتقهقرُ دهرٌ، والحضارةُ برهةٌ عابرة..!!
Visited 40 times, 1 visit(s) today