حكايات المقاهي: “المقهى المركزي”.. مهد الحركة الصهيونية (3)

حكايات المقاهي: “المقهى المركزي”.. مهد الحركة الصهيونية (3)

 جورج الراسي

       إذا كانت مقاهي باريس في القرنين التاسع عشر والعشرين غنية بالإبداعات الفنية والحوارات الفكرية، فإن مقاهي وسط أوروبا كانت تغلي بالصراعات السياسية، وعلى وجه الخصوص أبرز مقاهي فيينا: “المقهى المركزي  Le Café Central الذي جرى افتتاحه عام 1876.

أفضل وصف له جاء على لسان الكاتب النمساوي Stefan Zweig الذي كتب يقول: “مقاهي فيننا تشكل مؤسسة من نوع خاص، لا يمكن مقارنتها مع أي مؤسسة أخرى من هذا النوع في العالم، إنها منتديات ديمقراطية مفتوحة أمام الجميع بسعر زهيد لفنجان القهوة، مع إمكانية أي ضيف ان يبقى لساعات وهو يناقش أو يكتب أو يلعب الورق أو حتى تلفي المراسلات، وفوق هذا كله مراجعة عدد لا محدود من الصحف والمجلات“.

ويضيف Zweig قائلا: “في قهوة محترمة من مقاهي فيننا لا تجد الصحف النمساوية وحدها فقط، بل كذلك كل صحف الإمبراطورية الألمانية والصحف الفرنسية والإنكليزية والإيطالية والأميركية. إضافة إلى اهم مجلات الفن والموضة الصادرة في العالم بأسره”.

حين لا أكون في المقهى المركزي.. أكون حتما في طريقي إليه

    عام 1900 كنت ترى الكاتب Arthur Schnitzler يضع اللمسات الأخيرة على رواية Le Lieutenant Gustav، التي أثارت جدلا واسعا في ذلك الوقت، وهي تحكي قصة ضابط تشاجر مع فران – يبيع الخبز – في قاعة الأوبرا، لسبب تافه، انتهت بدعوة إلى المبارزة. كيف يمكن لضابط رفيع أن يتبارز مع خباز مسكين لإنقاذ شرفه العسكري؟..

قرر الضابط الانتحار للتخلص من تلك الورطة ومن الفضيحة التي ستنشأ عنها… لم تغمض عيناه في تلك الليلة وهو هائم في المدينة حتى انتهى به الأمر لاجئا في أحد المقاهي يعيش آخر لحظات حياته..

وما أن بزغ الفجر واقتربت ساعة المبارزة حتى جاء النادل يخبره بأن الخباز توفي

تخلص الضابط من تلك الورطة، لكنه لم ينج من غضب المؤسسة العسكرية التي ينتمي إليها، فنزعت عنه محكمة عسكرية رتبته كضابط احتياط بسبب “إلحاقه الأذى بشرف الجيش“…

تلك كانت أجواء فيننا في مطلع القرن العشرين

أما الكاتب Peter Altenberg فقد جعل شعاره: “عندما لا أكون في المقهى المركزي.. أكون حتما في طريقي إليه..!”. فقد جعل من ذلك المقهى بيته الثاني، تماما كحكاية جان – بول سارتر مع مقهى Le Flore في باريس

أضف إلى ذلك أن مقهى العاصمة النمساوية كان يعمل كذلك كصندوق بريد” لأفضل زبائنه، (بعض مقاهي بيروت وبعض العواصم العربية تؤدي نفس الخدمات…)، وقد أبدع ذلك الكاتب في التعبير عن أجواء تلك المرحلة، وفي وصف “الأشياء المرئية“…

لكن موضوع الساعة كان في مكان آخر: احتلال البوسنة والهرسك – La Bosnie et l’ Herzegovin من طرف الإمبراطور François- Joseph بمناسبة العيد الستين لتربعه على العرش، وكانت المقاطعتان تحت آدارة النمسا منذ ثلاثين عاما لكنها كانتا نظريا جزءا من الإمبراطورية العثمانية.

ما لبثت روسيا أن تحركت لدعم السلطنة (ومصالحها طبعا)، لكن Saint- Pétersbourg فضلت التراجع أمام إنذار برلين حليفة النمسا، وتهديدات باريس.

تروتسكي.. ستالين… هتلر..وتيتو…!

أحد رواد المقهى ذاع صيته كلاعب شطرنج متمكن. اسمه: Lev Bronstein، من مواليد الإمبراطورية الروسية. مثقف، يضع نظارتين رفيعتين، معارض لحكم القيصر يعيش في المنفى.

لاحظ الجميع أنه غالبا ما يكتب في المقهى مقالات لجريدة سرية نصف شهرية أسسها في فيينا عام 1908، ويتم توزيعها من تحت المعطف في الإمبراطورية الروسية.. اسمها La Pravda. والشخص المعني كان: ليون تروتسكي

في 15 يناير / كانون الثاني 1913 التقى تروتسكي للمرة الأولى بالمدعو Iossif Djougachvili الملقب بـ Staline في المقهى المركزي في فيننا…!

يقول المؤرخون إنه كان موجودا في العاصمة النمساوية بطريق الصدفة“، هائم على وجهه تماما، كألماني آخر يدعى أدولف هتلر ، وعامل كرواتي يعمل في مصانع Daimler للسيارات، عرف فيما بعد أن اسمه Josip Broz…ولقبه Tito…!

تصوروا: تروتسكي، وستالين، وهتلر، وجوزيف بروز تيتو .. في نفس المقهى في فيننا…!!!

و هرزل أيضا.. !

أحد رواد ذلك المقهى كان رجلا صارما، صاحب لحية كثيفة، يجلس في أحد الزوايا منفردا.. بعيدا عن القاعة المخصصة للعب البيليار… هو رئيس تحرير الصفحات الأدبية في يومية فيننا الأولى: La Neue Freie Presse. اسمه: Theodor Herzel، مؤسس الصهيونية…!

بين عامي 1891 و 1895 كان مراسلا في باريس ونشر متابعات حول حياة الجمهورية الثالثة الفرنسية، صدرت في كتاب ترجم إلى الفرنسيةهو أول من نادى بتأسيس دولة لليهود.

عام 1895 عايش عن قرب مسألة الكابتن اليهودي Dreyfus،  و الحكم الصادر بحقه بتجريده من رتبتهثم عايش صعود “معاداة السامية” – القصة قديمةفي الامبراطورية، وفي عاصمتها على وجه الخصوص.

عندما عاد إلى فيننا في العام التالي، أصدر كتيبا صغيرا بعنوان دولة اليهود البحث عن جواب حديث للمسألة اليهودية“..

وكان هذا الكتاب بمثابة برنامج عمل دقيق و صارم.

بمجرد نشر هذا الكتاب – البرنامج دب الذعر في أوساط البورجوازية اليهودية التي كانت مندمجة تماما في المجتمع النمساوي، والتي كانت ترتاد المقهى المركزي”… بخاصة وأن الإمبراطور فرانسوا- جوزيف كان قد أعطى اليهود حقوق المواطنة الكاملة..

أولئك اليهود كانوا أول من أعلن “إن الصهيونية وهم خطير“.

في حين كان أول من تحمس لها فقراء مقاطعة Galicie، ويهود الإمبراطورية الروسية الذين كانوا يتعرضون للإضطهاد

وكانت النتيجة أننا دفعنا الثمن… وما زلنا ندفع

موت وحياة المقهى المركزي

    لقد تمكن المقهى المركزي” من تجاوز قطوع الحرب العالمية الأولى وتقسيم الإمبراطورية قبل الضم والـ Anschluss عام 1938، ثم أهوال الحرب الثانية، حيث أن المبنى تضرر من جراء عمليات القصف… فاضطر المقهى أن يغلق أبوابه عام 1945، بعد الخراب الذي لحق بعاصمة سلالة Habsbourg التي وقعت تحت الاحتلال. وقد أعاد فيلم Le Troisième Homme (الرجل الثالث) الصادر عام 1949 للمخرج Carol Reed إحياء تلك المأساة في أماكن وقوعها، وفق سيناريو كتبه Graham Green. 

عام 1975 أعيد ترميم المبنى، وعاد المقهى إلى الحياة، وبقيت صور الإمبراطور فرانسوا – جوزيف والامبراطورة سيسي معلقة على الجدران إرضاء للسياح.

Visited 40 times, 1 visit(s) today
شارك الموضوع

جورج الراسي

صحفي وكاتب لبناني