نحن والاحتفالية والاختيار المتبادل
د. عبد الكريم برشيد
فاتحة الكلام
نحن الاحتفاليين من نكون؟ ومن أين جئنا؟ وبماذا جئنا الناس؟
(بما مضى أم لأمر فيه تجديد) كما يقول عمنا المتنبي رضي الله عنه؟
بالتأكيد نحن جئنا الناس بشيء مما مضى. وأيضا، بأمر كثير فيه جديد، وفيه تجدد، وفيه تجديد، وفيه صدق ومصداقية وفيه حياة وحيوية.
وفي الجواب على كل هذه التساؤلات نقول ما يلي:
نحن الاحتفاليين فقط، عشاق المسرح في الحياة، ونحن عشاق الحياة في المسرح، ولقد جئنا من كوكب يسمى الأرض، ومن تربة هذه الأرض خرجنا الى الوجود، ونحن في هذا المسرح – الحياة لا ندعي بأننا نحن المسرح، وأن المسرح هو نحن، كما تقول كثير من التجارب والاجتهادات، ولا نقول أيضا، ولا نكتب بأننا نحن في هذا المسرح أسياد المسرح، وبأننا احسن من غيرنا، ونعرف أن هذه الحياة التي نحياها معا ليست حلبة سباق، وما هي إلا ساعات ولحظات طائرة ومسافرة، وأجمل الساعات هي تلك التي يحضر فيها الحضور، ويغيب فيها الغياب، والتي تكون ساعات للتعييد السعيد، ونحن نؤكد على هذا التعدد انطلاقا من وعينا الذي يؤمن بالتكامل ولا يؤمن بالإقصاء.
ونحن نؤمن بأن الفضاء الاحتفالي هو فضاء بلا حدود، وبأنه غير نهائي وغير مغلق، ونعتبر كل المواطنين في مملكة مولانا المسرح سواسية، وكلنا فيه إخوة، ونؤكد دائما على أن أخوة المسرح الروحية أكير وأخطر من أخوة الدم، ونعتبر أن العيش اليومي طريق، ونعتبر كل كن يمشي معنا وإلى جانبنا رفيق في هذا الطريق.
ونحن فعلا في هذه الاحتفالية نتأمل ونفكر، بالقدر الذي نستطيع طبعا، ونحن نبحث فيها، ونجتهد فيها، أملا في الوصول إليها في يوم من الأيام، ولنا في هذه الاحتفالية منظومة فكرية متكاملة، ولكنها أبدا غير كاملة وغير تامة وغير نهأئية، ونعتبرها مجرد مشروع فكري وعلمي وجمالي فقط، هي مشروع جاد وجديد ومتجدد، مفتوح بشكل متواصل على كل الممكنات والاحتمالات، وعلى كل الاكتشافات التي قد تأتي أو قد لا تأتي، ونحن في مختبراتنا الميدانية وفي أوراشنا الفكرية والحمالية لا ندعي ولا نزعم أبدا بأننا قد بلغنا سدرة المنتهى، ولم يخطر في بالنا يوما أن أفكارنا وحدها هي الأجمل وهي الأصدق وهي الأكمل من غيرها، ونحن في هذا الوجود نؤمن بالحق في الوجود، ونؤمن بالحق في الاختلاف، ونؤمن بأن الغنى موجود في الكثرة وفي الوفرة وفي التعدد، ونؤكد دائما على أن وجود هذه الاحتفالية لا يلغي ولا يصار ولا يلغي وجود المشاريع الأخرى والاجتهادات، بل هو يعززها ويكملها، ويضيف إليها إضافات عقول أخرى وإضافات نفوس أخرى وإضافات أرواح أخرى، ونحن نؤمن بأنه لا وجود لتجربة وجودية يمكن أن تكون هي وحدها الأحق بالوجود في هذا الوجود، لأننا نؤمن، إيمانا صادقا، بأن هذه الاحتفالية، وفي أحد معانيها العديدة، هي العلاقة داخل شبكة واسعة من العلاقات، وهي تؤكد أساسا على العلاقة الإنسانية الصادقة أولا، وعلى أن تكون هذه العلاقة في درجة الصدق والمصداقية، وفي درجة الوضوح والشفافية، وفي درجة الحق والحقيقة، ونعرف أن العلاقة لا معنى لها بغير وجود التعدد والاختلاف، وبدون وجود الأنا والأنت، وبدون وجود النحن والآخرون. وبدون وجود المكان المشترك الذي يجمعنا، وبدون وجود اللحظة الزمنية التي نلتقي فيها، وبدون القضية الواحدة التي تجمعنا ونجتمع حولها، وبدون وجود الأسئلة التي نواجهها وتتحدانا، والتي نتحدى بها مسائل الحياة وقضايا الوجود.
عن الاختيار والحق في الاختيار
وأول درجة في هذه الاحتفالية هي درجة الاختيار، ولا شيء أصدق ولا أصعب في هذه الحياة من فعل الاختيار، ولقد كان من الممكن أن نكون عبثيين، ولكننا لم نكن، كما كان من الممكن أن نكون فوضويين، ولكننا اخترنا النظام وجماليات النظام، واخترنا العقل والعقلانية، كما كان من الممكن أن نكون ماتميين، ولكننا اخترنا الفرح والبهجة في الحياة، ولم نختر المأتم الجنائزي، كما كان من الممكن أن نكون عدميين وظلاميبن، ولكننا اخترنا الوجود، بكل ألوانه وأشكاله وتناقضاته وسلبياته وإيجابياته المتعددة والمتنوعة، وأمام كل الاختيارات المتعددة والمتنوعة اخترنا نحن اختيارا واحدا ووحيدا، والذي هو الاحتفال والاحتفالية وهو العيد والتعييد وهو العيدية.
وفي الجزء الثاني من كتاب (التيار الاحتفالي في المسرح العربي الحديث)، والذي أعطيناه اسم (الاحتفالية في التاريخ والتاريخ في الاحتفالية)، يقول الاحتفالي الكاتب:
(وأول الكلام في هذه الاحتفالية هو التأكيد على أنها أساسا اختيار حر، وعلى أن فعل هذا الاختيار ليس بريئا، وليس فعلا بلا معنى، وذلك لأن طبيعة فعل الاختيار تكشف عن طبيعة الفاعل المختار، وكما تكون اختياراتنا نكون نحن مثلها، فالجميل يختار الجمال، وعاشق العلم يختار العلم، ومحب الحكمة يختار الحكمة، وفي هذا المعنى يقول الشيخ محمد عبدو (قد عرفناك باختيارك، إذ كان دليلا على النبيه اختياره)، وبهذا نقول بأن أول درجة في سلم الاحتفالية هو سلم الاختيار، أي اختيار الحياة والحوية، واختيار الإنسان والإنسانية، واختيار المدينة والمدنية، واختيار الجمال والجمالية، واختيار الحق والحقيقة، واختيار البهجة والفرح، واختيار العيد والاحتفال، واختيار الاستقلال والاستقلالية، واختيار الحضور والتلاقي، واختيار الحرية والتحرر، واختيار الفن الذي يجمل الحياة اليومية، ويجمل الواقع والوقائع، ويعيد للأيام العادية عنصر الإدهاش فيها.
وفعل الاختيار هو بالتأكيد حق مشروع للجميع، وبهذا فهو ليس جريمة، ولقد مارسه الاحتفاليون عنقناعة فكرية، إيمانا منهم بأنه عنوانهم في دنيا الوجود، وأنه هويتهم وبصمتهم المتميزة في الحياة).
اختيار احتفالية مركبة لعالم مركب
وهذه الاحتفالية، ولحد هذا اليوم، مازالت في بداية الطريق، ومازلت في درجة التأسيس الجديد والمتجدد، وهي لا تتوقف عن لحظة عن نسج الأحلام الجديدة، ولا عن الإدهاش والاندهاش، ولا عن فعل التمني المشروع، ولا عن السعي السيزيفي لتحقيق الأماني الكبيرة والخطيرة، وهي تؤمن بأن كل ما يتمناه المرء قد يدركه، إن لم يكن ذلك في هذا اليوم، ففي يوم من الأيام، والمهم هو الجرأة وهو الإصرار وهو التحدي وهو التصدي، ومع ذلك فقد ننخدع في بعض الحالات، ونظن أن كل ما كل ما نره أمامنا حقيقة، مع أنه قد لا يكون كذلك، وقد يجد الإنسان نفسه، وهو يطلب الاحتفال العيدي، في لحظة مأتمية، وهو يعتقد أنها لحظة عيدية، والفرق بين الاحتفال العيدي والطقس الماتمي شعرة دقيقة جدا، وقد تجد نفسك تضحك ضحكا كالبكاء، أو تبكي بكاء كالضحك، وهذا هو ما يجعل الاحتفالي يكتب مسرحيات حرة ومحايدة، من غير أن يقول إن كانت هي مأساة أو كانت ملهاة، وهذا ما يجعله متفائلا في التشاؤم.. ومتشائما في التفاؤل، وأن يرى الحياة بكل الألوان الكائنة والممكنة، وليس بلونين اثنين فقط، هما الأبيض والأسود.
والاحتفالية أساسا حرية، وهي لا تفرض على الجمهور الحر أن يضحك، ولا تلزمه بأن يحزن، ولا تملي على الناس اختياراتهم، ولا تؤمن بوجود شيء في الحياة يمكن أن يكون مأساويا كله، أو يكون ملهاويا كله، ونحن في الاحتفال نعيش اللحظة الحية بكل حالاتها وبكل مقدمتها وبكل ألوانها وتناقضاتها المختلفة.
والمسرح أساسا هو فن مركب، وهو علم مضاعف، وفيه نعيش ونحيا الحالات الوجدانية المركبة والمضاعفة، وكل حالة في الفعل الاحتفالي تحمل مضاعفها فيها، وكل فعل يحمل ما يناقضه داخله. وكل حوار يحمل ما يخالفه فيه، وبغير هذا فهل كان المسرح هو هذا المسرح الذي نعرف اليوم؟
وهل كان سيكون بهذا الغموض وبهذا السحر وبهذه الجاذبية وبهذه الشفافية وبهذه الزئبقية وهذه الانسيابية التي عرف بها عبر التاريخ؟
الاحتفالية: من يراها ومن لا يمكن أن يراها
وهذه الاحتفالية يمكن أن نراها، كما يمكن أن لا نراها، لأن العشق هو وحده قانون المعرفة، وما نحب أن نعرفه لابد أن نعرفه، وفي هذا المعنى يقول الاحتفالي بأن العين التي تحب الاحتفالية وتعشقها، هي وحدها التي يمكن أن تراها، وهي وحدها التي يمكن أن تتجلى لها هذه الاحتفالية، وهي التي يمكن أن تتكشف لها.
ونحن في هذا الاحتفال نوجد ونكون، ومن عرف الاحتفالية غقد عرفنا. ومن عرفنا لابد أن يعرف شيئا، قليلا أو كثيرا، عن هذه الاحتفالية، والتي لها حياة واحدة، ولكن لها أعمار وأسفار متعددة، ومن عرف الاحتفالية فإنه لابد أن يعرف جوهر المسرح وروح المسرح، ولا وجود لمسرح بدون احتفالية وعيدية، ومن حق أي واحد منا أن يقول اليوم وغدا وفي كل يوم ما يلي:
— انا حاضر في الاحتفال، إذن فأنا كائن وموجود.
والحضور الاحتفالي في الزمن الاحتفالي وفي السياق الاحتفالي، هو دائما حضور كامل وشامل، ولا معنى لأن تحضر الأجساد وحدها في احتفال عيدي يخاطب الأجساد وحدها، ولا يخاطب النفوس والعقول، ولا يخاطب الارواح الحية، ولأننا نحب فقد أحببنا الاحتفال في المسرح، وعشقنا المسرح في الحياة.
وفي هذا الحضور لا مكان للغياب ولا للغائبين ولا للمغيبين، لأن أعمارنا هي مجرد لحظات متتابعة ومتسارعة، ومن تغيب عن الحضور في الموعد العيدي المحدد، فإنه لابد أن يفقد لحظات جميلة من عمره، وقد يفقد عمره كله وهو لا يدري، لأن قطار الزمن لا ينتظر احدا، وهو يمضي إلى الأمام دائما، ولا يمكن أن يرجع إلى الخلف، وبخصوص السادة المتخلفين عن ركب الأيام والليالي المتحركة، يقول الكاتب الاحتفالي في خاتمة كتاب (الاحتفالية وهزات العصر ) ما يلي:
(إن الزمن الاحتفالي هو زمن المصالحة.. مصالحة الذات مع (أناها) ومصالحة هذه الذات السليمة والسوية مع (النحن) ومصالحة هذه النحن مع (الآخر) إن الألفية الجديدة هي ألفية التلاقي، وتخشى الاحتفالية أن يتحول هذا التلاقي إلى التلقي، وأن يكون لهذا التلقي معنى التلقين، وأن يكون أحد الطرفين فيه فاعلا ومؤثرا ومبدعا ومغيرا ومصدرا ومخططا، وأن يقتصر دور الطرف الثاني على التفرج والتاثر، وعلى الاستهلاك واستيراد الجاهز والمعلب والمفبرك، المفبرك في الصناعة والفن والفكر والسياسة والاقتصاد، وأن يكون هذا الإنسان- الذي ضيع إنسانيته -أرقاما بلا دلالة وبلا معنى، وذلك في الحسابات الجديدة).
ومثل هذا اللقاء قد يكون في كثير من الأحيان صادقا. وقد يكون كاذبا ايضا، وقد تجد نفسك في مهرجان الحياة اليومية خارج اللقاء، أو على هامشه.. وأنت لا تدري أو لا تريد أن تدري..
الاحتفالي والاحتفالية في طريق العشق
وفي آخر هذا النفس من هذه الكتابة نقول ما يلي:
نحن اخترنا هذه الاحتفالية، عن عشق صوفي واقتناع عقلي، وسوف نكون أسعد كل السعداء يوم نعرف أن هذه الاحتفالية قد اختارتنا هي ايضأ، وأنها اصطفتنا دون غيرنا، وذلك من أجل أن نكون أحبابها وعشاقها، ومن أجل أن ننطق بلسلنها، وأن ننشر فلسفتها العيدية القائمة على المحبة والبهجة والفرح.
ويؤمن الاحتفالي أن اصدق الحب هو ما كان متبادلا. وأن أتعس الحب هو ما كان من جانب واحد فقط، ونعرف أن طريق الحب الصادق ليس طريقا واحدا، ولكنه طريقان اثنان، أحدهما يذهب منا إلى الآخر، والثاني يأتي من ذلك الآخر إلينا، وأعتقد أن هذه الاحتفالية لم تخترنا وحدنا، ولكنها اختارت معنا أو قبلنا هذا الوطن، والذي يسمى المغرب، والذي هو اسم له علاقة بالشمس بشكل عام، وبشمس الحرية الجسدية والعقلية بشكل خاص، ولقد اختارت الاحتفالية في هذا المغرب مناخه الثقافي بكل تأكيد، واختارت تاريخه الحضاري أيضا، واختارت واقعه السياسي القائم على التعايش والتسامح، وعلى التعدد والتنوع، وعلى الجوار والحوار ، وعلى اللقاء والتلاقي، واختارت حريته وحيويته مع حياته ومدنيته وانفتاحه، والتي تتوافق مع المبدئين الأساسيين في الاحتفالية وهما: (التعبير الحر للإنسان الحر في المجتمع الحر)، و(إنسانية الإنسان وحيوية وممدية المدينة).
ولو كانت هذه الاحتفالية (موجودة) في مجتمع عسكري، غير مدني وغير إنساني وغير حر، فهل كان من الممكن أن تقوم لهذه الاحتفالية قائمة؟
إن الفن الصادق، تماما كما الفكر الصادق، لا يمكن أن يعيش وأن يزدهر في الثكنات العسكرية المغلقة، ولكن في المدن المتمدنة والحضارية، والمفتوحة على الإضافات وعلى المقترحات وعلى الاجتهادات الجديدة والمجددة.
ولكل هذا يحق لنا أن نقول ما يلي:
نحن اخترنا الاحتفالية والاحتفالية اختارتنا، هذا بالإضافة إلى أن الظرف التاريخي، لما بعد الحربين العالميين ولما بعد النكسة العربية، ولما بعد تحرر كثير من دول العالم الثالث، قد اختارنا أيضا، من اجل أن نقول الكلمة التي ينبغي أن تقال، ومن أجل أن نعطي لهذا المنعطف التاريخي مسرحه الذي يشبهه، والذي يليق به.
Visited 25 times, 1 visit(s) today