بهلوانية التنمية

بهلوانية التنمية

 زبيدة بورحيل

 ساعدتني فاطمة  أخت  زبيدة  بورحيل، على الاطلاع على مقال قيم، يعود تاريخ كتابته إلى شهر مارس  1988،  عثرت عليه ضمن  أوراق أختها، فاستحسنت قراءته ورغبت أن يتقاسمه معي القراء.  وهو مقال من ضمن مقالات كثيرة  لم يتيسر لها النشر للكاتبة والباحثة السويولوجية  زبيدة بورحيل،  التي تقيم حاليا بمدينة فينيكس بأريزونا  في الولايات المتحدة الأمريكية. وقد أعادت الأستاذة بورحيل نسخه ومراجعته.(لطيفة حليم)   

كثر الحديث في السنوات الأخيرة عن التنمية والتعاون في بلدان العالم الثالث، وتعددت الوكالات المختصة في هذا المجال كمنظمات تابعة للأمم المتحدة، أو كمؤسسات أنشأتها دول العالم المتقدم لإيجاد إطار قانوني لممارسة نشاطها. وخلف كل ذلك نلمس نصائح وتوجيهات البنك العالمي وصندوق النقد الدولي. وأصبحت تلك المنظمات والمؤسسات تشارك في قطاعات متعددة من النشاط الاقتصادي والاجتماعي في بلدان العالم الثالث، وتعددت اتفاقيات التعاون والتنمية. كما يلاحظ أنها تتوجه في غالب الأحيان إلى  قطاع المرأة  والعالم القروي على أساس أن هذين القطاعين في حاجة إلى اهتمام أكبر.

غير أن باب التساؤل يظل مشرعا بسبب قلة المعلومات أو بسبب عدم توصيلها إلى الرأي العام لمعرفة ما يتم فعلا، ولمعرفة ما هي خلفيات تلك البرامج المقترحة من طرف الوكالات أو المنظمات التابعة للأمم المتحدة ولفائدة من تتوجه داخل كل بلد. ولدي هنا بعض الملاحظات أود أن اشارك القراء فيها : 

1- إن التخطيطات في قاعة الاجتماعات أو في وكالات التنمية والتعاون بشكل عام أو فيما يخص قطاعي المرأة والعالم القروي، يظل مجالا يستحق كل استجلاء وتنوير الرأي العام به. فلا يكفي أن تكون  القرارات صادرة عن المنظمات التابعة للأمم المتحدة أو الوكالات حتى تكون لها صفة الريادة والنزاهة، وعلى الجميع الأخذ بها.  فمن ناحية كلنا لنا إلمام بكيف تتكون المنظمات التابعة للأمم المتحدة، ونسبة الموظفين بها من كل بلد منتم إلى هيئة الأمم المتحدة والتي هي دائما نسبة مرتفعة حسب قوة الدولة وحسب القسط المالي المفروض عليها تأديته للهيئة وللمنظمات التابعة لها. ويتضح لنا بالتالي ضعف نسبة الموظفين المنتمين إلى بلدان العالم الثالث من ناحية، ونسبة  النساء العاملات بالمنظمات وخاصة الموكول إليهن مسؤوليات التقرير، وبالتالي فالقرارات والبرامج المخططة تفتقد إلى نسبة عادلة في مشاركة بلدان العالم الثالث، ومشاركة المرأة بوجه عام.

أما وكالات التعاون والتنمية فغالبا ما يتم الاتفاق فيها بين بلد من عالم متقدم وبلد  من عالم ثالث، وتكون علاقة المانح والممنوح، فقاعدة التعامل أساسا ليس فيها أية ندية رغم التظاهر بها. وقد علمتنا متابعة الأخبار بأن لا شيء يمنح لمجرد سواد العيون حسب التعبير العربي الشهير.

 2- إن هناك نوع من التعمية والتغافل والاستغفال أو على الأقل، سوء الرؤية حين نتكلم عن التنمية والتعاون. فأية تنمية نتحدث عنها؟ التنمية التي ظهرت في الغرب وكسرت أواصر القرابة  وحطمت وشائج الأسر ووضعت قيما تبعد الإنسان عن الإنسانية؟ التنمية التي أدت إلى كثرة المصابين بالأمراض العقلية والنفسية. التنمية التي تسببت في ازدياد عدد حالات السرطاتنية بكل أنواعه ودرجاته. تنمية التغذية الكيميائية التي تهدم خلايا الجسم بدل تجديدها . تنمية تغذية المعلبات والآلات الكهربائية؟  تنمية الزراعات المغطاة وإغراقها في منتجات  الأسمدة الكيميائية؟ تنمية تلويث البيئة بالسموم الناجمة عن النفايات  الصناعية أو انفجار المولدات النووية؟ تنمية تأجير الأراضي لدفن النفايات الصناعية؟ في الأراضي التي تملك أية قنبلة نووية -مصر مثلا- وبين سكان  بعيدين عن عالم الذرة، كل ذلك تحت عنوان العلمية والفاعلية والمردودية والحصول على العملة الصعبة.

3- إن الأدبيات المنشورة حول موضوع التنمية والتي تأخذ أحيانا اسم التعاون كزيادة في التمويه، تقوم على أساس تقديم التنمية أو فهمها كبعد اقتصادي بحت. فرغم إلحاحها على أهمية العنصر البشري يظل ذلك الإلحاح سطحيا ينفصل عن قوة هذا العنصر كمنتج في معناه الواسع، كطاقة خلاقة يظل في مستوى مسمار لا قيمة له إلا ضمن رتاجات الإنتاج فقط في معناه الاقتصادي البحث.

وهذا إلحاح يذكرنا بحركة تحرير العبيد في أمريكا اللاتينية. تحرروا من العبودية للوقوع في عبودية الأجور في نظام العمل المأجور. أي في شكل من أشكال البغاء. البغاء يعرف بأنه بيع جسد المرأة مقابل متعة. التعريف لا يضيف “متعة للرجل” كذلك في نظام الأجور. الرجل يبيع قوة جسمه لرجل آخر الجسم هنا يباع ويشترى في نظام البغاء أو في نظام الأجور. الأساس هو القوة الجسمية في الحالتين: فالبغاء لا يمارس مع جسم مريض واهن كذلك العمل لا يشترى من شخص لا يملك قوة الساعدين.

إن نظرة بسيطة على موضوع الأجور، لا فقط في العالم  الثالث، بل حتى في العالم المسمى بمتقدم، ينكشف لنا أن الكل يعاني من عدم ملامة الأجور للعمل المبذول، ولمواجهة غلاء المعيشة، فعقلية الاستعباد ما زالت مندسة في كل العقليات. فحين يود صاحب العمل – فرد أو دولة- بيع سلعته فهو يطالب بأقصى سعر. وحين يود شراء سلعة العمل فهو يعطي أقل سعر. يبحث دائما عن “أقل تكلفة “، يضبط هذه القلة في سعر العمالة، لأن المواد أو العناصر الإنتاجية الأخرى غالبا ما تخرج عن ضبطه. ثم إن المواد ينمو سعرها حسب متوالية هندسية  والعمل ينمو سعره حسب  متوالية حسابية.  يساهم في هذا نمو السكان  بمتوالية هندسية  وفرص العمل بمتوالية حسابية.  لا يسعنا إلا أن نترحم بإجلال على روح مالتس.

4- إن التنمية والتعاون التي ينادي بها الكل ليس فيها لا نمو ولا تعاون. هي فيها تحويل جذري  وفي أحسن الحالات تعديل وتحوير. هي دعوة إلى أن يمارس الرجل والمرأة فعاليات لم تكونا يمارسانها. ليس لهما حق الاختيار فيها. 

  فمن ناحية  نلاحظ أن الدول المتقدمة تنادي بتنمية دول العالم الثالث، ولم تكن تنادي بها حين كانت تستعمر راضيه وتستخلص منها ما في الباطن وما في الظاهر. وحين أرهقتها حركات التحرر فكت قبضتها ومنحت الاستقالات بعد أن أريقت لإدماء الطاهرة لأبناء تلك الشعوب، التي تسمى اليوم العالم الثالث. وتلك البلاد المتقدمة لم  تكن من الغباء حتى تنسحب نهائيا،  بل دخلت من باب آخر دون تكاليف مالية هذه المرة، وهو ما عرف بالاستعمار الجديد. ولأن الرأسمالية الغربية متفتحة وبعيدة النظر فقد انتبهت إلى أن هذه البلدان لا بد أن تغير نمط عيشها وتصبح مستهلكا من نوع جديد، لا مستهلكا للبضائع اليومية فقط بل مستهلكا  للمشاريع والمصانع التي استغنت عنها في حركة تطورها التكنولوجي الحديث. استغنت من الآلات القديمة ولا داعي لتفكيكها أو الإلقاء بها في مستودعات الحديد بل يجب تصديرها إلى البلاد النامية،  لأنها ما زالت في بداية طريق استهلاك التكنولوجيا، أما إنتاجها فلا مجال للحديث عنه كفكرة. ولأن هذا الاستهلال يتطلب مستوى معنيا من المعرفة التقنية والعلمية فلا بد من تكوين أفراد يستطيعون استيعابها، وقبل ذلك يجب خلق الحاجة إليها أولا وبذلك فالتنمية ضرورية.

هذا من جهة  ومن جهة أخرى فهي لم تعد في حاجة إلى أيدي عاملة لأنها تواصل حركة تعميم علوم  الإعلاميات في جميع المجالات، هي في مرحلة  الثورة المعلوماتية وتحتاج إلى مهارات وتكوينات من مستوى عال. فالعمال  الأميون الذين كانت تستوردهم  من العالم الثالث  أصبح لا بد أن يتوفروا على مستوى من التعليم والمعرفة حتى يستطيعوا العمل في البيئة كل شيء فيها يسير بالآلات الإلكترونية.

5- دول العالم الثالث في حاجة إلى أفراد يغذون ميزانياتها المضطربة بمداخل ضرائبية تساير تزايد نفقاتها وتعاني من الضغط السكاني  الذي يمتص كل المشاريع. إذ كل زيادة تتطلب زيادة في الغذاء، زيادة في الطرق، زياد في المساكن، في عدد المستشفيات والمدارس.  ويعمق  وضعها الصعب الانغمار في حروب لن نشرح هنا أسبابها بل ما يصدق حولها هو دور شركات صنع الأسلحة في البلاد المتقدمة  تبيعها لدول العالم الثالث بطريق غير مباشر أحيانا  فتزداد حاجتها إلى العملة الصعبة. تدفعها إلى تأجير باطن أراضيها- كما أشرت- لاحتواء النفايات الصادرة عن العالم المتقدم دون تبصر من طرفها ودون أخلاقية من طرف منتجيها.

بالإضافة إلى ذلك دول العالم الثالث تعامل الولادات كأعداد بحته لا كأفراد سيصبحون في ظرف 20 سنة، مواطنين لهم حق الترشح  والانتخاب وحق العمل وحق السكن وحق التمدرس. أما في بعض دول العالم المتقدم نجد أن سجل المواليد يشكل الورقة الأولى في مشاريع التخطيط لا للمستقبل القريب فقط بل للمستقبل البعيد أيضا. فالفرد يدمج في الجماعة قانونيا وسياسيا.. ومنذ يوم ولادته، في جماعة الأسرة، في جماعة الحي، في جماعة المدينة، ثم في جماعة الوطن. أما في الدول النامية لا يحدث الانتباه إلى وجود الفرد إلا حين تخرج الأعداد منه إلى الشوارع في حركة تمرد وعصيان أو شغب. وغالبا حين تنصاع  تلك الدول

لتوصيات هيآت البنك الدولي أو صندوق النقد الدولي التي تضرب عرض الحائط بالجانب الاجتماعي للسكان. فأية تنمية نتحدث عنها؟

6- إدماج المرأة في التنمية ظل موضوعا يشغل حيز الأخبار والنشاطات طبلة العقد الذي خصصته هيئة الأمم المتحدة للمرأة. -التنمية – السلم- المساواة- وأثارت لدي التساؤل هل لم يكن للمرأة دور في التنمية؟ إن الشكل الذي تطرح به التنمية  في هذا القطاع يلغي من منظوره دور المرأة في الوظائف الأساسية المرتبطة بأنوثتها. فإنجاب الأطفال وتربيتهم  و رعايتهم لا يعتبر إنتاجا مع أنه إنتاج مادي ومعنوي.  فأولئك الأطفال هم الذين سيتولون مهمة تسيير الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وبذلك  هو نتاج للقوى البشرية.

وحتى الأسرة ودورها  يتكرر القول أنها هي الخلية الأولى في المجتمع دون وعي حقيقي بما يعني ذلك. إن الجو الأسري المتزن هو الذي يتعلم فيه الفرد واجباته وحقوقه. فإن كان هناك إدماج حقيقي في التنمية هو اعتبار هذه المهمة منتجة وحمايتها بالتشريعات التي تكفل الحق في الوجود ككائن كامل الأهلية  للمرأة والرجل على السواء.

إن كون المرأة ملزمة اليوم بالقيام بأعمال لم تكن جزءا من مهامها المعهودة، لا يعني أبدا أن دورها القديم لم يكن منتجا ولم يكن تنمويا. وكلما اعتبر ذلك الدور غير منتج كلما زادت المرأة في إنتاج الأطفال في الولادة. فعدد الأطفال المرتفع يعطيها قوة -في رأيها- ومركزا اتجاه الأسرة وتجاه المجتمع.

7- المرأة كان لها  دائما دور في الإنتاج  أو ما يسمونه اليوم التنمية. لم تكن فقط الولود والمربية ، بل كانت صانعة ومزارعة  وغير ذلك، أي حسب اختلاف البيئات . وما يعرض عليها اليوم هو إدماجها في مجالات أخرى مغايرة، وهذا لا يعني بداهة تنمية شخصيتها وتفتحها. فإذا كان المطلوب من المرأة أن تقوم بنفس الدور الذي يقوم به الرجل من دور في التنمية في دول العالم الثالث  فحري  بها أن  تتوقف وتعيد النظر مرتين: مرة كامرأة ومرة كإنسان .

فالمقصود من التنمية هي التحويل والتغيير، ولا يجب أن يكون على حسابها كما كان على حساب الرجل. ويجب أن تساهم في إعادة هيكلة الأسرة وهيكلة المجتمع على ضوء موجة التغيير هذه وعلى ضوء ما وكلته لها الطبيعة من مهام  بحيث تكون  هي الدافعة والجاذبة للتنمية الحقة.

8- إن المفارقة الحاصلة الآن هي أن الغرب الذي يمجد الفرد هو الذي يدوسه كفرد وكجماعات. لقد دفع بعجلة حضارته وتقنياته إلى أقصى حد غير أنه انتبه مؤخرا إلى أنه في طريق سيؤدي به إلى الهاوية، وتوقف ليتأمل إلى أين يسير؟ ونحن علينا أن نعرف أين نضع أقدامنا في طريق التطور والتغيير لأنه لم يعد لدينا أي خيار في التراجع وإن تراجعنا أو توقعنا فسوف نفنى. لذلك علينا أن ننتبه إلى ضرورة الإفلات من ما سيلحقه ذلك التطور والتغيير من تحطيم لأجسامنا وتغذيتنا وبيئتنا وعلاقاتنا الاجتماعية. إن أغفل الغرب سلامة التعامل مع حضارته وتكنولوجيته فنحن ما زال لدينا الوقت لأن لا نرتكب نفس أخطائه. إنه يتدارك أخطاءه  على حسابنا، على حساب ثرواتنا وأراضينا  وتراثنا. نحن ليس لدينا الاختيارات مثل التي لديه. هو حين يريد الهروب من تلوثه يأتي إلينا كسائح. حين يحن إلى الشعور بالدفء  الإنساني يأتي لدينا كمتعاون، حين يشتاق إلى رائحة الخبز وطعم البرتقال الطبيعي يندس في بيوتنا وفي أحياء مدننا القديمة. فأية تنمية نريد وأي دور تطالب به المرأة والوطن؟ 

9-إن الشعور بالمشكلة هو أول  خيط لحلها . ويجب أن لا تنطلي علينا لعبة التنمية والتعاون لأن خلفها ركام من الحسابات والإسقاطات ولست  ضد أية تنمية ولكن مع كيف سنحياها،  سننهجها، كيف سنمارسها أم ستمارس علينا . 

وأعتقد أن الميادين التي يجب أن نوجه إليها اهتمامنا هي:

 أن نستفيد من الإنتاج الإنساني في ميدان العلوم بقوة و إلحاح حتى لا نظل على قارعة الطريق، وأن نتعامل مع قضية استيراد التكنولوجيا من منظور لا يوقعنا في إعادة إنتاج السلبيات التي أحدثتها على الحياة النفسية والاجتماعية للأفراد، وأن نهتم بمستوى الاتجاهات والأفكار في المجال الاجتماعي والاقتصادي والايكولوجي وبخصوص هذا الأخير أن نحافظ على بيئتنا الطبيعية، وأن لا نحطمها لأن ذلك سيتلوه حتما تحطيمنا نحن، فكل الكائنات هي جزء من الطبيعة. مشكلة السكان وتكاثرهم بحيث لا يحسبون كأعداء  بل كحيوات  تقوم عليها حياة المجتمع.

إن الكوكب الأرضي أصبح مجرد منطقة من مناطق الكون في الثورة العلمية المعاصرة فلا يجب أن يغيب ذلك عن أذهاننا.

 (مارس 1988)     

   

Visited 26 times, 1 visit(s) today
شارك الموضوع

زبيدة بورحيل

كاتبة وباحثة في علم الاجتماع