الاحتفالية والاحتفاليون.. تلازم وجودي
د. عبد الكريم برشيد
فاتحة الكلام
ما يميز هذه الاحتفالية هو اساسا حياتها وحيويتها، وهو حركيتها وهو حريتها وشفافيتها، وهو قابليتها لأن تكون مختلفة في الشروط وفي الظروف المختلفة، وبهذا فهي كيان ثقافي وجمالي رمزي عابر للثقافات المختلفة وعابر للأزمان المتجددة، وعابر للأجيال التي تتعايش فيها الأفكار والاختيارات، والتي يمكن أن تختلف في الطرق وفي الآليات، من غير أن تختلف في الأهداف وفي الاختيارات الأساسية والمبدئية.
وبخصوص هذه الاحتفالية، العابرة للجغرافيا والتاريخ يقول لي الفنان الاحتفالى السوداني علي مهدي ما يلي:
(سيدي الفاضل المؤسس تسلم حيثما تكون، والاحتفالية الآن بعروضها علي مسارح العالم، من نيويورك إلى مانيلا وما بينهما، وذاك بعض من إسهام فكرك المستنير.. تسلم سيدي ومحل ودي).
وفعلا. فإن علي مهدي، الممثل والمخرج والمنظر الاحتفالي والمسؤول الكبير في الهيئةالعالمية للميرح، قد انتقل بعروضه الاحتفالية في كثير من عواصم العالم، ولقد أثبت لكل الناس في العالم بأن الاحتفالية هي روح الإنسان الإنسان، وذلك في كل زمان ومكان.
لقد كان في نيتي أن استريح في هذا الصيف قليلا. ولكن الاحتفالية تأبى ذلك. ولقد أصرت على أن تكون موضوعا للسؤال والنقاش في مدينة مديونة. وفي ذلك اليوم الدراسي والعلمي كانت هذه المداخلة:
أيهما أسبق في الوجود الاحتفاليون أم الاحتفالية؟
من حق الاحتفالي، اليوم وغدا وفي كل يوم، أن يتساءل، أمام نفسه وأمام العالم، وأن يقول ما يلي:
لست أدري، هل نحن الذين أوجدنا الاحتفالية، كما هي اليوم هذه الاحتفالية، أو أن هذه الاحتفالية قد (أوجدت) نفسها من خلالنا، وأضع كلمة (أوجدت) بين قوسين, لأن هذه الاحتفالية قديمة قدم الإنسان في التاريخ وقد كانت دائما موجودة، أو كانت معروفة بأسماء أخرى كثيرة جدا، وكل ما فعلناه نحن، هو أننا أضفنا لكل تلك الأسماء القديمة اسما جديدا، والذي هو المسرح الاحتفالي، والذي هو أحد مظاهر وتجليات الاحتفالية الأم، والتي قد يكون لها وجود في كل الآداب والفنون والعلوم، وهذا كل ما في الأمر.
وعلاقة الاحتفالي بالاحتفالية هي علاقة تفاعلية وجدلية، فيها فعل، وفيها تفاعل، وفيها انفعال صادق، وفيها فاعلية مقتسمة، بين الاحتفاليين والاحتفالية، وبهذا تكون قصة الاحتفاليين مع الاحتفالية مثل قصة الدجاجة والبيضة، وأيهما أسبق في الوجود، هي أم البيضة، وهل هي دجاجة الاحتفالية أم هم عشاقها ومحبوها ومؤسسوها ومبدعوها وجنودها وحراسها؟ وفي صيغة أخرى هم بيض هذه الدجاجة.
ولأن هذه الاحتفالية ليست سهلة ولا قريبة، ولأنها فكر وعلم قبل كل شيء، ولأنها آداب وفنون وعلوم وصناعات إبداعية متحدة، ولأنها حياة وفلسفة حياة، فإنه (لا يناقشها اليوم أي أحد، وقصارى ما يفعله أغلب النقاد هو أن يعرفوا لماذا أوجد الاحتفاليون هذه الاحتفالية، وما هي الأسرار الكامنة خلف هذه البيانات، ولماذا لا تموت هذه التجربة كما ماتت تجارب أخرى كثيرة غيرها، ولماذا تصر على نفس النهج؟).
هي أسئلة بوليسة إذن، كان يمكن أن يكون لها معنى لو أن في الأمر موت وجريمة، ولو أن هذه الاحتفالية كانت مسروقة من ثقافات أخرى. أو كانت مزيفة، وكانت غير أصيلة، ولم تكن نبت هذه الأرض، ولم تكن (صناعة) هذا الإنسان، في كل زمان ومكان، ولم تكن من ضروريات الوجود الاجتماعي والفكري والأخلاقي للإنسان المدني الحي، في هذا الواقع التاريخي الحي. وعن واحد من الاحتفاليين المغاربة، تأتي اليوم من المشرق العربي شهادات كثيرة في حقه وفي حق كل المشروع الاحتفالي، والذي آمن به، واتحد به اتحادا صوفيا، وفي هذا المعنى يقول الأستاذ هاشم محمد من السودان، تعقيبا على كلمة الدكتور فضل الله أحمد فضل الله في الاحتفالي الفنان والمفكر..
(دكتور عبدالكريم برشيد أحد فلاسفة هذا العصر، وهو من خيرة النقاد، ويمتاز بصورته التي تكشف عن مخزون علمي كبير يتمتع به هذا الفيلسوف، وكلماتي هذه في حقه فقط فيما تناولته معه في أيام قلائل في مهرجان الفجيرة الدولي 2018.. شكرا دكتور فضل الله وأنت تبين كيف تذكر الفضل لتقديم مثل هذا العالم إلى العالم..).
هذه الاحتفالية إذن. هي روح الحياة. قبل أن تكون أي شيء آخر، وهي صوت الإنسان الحر في المجتمع الحر، وفي الزمان الحر، وهي أساسا جرأة فكرية، وهي ثبات على الحق، وهي إيمان بأن الإنسان كائن ثقافي، وبأنه لا أحد يستعير ثقافته من غيره. وأنه لا وجود لمجتمع يشتري ثقافته من الأسواق الثقافية العالمية والهوية عند الاحتفالي هي أساسا معطى وجودي، وأنها ليست زيا من الأزياء. وليست قناعا يمكن الاختفاء خلفه. والاحتفالية هي الحضور المتجدد. وهي (التعبير الحر للإنسان الحر في المجتمع الحر) وهي الانتقال من الأنانية الفردية إلى (النحنية) الجماعية. وهي الإيمان بالكلمة وبشرف الكلمة. وهي بحث متجدد عن اليوم الثامن في الأسبوع. والذي هو يوم العيد وهو يوم الاحتفال بالحياة وحيوية الحياة المسرحية الحياة الموسيقية.
و(في البيان الاحتفالي لآخر القرن) يقول الاحتفالي:
(هذه الاحتفالية ترفض العولمة، اقتصاديا واجتماعيا. كما ترفضها ثقافيا، لأنها تقوم على تعويم الخصوصيات الثقافية والحضارية لكل شعوب وأمم الهامش والمحيط).
ولأن هذه الاحتفالية هي الصدق والمصداقية، فقد كان ضروريا أن تكون ضد الغش وضد الزيف وضد فعل التزييف وضد الاستبداد السياسي. وضد تجارة الوهم. وهي، في انحيازها إلى الحقيقة، محكومة بأن (تخاصم البيروقراطية. وأن تعادي الوثنية والإيديولوجيا. وتحارب الدعايات الهوائية، إنها مع الإنسان الإنسان، أي وهو جسد ونفس وعقل وروح ووجدان، وهي ضد هذا الإنسان إذا كان مجرد صنم أو كان مجرد وثن، كما أنها ضد المركز المتوحش، والذي يأكل حواشيه وأطرافه)، وبهذا فهو ياكل نفسه، من حيث يدري أو لا يدري. وهذا ما أوضحته في مسرحية (حكاية العربة) حيث القطار البخاري يحرق ألواحه من أجل أن يمشي. وفي الختام يأكل القطار نفسه ولا يبقى له وجود.
وفي وصفه لفلسفة الاحتفالية. يقول ذ. طاهري نور الدين. تعقيبا على مقالة (الاحتفالية حلال والاحتفالية حرام) ما يلي:
(الموضوع يعبر عن رؤية فلسفية عميقة حول الاحتفالية والإبداع، مستخدماً الأدب كوسيلة للتعبير عن فكر معقد ومتأمل. يتحدث النص عن التحرر من التقاليد والتفكير القديم لاستكشاف طرق جديدة ومبتكرة للاحتفال والتعبير عن الذات. يثير النص أسئلة حول مفهوم الحرية والإبداع ودورهما في إعادة صياغة الثقافة والتقاليد. يتطلب فهم الموضوع مهارات تأملية وتحليلية لاستيعاب الأفكار العميقة التي يقدمها الكاتب).
وأساس الفلسفة الاحتفالية هو الإنسان الحي. وهو الإنسان الحر، وهو الإنسان المدني. وهذا الإنسان، في المنظور الاحتفالي، هو درجة عليا في الرقي وفي السمو الفكري والجمالي والأخلاقي وفي المدن والتحضر.
أسماء في الحركة الاحتفالية
ويتجسد هذا الإنسان الإنساني في أسماء فاعلة في التاريخ، ومن هؤلاء نجد الأستاذ إدريس كسرى، والذي هو اليوم اسم لامع وساطع فى سماء المسرح المغربي والعربي، وما عرفته شخصيا عن هذا المبدع المفكر والمنظر هو أنه لا يراهن في فكره وفنه إلا على الجديد. سواء في المواضيع أو في المضامين. وهو صوت الاحتفالية في طبعتها الجديدة، مثله مثل كثير من المسرحيين المغاربة والعرب، والذين آمنوا بأن الاحتفالية، في معناها الحقيقي، ليست هي هذا الاسم أو هي ذاك من المسرحين. ولكن الاحتفالية هي حالة وجودية قبل كل شيء. ونحن جميعا نعيش هذه الحالة، كل بطريقته الخاصة، ولكن قلة قليلة من المسرحيين هي التي أدركت معنى ومغزى هذه الحالة، في كل أبعاداها الفكرية والعلمية والجمالية والأخلاقية المتعددة.
وهناك اليوم أسماء كثيرة تعرف أن الاحتفالية الحقيقية موجودة أصلا في الإنسان، وموجودة في الزمن، وموجودة في الجغرافيا، وموجودة في الطبيعة بأنوارها وظلالها وبألوانها وبأضوائها وبأزيائها وبأقنعتها الجديدة والمتجددة، وهي موجودة أيضا في نظام حياتنا، وموجودة في آدابنا وفنوننا، وموجودة في سلوكنا اليومي.
واليوم. يقترح علينا المسرحي المغربي إدريس كسرى ندوة فكرية لإعادة التفكير في ذاتنا الاحتفالية وفي واقعنا الاحتفالي وفي مستقبلنا الاحتفالي، وإنني أحييه على هذه المبادرة. والتي لا أستغربها منه. وهو الذي تعود دائما بأن يفاجئني ويفاجئنا بالمشاريع الجادة والجديدة. وهكذا ينبغي أن يكون رجل المسرح. أي أن تكون له في التاريخ مساهمات جادة وجديدة في صناعة هذا التاريخ.
مناضلون أبديون في معترك وجودي أبدي
واليوم. يجمع ذ. إدريس كسرى أسماء متعددة حول مائدة فكرية واحدة، وحول موضوع فكري وجمالي واحد. والذي هو: (الاحتفالية والاحتفاليون تلازم وجودي). هو عنوان خطير بكل تأكيد. لأنه يكشف عن هذا التلازم الوجودي بين منظومة فكرية وبين من شارك في صياغتها. فكريا وجماليا، على امتداد ما يقارب نصف قرن.
هذه الندوة تنعقد في مدينة مديونة، وذلك في إطار الأسبوع الثقافي الذي تنظمه عمالة المدينة احتفالا بعيد العرش المجيد، وبخصوص المساهمين في هذه الندوة التي اقترح موضوعها الأستاذ إدريس كسرى نجد الأسماء التالية:
د محمد الوادي. الكاتب والباحث والمنظر المسرحي، والتقابي والفاعل الجمعوي الشاعر والمسرحي والأستاذ المربي الدكتور محمد فراح. الشاعر بالكلمة وبالصورة، والمسرحي المجدد والمجتهد الأستاذ المسرحي ابراهيم وردة. أستاذ التجريب المسرحي ومؤسس الحساسية الجديدة في المسرح المغربي الحديث الأستاذ المخرج رشيد بوفارسي. المسرحي المناضل في المسرح وبالمسرح. والمفكر في المسرح وبالمسرح، والأستاذ رضوان الإبراهيمي احد اعمدة المسرح المغربي بمدينة القنيطرة، ومساره النضالي في المسرح واضح وجلي.
ولقد تفاعل مع هذه المبادرة الفكرية والجمالية كثير من الأسماء. والذين نجد من بينهم المخرج المسرحي محمد زيات. والذي قال في كلمته إلى مدير الندوة ما يلي:
(بالتوفيق صديقي كسرى تنظيم الأسبوع الثقافي, سيكون ناجحا بفقراته المتنوعة، وسيكون حضورا نوعيا. إتنظيم ندوة (الاحتفالية والاحتفاليون تلازم وجودي) إلى جانب أنها ندوة فكرية علمية تحيط بكل مكونات إلا حتفالية فكرا وتنظيرا وممارسة وتجربة ركحية، فهي بالأساس تكريم لأحد أهرامات المسرح المغربي ومنظري تجربة عايشت أجيالا مختلفة واشتغل عليها مبدعون في العالم العربي، وترجمت نصوصه إلى لغات مختلفة، وتدرس في جامعات دولية، إنه المبدع الهرم شيخ المسرح المغربي الأستاد عبد الكريم برشيد، فشكرا لمن فكر ونظم وساهم وحضر).
ولعل أجمل وأخطر ما في صناعة المسرح هو هذا التلازم الوجودي بين الفاعل المسرحي وبين فعله الفكري والجمالي والأخلاقي، وما ميز هذه الاحتفالية دائما هو حركيتها في التاريخ، فهي اليوم هنا وغدا هناك. وهي تفكير حيوي وجدلي ينطلق من القناعة الفكرية التالية، وهي أن الماء يفسده السكون، وتحييه الحركة، وأن اللحظة الحية يقتلها الجمود، وتحييها الحيوية، وهل المسرح، في معناه الحقيقي سوى أنه الحياة والحيوية. وأنه الحرية والتحرر وأنه التجربة والتجريب؟
وهذه هي فلسفتنا في مملكتنا الاحتفالية السعيدة. ومهمتنا فيها هو أن نحيا بشكل أحسن وأصدق، وأن نسعد بالفن الجميل والنبيل، وأن نسعد بهذا الفن النفوس والعقول، وأن نسعد كل الأرواح الخية. وأن يكون لنا نصيب في صناعة الفرح. وهل هناك صناعة أشرف وأنبل من صناعة الفرح؟
على خط هذا اليوم الدراسي، وتحديدا على موضوعه ومضمونه يتدخل المسرحي عبد الإله ميموني من مدينة وجدة لبكتب ما يلي:
(مليح هذا اللقاء، والاحتفاء مع الأساتذة الفضلاء على مائدة الاحتفالية.. هذا العالم اليوم الذي نحياه مليء بـ: الدم والأشلاء.. الدموع والشموع.. الغلاء والغباء.. الزيف والنزيف.. قتل الأبرياء والبسطاء.. الاعتداء على الحرمات والمقدسات.. وو.. حتى الموت مات..!!
إذن ما أحوجنا نحن وهذه الإنسانية جمعاء لهذه الاحتفالية والعيدية التي تشع بالسلم والسلام والجمال والإبداع..
وتدعو للفرح وترسم البسمة والبهجة.. وتعزف على وتر الأمل والصبر الجميل والتمسك برحمة الله الواسعة).
وبهذا تكون الاحتفالية أكبر وأخطر من مجرد تجربة مسرحية مختلفة ومخالفة، في الشكليات وفي الآليات، وهي بالتأكيد نضال وجودي قبل كل شيء، وهي نضال من أجل عالم أكثر جمالا وأكثر حقيقة وأكثر عدلا وأكثر حرية وأكثر حيوية وأكثر مدنية.
Visited 48 times, 1 visit(s) today