الفكر الاستراتيجي والمشروع الإقليمي الإيراني.. قراءة في مذكرات جواد ظريف (1)

الفكر الاستراتيجي والمشروع الإقليمي الإيراني.. قراءة في مذكرات جواد ظريف (1)

نضال آل رشي

مقدمة:

     نشر وزير الخارجية الإيراني الأسبق محمد جواد ظريف مذكراته بعنوان “عصر الفوضى: مذكرات السياسة الإيرانية” في أبريل 2023،  والتي تحتوي على تفاصيل كثيرة حول تجربته السياسية والدبلوماسية.

 لربما تكون هذه المذكرات من أهم الوثائق لفهم السياسة الإيرانية وعلاقاتها الدولية في السنوات الماضية، ولكنها أيضاً وسيلة لفهم ما ستكون عليه السياسة الخارجية الإيرانية في السنوات القادمة.

في الأيام الماضية بدأت تعلو في المساجد هتافات “يسقط ظريف” إلى جانب الشعارات السابقة المتعارف عليها “كالموت لأمريكا والموت لإسرائيل”، فمنذ انتخاب بزشكيان يبدو أن محمد جواد ظريف سيلعب أدواراً بارزة في حكومة الرئيس الإيراني المنتخب. ظريف عمل كمستشار رئيسي لبزشكيان خلال حملته الانتخابية ومن المتوقع أن يستمر في دوره كمستشار كبير في الحكومة الجديدة.

أما عباس عرقجي الصديق المقرب لظريف والذي كان نائباً له ومفاوضاً نووياً بارزاً، فمن المتوقع أن يتولى منصب وزير الخارجية في حكومة بزشكيان.

هذه الأدوار تعكس الثقة التي يضعها بزشكيان في خبرة ظريف وعرقجي في مجال الدبلوماسية والسياسة الخارجية وكون الرئيس لا يتسم بخبرات سياسية واسعة فيبدو أن ظريف سيكون زعيم الملفات الخارجية بالطبع ضمن الإطار الذي يرسمه المرشد الأعلى للثورة في إيران.

 من هو محمد جواد ظريف؟

سياسي بارز في إيران له تاريخ طويل في العمل الدبلوماسي. ينتمي ظريف إلى عائلة ثرية معروفة وقد درس في الولايات المتحدة الأمريكية وحصل على درجتي الماجستير والدكتوراه في العلاقات الدولية والقانون. شغل ظريف مناصب رفيعة في الخدمة الدبلوماسية الإيرانية، بما في ذلك منصب القنصل الإيراني في سان فرانسيسكو ومندوب إيران الدائم لدى الأمم المتحدة في نيويورك. وقد عُرض عليه منصب وزير الخارجية من قبل عدة رؤساء إيرانيين مثل محمد خاتمي وحسن روحاني، ولكنه رفض تلك العروض عدة مرات قبل أن يوافق أخيراً على تولي المنصب في عام 2013. وكما ذكر ظريف في مذكراته، فقد واجه هجوماً شرساً من المحافظين في إيران طوال فترة توليه لوزارة الخارجية بسبب انتمائه للتيار الإصلاحي، على الرغم من أنه في بعض القضايا لا يتفق مع هذا التيار.

لماذا كان متهما في دينه وولائه؟

وفقاً لمذكرات محمد جواد ظريف، واجه هجوماً شرساً من المحافظين في إيران طوال فترة توليه لمنصب وزير الخارجية. كان هناك شكوك حول ولائه الوطني، واتهامات بأنه “رجل أمريكا في إيران”.

 يرد ظريف على هذه الاتهامات بالقول إنه سافر إلى الولايات المتحدة للدراسة قبل قيام الثورة الإيرانية بسنتين تقريباً، وأنه أنهى خدمته العسكرية كدبلوماسي وليس كعسكري في الجيش. كما أثار عدم مشاركته في الصلوات الجماعية في الوزارة جدلاً، حيث رفض الالتزام بذلك بدعوى أنه يصلي بمفرده في مكتبه.

 كما يشير ظريف إلى أنه كان هدفاً للهجوم من قبل الرئيس السابق أحمدي نجاد، الذي اتهمه بأنه “موال للغرب” وأنه كان ينصح الرئاسة بسياسات متوافقة مع الفكر الغربي. وهذا ما أدى إلى إقالة ظريف من منصب نائب وزير الخارجية في ذلك الوقت. ومع تولي الرئيس روحاني السلطة في عام 2013، تم تكليف ظريف بملف التفاوض النووي مع الغرب، ما عكس ثقة كبيرة فيه واختلاف جوهري عن الاتهامات السابقة حول ولائه.

كيف يرى الإيرانيون دول الخليج؟

وفقاً للمذكرات، يرى الإيرانيون أن دول الخليج قد سعت بشدة لاستيراد الأمن من الخارج، ولكنها فشلت في ذلك. ويذكر ظريف أن هذه الدول قامت بدعم صدام حسين في الثمانينيات بالسلاح، الذي استخدمه لاحتلال الكويت، مما أثار قلقاً وخوفاً لدى دول الخليج.

بعد ذلك، حاولت هذه الدول استيراد الأمن من الولايات المتحدة الأمريكية، ولكن وفقًا لظريف، لم تحمِها الولايات المتحدة، بل استغلتها.

الآن، يرى ظريف أن دول الخليج تحاول استيراد الأمن من إسرائيل، ولكنه يؤكد أنها ستفشل كما فشلت في المرات السابقة، لأن هذا النظام مبني على الخوف وعدم الأمن. لذلك، ينصح ظريف دول الخليج بالتعاون مع إيران وتشكيل منظومة أمنية من داخل الإقليم لحمايته، بدلاً من الاعتماد على أطراف خارجية.

من دبّر اقتحام السفارة السعودي في طهران في 2016 ولماذا؟

يرى ظريف أنه كان هناك تدبير داخلي إيراني لاقتحام السفارة السعودية في طهران عام 2016. فقد أوضح أن القوات الداخلية في إيران، تحديداً قوات التعبئة الشعبية “الباسيج”، هي من قامت بهذا الاقتحام.

ويذكر ظريف أن هذا الاقتحام كان محاولة لإفشال الجهود الدبلوماسية الإيرانية الرامية إلى التهدئة والتعاون مع دول الخليج. وأشار إلى أن بعض الجهات الداخلية في إيران، كقوات الحرس الثوري، كانت تسعى لتعقيد العلاقات الإيرانية مع دول الخليج. ويرجح ظريف أن هذا الاقتحام جاء بهدف إفشال الاتفاق النووي الذي كان قد تم التوصل إليه قبل ذلك بفترة قصيرة.

كما اتهم ظريف الجنرال قاسم سليماني بأنه كان من الأطراف التي تعمل على إفشال هذا الاتفاق. وفي هذا السياق، أشار ظريف إلى أن التسجيلات الصوتية التي سُربت لاحقاً، كانت محاولة من جهات داخلية لتقويض جهود وزارة الخارجية الإيرانية.

أهمية سوريا في المشروع الإيراني

 وفق ما ذكره ظريف، فقد شعرت سوريا بالعزلة بعد توقيع اتفاقية السلام بين مصر وإسرائيل، إذ كان شريكها الرئيسي في مواجهة إسرائيل قد قرر السلام منفرداً. وكذلك شعر النظام الإيراني بالعزلة بعد ثورة 1979، حيث كان معزولاً ومنبوذاً من الغرب ودول الخليج. وهكذا شكَّل التحالف بين البلدين المُعزولين أو “المنبوذين” حالة من التضامن والاطمئنان المتبادل. كما أنها كانت أول دولة ساعدت إيران في الحرب ضد العراق خلال الثمانينات.

ومن هنا بدأت العلاقة الوثيقة بين إيران وسوريا، فأصبحت سوريا ذات أهمية استراتيجية بالغة بالنسبة لإيران على المستويات العسكرية والأمنية والاقتصادية، كما أن موقعها الجغرافي المطل على البحر المتوسط كان محل اهتمام كبير في الفكر الاستراتيجي الإيراني والمشروع الإيراني الإقليمي كما أن وجودها كخط بري يربط إيران والعراق بلبنان وحزب الله كان له أهمية كبيرة لبرنامج إيران العسكري ضد إسرائيل. ولهذا كان من الأهمية بالنسبة لإيران أن تُبقي سوريا خاضعة لها تمامًا. وقد واجه ظريف صعوبات في ممارسة دور الخارجية الإيرانية في الملف السوري، إذ كان هناك تدخل من جهات أخرى مثل الحرس الثوري في هذا الملف.

أهم ما جاء في المذكرات عن العراق

بحسب مذكراته يعتبر ظريف العراق من أهم الدول بالنسبة للمشروع الإقليمي الإيراني، وذلك للأسباب التالية:

أولاً، يرى ظريف أن العراق جزء لا يتجزأ من هذا المشروع الإيراني، حيث إن إيران لا يمكن أن تحقق نفوذها في منطقة غرب آسيا بدون علاقات متينة مع العراق. وقد كانت الحرب العراقية-الإيرانية ذات أهمية في تعزيز هذه العلاقات، خاصةً في ظل الوجود الشيعي الكبير في العراق.

ثانياً، يشير ظريف إلى أن إيران عملت على تربية وتنشئة غالبية السياسيين الذين يحكمون العراق حالياً، كما لها علاقات وثيقة مع جميع القوى الكردية في الإقليم الكردي. وهذا يُعزّز من نفوذ إيران في العراق.

ثالثاً، يؤكد ظريف على الأهمية الاستراتيجية للعراق بالنسبة لإيران، فالطريق إلى القدس يبدأ من بغداد وفقًا لمقولة الخميني. كما أن العراق يُعتبر من أهم الدول الحدودية البرية لإيران.

وأخيرًا، يكشف ظريف عن تعاون إيران مع الولايات المتحدة قبل غزو العراق في 2003 وأفغانستان في 2001، في مذكراته، يكشف ظريف أن إيران لعبت دورًا مهمًا في مساعدة الولايات المتحدة في كلا الحالتين، بهدف دعم إنشاء حكومات مستقرة في المنطقة.

قبل غزو الولايات المتحدة لأفغانستان في 2001، عمل شخصيّاً بشكل وثيق مع الدبلوماسيين الأمريكيين، خاصة خلال مؤتمر بون وساهم في تطوير ودفع مقترحات لتشكيل حكومة أفغانية جديدة من خلال استغلال نفوذ إيران مع تحالف الشمال، حتى لو كلف الأمر القتال جنباً إلى جنب مع القوات الأمريكية، مما أظهر التزام إيران بتحقيق الاستقرار في أفغانستان ودعم محاربة طالبان.

أما فيما يتعلق بالعراق، يشير ظريف إلى أن إيران تبادلت المعلومات الاستخباراتية يومياً مع الولايات المتحدة وقدمت دعماً حاسماً في استهداف الجيش العراقي وحزب البعث والقاعدة على حدٍّ سواء.

هذا التعاون أظهر النهج البراغماتي لإيران في السياسة الخارجية لتحقيق مصالحها الإقليمية، حتى لو تطلب الأمر التعاون مع “العدو”.

Visited 96 times, 1 visit(s) today
شارك الموضوع

نضال آل رشي

كاتب وباحث