ملامح التيه وآفاقه في ديوان “قطاف التيه”

ملامح التيه وآفاقه في ديوان “قطاف التيه”

عبد النبي بزاز

       لعل ما يميز ديوان “قطاف التيه” للشاعرة اللبنانية سلمى زياني، هو توالد الصور الشعرية، وتواليها عبر نصوص ترسم ملامح تجربة غنية بتعابيرها الجمالية، وصيغها البيانية، وأبعادها الدلالية مما يصعب معه الإحاطة بمكوناتها الفنية والتعبيرية، وما تتشكل منه من إيقاعات، وعناصر بلاغية توغل في امتدادات متعددة المناحي والمسالك. فإيقاع نصوص المجموعة يتوزع بين ما هو خارجي: “صمت يلتئم وصوت يلجم” ص 14، حيث تشكل الميم في (يلتئم، ويلجم) رويا مغلقا بتحديد معنى لمتضادين: صمت وصوت واقترانهما بفعل يلتئم، ويلجم الأقل سعة وانفتاحا خلاف الهمزة في قصيدة (قواميس الماء):

“في عمق الوجع السابح في الماء… بين وقدة حطب وشهقة هواء”، ص 26،

فرغم أن الروي (الهمزة) غير مشبع إلا أنه مقرون بصيغة بعيدة المرامي الدلالية والجمالية، فتغدو للوجع أغوارا تنأى به عن الثبات والسكون بفعل السباحة في الماء فضلا عن رسم صورة تتمثل في (وقدة حطب، وشهقة هواء)، وما يحملانه من معاني غنية ومتنوعة تستلزم التوسل بعدة معرفية وجمالية لسبر أغوارها، واستجلاء خفاياها. وإيقاع داخلي يتشكل من حروف متجانسة كالسين في نص (لغة الظل): “كي يستفيق من نعاسه النعاس الساذج” ص 18، أو الشين في (كوني قصيدة):

“تمرين شمسا مشرقة… سيذكرك الجسر الذي تحيينه كل صباح الورد الذي يتبعك شذاه بانتعاش يرسل لك فراشة…” ص 64،

فتوالي حرفيْ السين والشين يخلق إيقاعا داخليا بما يحدثه من جرْس مرهف وحساس، وإلى جانب الإيقاع الذي ينتظم نصوص المجموعة داخل جوقة متناغمة ومتجانسة تبرز الصور الشعرية وما تحفل به من عناصر بلاغية من جناس في (غيمة قصيدة):

“أفتح، ثم أفتح… ” ص 6،

وعنوان القصيدة (قلبا لقلب)، الذي يتكرر في النص:

“قلبا لقلب تنحسر على زمن..” ص 28،

وفي قصيدة (غدر قاتل): “يضيق حينها حزنك يضيق لأجل ذكرياتك أيضا” ص 35.

فتكرار نفس الكلمات (افتح، قلب، يضيق) يضفي على النصوص معاني غزيرة الأبعاد، متعددة الآفاق عبر الجناس كمكون بلاغي يغني تعابير قصائد الديوان  فتصبح أكثر سعة وانفتاحا . والطباق الذي تم توظيفه في نصوص، مثل (غرق):

“حيث يعريك سقف الماء الأخير ويدثرك التيه الساكن” ص 3،

ففعل يعريك يقابل فعل يدثرك لتحقيق عنصر الطباق بحمولاته الجمالية والدلالية، وفي (حين تعرى دمي):

” لا اكتمال ينقصك ولا نقصان يكملك” ص 7، فاقترن المصدر (اكتمال / نقصان) بالفعل (يتقصك / يكملك)، وما أضفياه على  النص من معاني يستغرقها التيه واللبس، وفي قصيدة (رمق) حيث نقرأ:

“أجوب نصف  ظلي المرقع ذهابا وإيابا وأعود منتشية   باللازمان واللامكان” ص 39،

فالطباق وتحديدا في (ذهابا وإيابا، واللازمان واللامكان) يفتح آفاقا حبلى بشتى التوقعات والمآلات. ويحظى التشبيه بمختلف استعمالاته بحضور بارز في متن الديوان، حيث يستعمل مقترنا بأداة الكاف تارة:

“كمشاكسة السبحة لحباتها” ص 4،

أو (مثل): “يا صاح الموت مثل صخرة متدحرجة” ص 28، أو منفصلا عنها، أي الأداة ، طورا : ” وجبينك جلمود صخر درسه الغبار ” ص 66 ،

فهذا التنويع في استخدام التشبيه يغني قصائد الأضمومة الشعرية وينزع بها نحو التنويع والعمق والرحابة. كما استعملت الاستعارة بصيغ وأشكال مختلفة أكسبت الصور الواردة في نصوص الديوان غنى وتنوعا على مستوى التعبير اللغوي والدلالي والجمالي، وقد اكتسحت جل النصوص من أولها (غرق):

“زمن الماء يذبح بنكهة الحياة… وإخماد جمرة العهد” ص2 ،

فيغدو للماء زمن، وللحياة نكهة تتورط في اقتراف فعل ذبح زمن الماء، وللعهد جمرة ما تفتأ يخمد لهيبها، ويخبو أوارها، مما يقحمنا، إن لم نقل يورطنا في دائرة صور موسومة بالامتداد والتقاطع والانسياب… واستعارة الابتسامة لحافظة النقود:

“تبتسم لي حافظة نقود ” ص 4 ،

إلى آخر نص موسوم بـ (هناك):

“الريح نامت تحت النافذة… بينما  سقف اليقين يتوارى خلف حفر الكون” ص 85،

أن تنعم الريح بالنوم، وأن يغدو لليقين سقف، وللكون حفر وكلها استعمالات وظفت فيها استعارة خلعت على النسق الشعري للديوان طابعا انزياحيا متنوع المناحي والأبعاد، مما خلق صورا أكثر غنى وانفتاحا وامتدادا طغت على جل القصائد وشرعتها على أفق غزير المعاني، متنوع ومتعدد الدلالات كما  في عبارة: “ولملمها الشتات” ص  6، ليتحول الشتات بتباعد أطرافه إلى أداة للضم والجمع ، ورؤية أشخاص حفاة قادمين من المعنى ، ومن ثقب القصيدة: “يرى من ثقب القصيدة أشخاصا حفاة قادمين من المعنى” ص 10، وتصير للحنين جيوبا: “من أجله اختلست جيوب الحنين”ص 37، والقبض على ريح مشلولة: ” أغادر وفي يدي ريح مشلولة” ص73 ، وكلها صور شعرية امتدت عبر صفحات الديوان، وساهمت في صنع وتشكيل غالبية  نصوصه وقصائده. وإلى جانب ما زخرت به الأضمومة الشعرية من أشكال إيقاعية، وبلاغية، وجمالية أثرت معانيه، ونوعت صيغه وتعابيره هناك موضوعات حضرت في ثنايا المجموعة، وأثثت نصوصها  مثل موضوع  الشعر، وما يحيط به من جدل بين زمرة النقاد حول محور القصيدة وجوهرها: “تشفقين على نقاد يتقاتلون بقصيدة” ص 65، وما تثيره الشفقة على نقاد يتصارعون حول قصيدة ، وما يمكن أن يتبادر للذهن من أسئلة عن نوع النقاد، وخلفيات وآفاق خلافاتهم، وما قد يفرزه هذا الصراع من خلاصات، ومدى تأثيرها على ماهية الشعر وغاياته… فكلها وغيرها أسئلة غير مصرح بها، فالشفقة على هذه الفئة من المهتمين بالشأن الشعري ترقى به إلى مقامه الرمزي والاعتباري الذي يظل ساميا ومميزا. لكن هذا لا يمنع من الإقرار بما يعانيه الشعر من انكفاء  وانحسار: “وأن اختناق الشعر مزمن” ص  65، وتراجع عن الاهتمام به ، ومنحه ما يستحق من  قيمة وحظوة لتطوقه حالة يتم مزري: “الشعر يتيم” ص65، مع التذكير  والتأكيد على دور الشعراء في الذود عن مكانته، والحفاظ عليها من كل تطاول مشين  يستهدف النيل من جوهره الصافي ، ومعدنه  الأصيل ليغدو أمانة لدى الشعراء:  “الشعر أمانة الشعراء” ص 65، والدعوة، بل التحريض على صيانة كنهه من كل الشوائب والأمشاج التي قد تتسرب إليه فتعكر صفاءه، وتلوث نقاءه: “مد يديك لحروف الشعر حرر المعنى من حشو الضجر ” ص80. وفي نفس السياق  المرتبط بالشعر ورد ذكر أسماء شعراء كجبران ومي زيادة اللذين جمعتهما وشائج أدبية وإبداعية ، عبر ما تبادلاه من رسائل ، أغنت الخزانة الأدبية العربية: “ما الذي سره الحبرمثلا في رسائل جبران ومي؟” ص47 ، والشاعرة الخنساء ، التي أبدعت في قصائد الرثاء: “ستؤجل الخنساء بكاءها لتصالح الحياة ولو مرة ” ص 73، وموضوع المعاناة، وما يصاحبها من ألم: “غادرت وجعي إلى شفاء لا يلوح ” ص 63،  فلم تغادر الذات المثخنة بالآلام إلا نحو شفاء مضمر متخفي ، ومغيب ( لا يلوح) . وتصوير حالة المعاناة وما تجسده من إحساس مضن رابض في الضلوع والحنايا: “ترتعش في صدرك التنهيدات” ص66، إلا أن هذه المعاناة  ما تفتأ تفتح كوة أمل تنأى بها عن غياهب التبرم وتخلصها من دياجيره بما تشيعه من مشاعر البهجة والغبطة  داخل ألياف النفس، وأعماق الفؤاد  لترتسم على الشفتين: “فالفرحة ناعسة على شفتي” ص82 ، ومن ثمة الدعوة إلى الابتسامة: “ابتسمي دائما كنهر كريم أفرحه ارتواء الشجر ” ص 64، مع ما تشير إليه صورة النهر كرمز لمنح حياة النمو والنضارة لمكونات الطبيعة  مثل الشجر وهو تشبيه غني بأسلوبه المجازي المعبر المتمثل في ابتسامة النهر وسعادته من ارتواء الشجر بمياهه ، تشبيه  غني بدلالاته الرمزية والجمالية .

فـ”قطاف التيه” ديوان شعري يرمز وينفتح بدءا بالعنوان إلى آخر نص (سليل التيه) إلى التيه كموضوع ذي حمولات تعبيرية  متعددة ومتنوعة تنطلق من فعل قطف تجلياته وتمظهراته (قطاف التيه) إلى أصول نشأته وتكوينه (سليل):“أنت التائه ابن التيه” ص 83، فالتيه بجذوره الوجودية والانوجادية  يفتح آفاقا لا محدودة للبحث والكشف والاكتشاف من خلال مكونات، وأدوات شعرية أساسية: إيقاعية، بلاغية، جمالية، ودلالية تؤسس أفقا متجدد الأشكال. متعدد الأبعاد والمعاني.

ـ قطاف التيه ( ديوان شعري) لسلمى زياني. مطبعة بلال ـ فاس 2023 ــ لوحة الغلاف لزكرياء محمد النواف.

Visited 110 times, 1 visit(s) today
شارك الموضوع

عبد النبي البزاز