منذ أيام لم يتذكر العالم ذكرى انتهاء الحرب العالمية الأولى! هل يمكن تلافي الحرب الثالثة؟

منذ أيام لم يتذكر العالم ذكرى انتهاء الحرب العالمية الأولى! هل يمكن تلافي الحرب الثالثة؟

 د. زياد منصور

       في 28 يوليو- تموز 1914، أعلنت النمسا-المجر الحرب على صربيا ردًا على اغتيال الأرشيدوق فرديناند على يد صربي من البوسنة وهو غافريلو برينسيب. وفي اليوم نفسه، بدأت المدفعية النمساوية المجرية في قصف بلغراد، وعبرت القوات النظامية الحدود الصربية. في 1 أغسطس-آب، أعلنت ألمانيا الحرب على روسيا، وفي 3 أغسطس- آب – على فرنسا. في اليوم الرابع أعلنت بريطانيا الحرب على ألمانيا. بهذا بدأت الحرب العالمية الأولى.

 هذه الحرب التي لم تحظَ بالاهتمام الكافي في روسيا في البداية، لكنها حقًا كانت حربًا كبرى. بالطبع، يمكن من منظور ما اعتبار كل الحروب التي سبقت – مثل حرب السبع سنوات، وحرب القرم، والحروب النابليونية – حروبًا عالمية، لكن لم يكن هناك شيء بمثل هذا النطاق الواسع الذي شمل تقريبًا جميع القارات حتى ذلك الحين. ورغم أنها لم تستمر طويلاً بمقاييس ذلك الوقت، إلا أنها غيرت العالم تمامًا.

أولا: أدت هذه الحرب إلى انهيار أربع إمبراطوريات في وقت واحد، وهي: الروسية، والنمساوية المجرية، والعثمانية، والألمانية. لقد أنشأت حدودًا جديدة ورسمت خرائط في أوروبا وسرعان ما ساهمت هذه الخرائط في الحرب العالمية الثانية، والتي لا يزال بعضها محل نزاع حتى يومنا هذا.

ثانياً: كان ذلك بمثابة بداية انهيار النظام الاستعماري، و”صحوة آسيا”.

 ثالثا: أدت الحرب إلى ظهور أول دولة اشتراكية في العالم-في روسيا، أول دولة للعمال والفلاحين، ووضع أسس المواجهة بين نظامين: الرأسمالي والاشتراكي، والتي حكمت مسار المواجهة القرن العشرين بأكمله تقريبا.

رابعا: أصبحت الحرب ميدان اختبار لإظهار أحدث أنواع الأسلحة، والتي كان الكثير منها مرعبا للأوروبيين – أصبح من الواضح فجأة أن الإنسانية كانت قادرة على تدمير نفسها ببساطة، وكل حرب جديدة ستكون أكثر فظاعة. ففي نهاية المطاف، عشية الحرب العالمية الأولى، كان جميع المشاركين فيها واثقين تمامًا من أنهم سيكونون قادرين على إكمال المهام المعينة لهم بسرعة، وبـ”خسائر قليلة في الأرواح”.  لم يكن أحد يتخيل في أسوأ كوابيسه كيف ستنتهي الأمور في النهاية.

بعد الحرب العالمية الأولى، اختفى لدى الكثيرين التهاون في التعامل مع الحرب كأفضل وسيلة لتحقيق الأهداف السياسية، ولأول مرة في التاريخ، تم إنشاء منظمة سياسية دولية تهدف إلى منع تكرار مثل هذه الحروب – عصبة الأمم.

فمن ناحية، تعلمت جميع الأطراف بعض الدروس. ومن ناحية أخرى… أظهرت عصبة الأمم عدم فعاليتها الكاملة بعد 15 عامًا، وتبين أن نظام فرساي ليس سوى حل مؤقت، بل كان بمثابة قنبلة موقوتة وضعت لتهدد العالم باندلاع الحرب العالمية الثانية، التي كانت تدق الأبواب بالفعل. المفارقة المريرة هي أن تواطؤ الزعماء الأوروبيين مع هتلر (سياسة الاسترضاء) أملته رغبات متبادلة: وضع ألمانيا في مواجهة الاتحاد السوفييتي و… منع حرب جديدة في أوروبا.

ومرة أخرى، لم يكن أحد يتخيل في ذلك الوقت كيف ستنتهي الأمور في النهاية وأن أهوال الحرب العالمية الأولى قد تبدو طفيفة بالمقارنة. كان ذلك غريبًا بشكل خاص بالنظر إلى أن الفترة بين الحربين العالميتين كانت فقط 20 عامًا، وكان العديد من المشاركين في الحرب العالمية الثانية من قدامى المحاربين في الحرب العالمية الأولى. أوروبا كانت تتذكر جيدًا، ولكن مع ذلك، لم يمنع ذلك أحدًا من الدخول في جنون أكبر بكثير، مما أدى إلى عدد من الضحايا يزيد بسبع مرات عن الحرب العالمية الأولى.

ماذا نقول عن يومنا هذا، حيث لم يشهد القادة الأوروبيون (والعالميون) الحروب في حياتهم. الحروب الحديثة ليست في الحسبان – لم يكن من العجب أن العديد من المرتزقة الغربيين الذين يحبون التباهي بسجلاتهم (العراق، ليبيا، سوريا) عندما وصلوا إلى أوكرانيا، أصيبوا بالرعب – لأن القتال هناك كان حقيقيًا ومع خصم متكافئ، وليس مع خصم أضعف بكثير. ماذا نقول عن السياسيين، الذين لم يشهد الكثير منهم حتى حقبة الحرب الباردة، عندما كان يمكن أن تصبح الحرب العالمية الثالثة والحرب النووية الأولى واقعًا في أي لحظة، وكان هذا الخوف من التدمير المتبادل، يشكل مفارقة، بل هو الضمانة الأكثر موثوقية لمنع تطور مثل هذا السيناريو.

ما الذي يجمع بين الحروب العالمية؟ الحقيقة أنها تبدأ في وقت حيث لا يستطيع العالم أن يعيش كما كان من قبل، وحيث الفقاعات المالية العالمية على وشك الانفجار، وحيث تحتاج القوى القوية إلى إعادة توزيع وتقسيم الأسواق، وحيث تبدو الحروب هي السبيل الوحيد للهروب من الانهيار الاقتصادي. واليوم يقترب العالم مرة أخرى من هذه النقطة الخطيرة.

فالعالم الأحادي القطب لم يعد يعمل؛ فالهيمنة الأميركية تعيش أزمة عميقة في كل جوانبها: السياسية والمالية. في الاقتصاد، يسطع النجم (نعم، لقد صعد بالفعل) لزعيم جديد وهو الصين، في السياسة – النموذج الذي تفرضه الولايات المتحدة يصبح أقل جاذبية، بالنظر إلى كيفية تحدي روسيا للنظام العالمي القديم في أوكرانيا، بدأت المزيد والمزيد من البلدان في العيش دون النظر إلى الغرب، والنظام الاستعماري الجديد الذي ظهر بعد الحرب العالمية الثانية ينهار أمام أعيننا. بالنسبة للدولة المهيمنة، يمكن أن تكون الحرب هي الحل الأمثل. حرب لا يقاتلون فيها هم، بل القارات الأخرى. لقد مارسوا هذه اللعبة مرتين بالفعل في القرن الماضي، فأجبروا أوروبا وآسيا على القتال، وتمكنوا من الاستفادة من نتائج هذه الحروب وتحويلها حصرياً لمصلحتهم الخاصة.

ماذا عن أوروبا؟

    هذه ليست السنة الأولى التي تشهد فيها أوروبا أزمة تنمو مثل كرة الثلج التي تتدحرج إلى أسفل الجبل. فأولاً، أدت سلسلة من الأزمات المالية إلى تقويض وحدة الاتحاد الأوروبي، مما أظهر أن الجميع ليسوا متساوين في الاتحاد فحسب، لنتذكر كيف “أنقذوا” اليونان من الانهيار الشامل؟!

ثم جاءت أزمة الهجرة، التي أدت إلى مزيد من الانقسام والفصل بين أوروبا، وأثارت نزعات الانفصال في بعض الأقاليم لفصل بلدان أوروبا الشرقية عن أوروبا الغربية. وأخيرًا، فيروس كورونا، الذي أظهر أنه في حالات الطوارئ، فإن كل يعتمد فقط على ذاته..

ولكن الاختبار الأعظم للاتحاد الأوروبي كان الأزمة الأوكرانية، التي أججها الأوروبيون أنفسهم. وهنا نتذكر الموقف عندما قام هتلر بالتحريض ضد الاتحاد السوفييتي – لتجنب الحروب في أوروبا. ففي نهاية المطاف، لم يكن الأوروبيون يريدون الحرب على حدودهم حقاً، لكنهم كانت لديهم رغبة أكبر في ألا يتوسع ويزداد موقع ودور روسيا. وعلى الفور، ظهرت لهم “القروح” التاريخية ورهابهم (وخاصة الألمان، الذين بذلوا الكثير من الجهد لإنجاز انتصار الميدان في كييف).

ما هي النتيجة؟ على حدود أوروبا تندلع حرب لا نهاية لها، والتي تستمر أوروبا نفسها في تغذيتها – بالأموال، والأسلحة، وما إلى ذلك. في الوقت نفسه، اضطروا للتخلي عن مصادر الطاقة الرخيصة من روسيا، مما وجه ضربة قوية للرفاهية الاقتصادية. الألمان أنفسهم يفقدون الإنتاج – “الديناصورات” في الاقتصاد الألماني، التي كانت أساس قوة ألمانيا لعقود، تنتقل إلى الولايات المتحدة، والصين، وبدأ الأوروبيون العاديون فجأة في تعلم كيفية التوفير، واكتشاف ما تعنيه البطالة.

لكن الأهم من ذلك هو أن أوروبا على بعد خطوة واحدة من المشاركة في الحرب. بل إن الأمر تجاوز ذلك – فهي بالفعل تشارك، بما في ذلك عبر الموارد البشرية: المرتزقة، والمدربين. وتناقش بجدية الآن إمكانية المشاركة الكاملة – إرسال قوات إلى أوكرانيا. ومن الواضح أن الوعي بأن هذا قد يكون حربًا عالمية ثالثة هو ما يوقفهم حتى الآن.

بعد الحرب العالمية الأولى، بدا أيضًا أن الجميع قد استفاد من الدروس وأن شيئًا من هذا القبيل لن يتكرر أبدًا. وكذلك بعد الحرب العالمية الثانية. الشيء الوحيد الذي ساعد في تجنب الحرب العالمية الثالثة حتى الآن هو وجود الأسلحة النووية لدى جميع المشاركين المحتملين، والخوف منها حال دون تحول الحرب الباردة إلى “حرب ساخنة”. لكن الخوف، كما اتضح، هو أيضًا شيء مؤقت.

والآن الألمان مستعدون لاستضافة الصواريخ النووية الأمريكية على أراضيهم. وفي الوقت نفسه، يعلن المستشار الألماني شولتز أنه يمكن تجنب ذلك إذا توقفت روسيا عن العملية العسكرية الخاصة. هل يضع هو إنذارًا مع هدف على جبهته؟ هل هو مجنون؟ ورئيس فرنسا الذي يتحدث عن ضرورة إرسال قوات إلى أوكرانيا – هل هو عاقل؟

وفي عام 2019، عندما احتفل العالم بالذكرى المئوية لانتهاء الحرب العالمية الأولى، دعا رئيس المجلس الأوروبي آنذاك، دونالد توسك، أوروبا إلى عدم تكرار أحداث بداية تلك الحرب.

وقال: “أنا أتحدث هنا عن صعود النزعة القومية والمشاعر المناهضة لأوروبا، وليس فقط على مستوى الخطاب، في العديد من العواصم الأوروبية. وهذا لا ينطبق بعد على قادة اليوم، لكن هذه القوى تنمو أمام أعيننا. هذه هي القوى تغذي الصراع ولا تبغي التعاون”، وأضاف: “عندما أسافر في جميع أنحاء أوروبا، يراودني أحيانًا انطباع بأن هناك أحزابًا وسياسيين في العديد من العواصم الأوروبية ينتظرون حدوث موقف مثل الأرشيدوق فرديناند. وقال خلال كلمة ألقاها في الاحتفالية: “إنهم ينتظرون أن هذا الصراع الحلم سيغير النظام العالمي والنظام الأوروبي، على أساس الحفاظ على المبادئ والقيم المشتركة”.

وها هو تاسك نفسه يصرح هذا الشتاء، وهو الآن رئيس وزراء بولندا، في مؤتمر صحفي في برلين بعد اجتماعه مع المستشار أولاف شولتز: “أخذ على محمل الجد كلمات الرئيس ماكرون بأن فرنسا مستعدة لتزويد أوروبا بقدراتها النووية حتى تصبح جزءًا من النظام الأمني ​​لعموم أوروبا”. تعليقا على كلام الرئيس الفرنسي بأن باريس “تتحمل مسؤولية وضع قدراتها النووية تحت تصرف الاتحاد الأوروبي”. بالإضافة إلى ذلك، دعا الدول الغربية إلى تجاوز روسيا بشكل عاجل في إنتاج الأسلحة والذخيرة.

بناء على ما تقدم: هل تعلموا الدروس بجدية ولا يريدون تكرار أخطاء مائة عام مضت؟ يبدو أن كل شيء هو عكس ذلك تماما!

Visited 42 times, 1 visit(s) today
شارك الموضوع

د. زياد منصور

أستاذ جامعي وباحث في التاريخ الروسي