هوامش في الكتابة الروائية: “دســتيوفسكي” والغرب
صدوق نورالدين
أولا: الرواية في النشأة والامتداد
1/
برز جنس الرواية أداة تعبير على الصورة التي يوجد عليها. هذه، اقتضت تحولات فرضتها أشكال أدبية استوفت المعنى المتغيا في مراحل زمنية وإنسانية. فالعبور من هذه الأشكال الدنيا _ إذا حق _ إلى الجنس الأقوى بلاغة وتعبيرا، لم يغيب بالمحو نصوصا أدبية وتراثية قديمة ما فتئت تذكر، بل أستفيد منها على مستوى بناء جنس الرواية من خلال حوار نصي لا يلغي السابق ولا يجدده، وإنما يفيد في الحدود المسموح بها أدبيا. من ثم استحضرت مقولة التجريب الأدبي في الكتابة الروائية. والقصد انفتاح جنس الرواية الثابت على ما يمكن أن يخدم المعنى المتغيا ترجمته والتعبير عنه. من هنا اقترن التجريب بالتعبير. إذ يحدث أن يكون بناء الرواية تقليديا محضا، لولا أن إخضاع روح التقليد للتجريب من الداخل، يضفي جدة على البناء. فالروائي _ وهو يمارس_ يخضع ممارسته للتجريب، عالما بأن إيقاع التجريب في الرواية يظل طاغيا إلى حد الهوس مما يضيع معه الاعتقاد بأننا بصدد تلقي كتابة روائية، إذا ما ألمحت لكون المؤلف/الروائي يظل ممتلكا لسيادة التحديد الأجناسي: رواية. وكأني به في هذا السياق يفرض على التلقي استقبال النص الأدبي وفق الصورة التي يوجد عليها، أو التي قدمت له. وهنا تمثل قاعدة المقارنة الأدبية بين التجارب الروائية بحثا عما يمثل المشترك الذي تحيل عليه مكونات الرواية، إلى متعة الحكاية التي يجيد الروائي تصريف بناء تفاصيلها وفق إيقاع تصاعدي، أو بالانبناء على توزيع الحكاية توزيعا يسهم التلقي في تركيبه وبنائه. وكأن الأمر يتعلق بحكاية رواية جاهزة المعنى، وثانية تستدعي من التلقي قصدية كتابتها، حيث يغدو القارئ روائيا على السواء، يتخيل على متخيل سابق هو الأصل بحثا عن المعنى المطلوب.
2/
جاء ميلاد الرواية الحديثة _ مثلما هو معروف _ في الغرب. ارتبط الظهور بنشأة المدينة، والنزوع إلى الاعتراف بالمدنية بما هي حقوق إنسانية. فبين المدينة والمدنية خبر الإنسان جنس الرواية وسيلة أو أداة تعبير. هذا التعرف والتحقق، وازى بين الاجتماعي والروائي. بمعنى آخر لم يكن الروائي متقدما على الاجتماعي مما ترتب عنه خلق المجتمع القارئ للرواية والمتفاعل مع مستجداتها أدبيا، ثقافيا وإعلاميا، حيث تدار نقاشات في برامج ثقافية لساعات طوال بحضور شخص الروائي الذي يكشف عن علاقته وهذا الجنس، كما المرجعيات التي قادت إلى الخلق والتأليف. قد يكون لقوة التداول أثرها ليس غربيا وإنما على المستوى العربي أيضا، وذلك على جنس الشعر، حيث تراجع نشره إلا في حالات الشعراء الأعلام. بل إن من هؤلاء الذين آثروا الكتابة الروائية، أو الجنوح إلى الخوض في الإبداعين: الشعر وكتابة الرواية.
3/
لم يقتصر بروز وميلاد الرواية الحديثة على بلد ما، أو في لغة ما، وإنما تحقق ما أدعوه بالتضافر الأدبي. ذلك أن أكثر من بلد من بلدان العالم تفرد بتعزيز محفل الرواية، حيث تدوولت عناوين روايات عالميا قياسا بمؤلفيها. لقد غدت تذكر “دونكيشوت”، ” الأم”، “الإخوة كارامازوف”، “الأبله”، “المقامر”،” الجبل السحري”،
“أمريكا”، “مائة عام من العزلة”، وغيرها من الروايات التي بصمت الأثر على امتداد تاريخ الكتابة الروائية الحديثة.
قاد التضافر إلى التنويع من حيث القضايا والاهتمامات، إلى الصيغ التي أعلنت من خلالها الروايات هويتها. فمن ناحية أسهم المعنى الروائي في ترجمة علاقة الإنسان والطبيعة، الإنسان والإنسان، إلى صراعاته الدائمة والحياة في مطلق المعنى. من ثم تأسست ظلال المعنى من الواقع إلى الذات، ولاحقا من الذات إلى الواقع ومن الذات إلى الذات. وأما صيغ إنتاج المعنى، فتكون على ثرائها وغناها طرقت في مجملها، فالخيال الروائي لا حدود له، والتأثير الأدبي لا يمكن إلغاؤه.
على أن التنويع جسد الإضافة. فالأدب الروسي يضيف إلى الألماني والفرنسي إلى الإيطالي وأدب أمريكا اللاتينية، مما أسهم في تعدد التلقيات والتأويلات، بالرغم من خصوصيات كل واقع، وهي خصوصيات بقدر ما تؤكد الاختلاف تثبت التشابه.
ثانيا: “دستيوفسكي”: أيقونة الرواية
مثل “دستيوفسكي”، أيقونة الرواية العالمية. ذلك أن مجمل الآثار الإبداعية السردية التي أقدم على تأليفها دلت على عن وعي ثاقب بآليات الكتابة الروائية. ونمت، عن ثقافة روائية قل أن خيض في استجلاء وتبيان تأثيراتها، علما بأن “دستيوفسكي” اعترف في رسائله بروايات أثرت فيه تأثيرا قويا، وبالتحديد، ما أبدعه “بلزاك” الذي ترجم له الروائي الروسي روايته “أوجيني غراندي”.
من هذا المنطلق فالتراكم المتحقق إبداعيا، قاد من ناحية لديمومة التلقي، إذ _ وإلى اليوم_ تحظى روايات “دستيوفسكي” بتعدد القراء وتجدد صيغ الترجمة. هذا التحقق أدى غربيا وعربيا، إلى سعة الاهتمام بهذا المتن الروائي، حيث يحق التمثيل غربيا بنماذج نقدية رائدة حول منجزه نذكر منها ما جاء به “ميخائيل باختين” في كتابه “شعرية دستيوفسكي”، و”أندريه جيد” في “دستيوفسكي” (مقالات ومحاضرات)، والكتابان ترجما إلى اللغة العربية. ومن حيث الجانب الإبداعي نشير تمثيلا لروايتين استلهمتا حياة “دستيوفسكي”: “ملعون دستيوفسكي” ل “عتيق رحيمي” و “سيد بطرسبورغ” ل “كويتزي” ونقلتا للغة العربية. وأما من الكتاب والنقاد العرب الذين أولوا اهتماما كبيرا ب”باختين” فنجد الأستاذ محمد برادة الذي أقدم على ترجمة “الخطاب الروائي” ممهدا له بمدخل موسع ودقيق في/وحول نظرية الرواية، مثلما أفرد الناقد فيصل دراج في كتابه “نظرية الرواية والرواية العربية” فصلا عن “باختين” وسمه ب: “ميخائيل باختين: الكلمة، اللغة، الرواية”. وأما الباحث العراقي عبد الله إبراهيم فخص في كتابه “أعراف الكتابة السردية”،
“دستيوفسكي” بدراسة في رواياته عنونها ب “دستيوفسكي”: الاستبطان العميق للنفس البشرية”.
وهنا تحق الإشارة إلى الجهد الترجمي والنقدي الذي أنجزه الناقد والمترجم الأستاذ شكير نصر الدين الذي نقل إلى اللغة العربية بكفاءة واقتدار كبيرين كتب “باختين” التالية:
1/ ” جماليات الإبداع اللفظي”.
2/ ” أعمال فرانسوا رابليه والثقافة الشعبية في العصر الوسيط وإبان عصر النهضة.”
3/ “الفرويدية”.
إن الحديث عن “باختين” يقود حتما إلى استدعاء الأيقونة “دستيوفسكي” الذي _ كما سلف _ ستتجدد قراءاته لأكثر من مرة. ولعل هذا ما دعا منظمة اليونسكو في (2021) إلى الاحتفاء بالمئوية الثانية لميلاد “دستيوفسكي”.
ثالثا: “عقاب بدون جريمة”
اندلعت شرارة الحرب الروسية الأوكرانية في فبراير2022. ولم يكن أحد من المهتمين يعتقد بأنها ستمتد إلى اليوم، وتتخذ مظاهر وأشكالا غير متوقعة. ذلك أنها لم تقتصر على الجانب السياسي وحده، بل طالت الاقتصادي، والأغرب أن تمتد للرياضي والثقافي الذي يهمنا أساسا. فانخراط الغرب إلى صف أوكرانيا، وهو حال الانحياز إلى إسرائيل في حربها على غزة، أسهم في البحث عن أية تعلة تقود إلى اعتباره المساند الأمين لأوكرانيا، وثم أحرق أوراق التنوير والعقلانية وقواعد التسامح، بل إنه من خلال عقده عدة مؤتمرات وتخصيص مساهمات مادية على حساب أزماته الاقتصادية (حال ألمانيا وفرنسا)، لم يسهم في إيجاد مفاتيح وحلولا للأزمة، بل اعتبر في تصور الكثيرين جزء منها.
بيد أن امتدادات الحرب للثقافي، أدى إلى مواجهة الأدب الروسي ومقاومته، وبالضبط من خلال جنس الرواية، وتأسيسا من ميراث أيقونة الأدب الروسي “دستيوفسكي”. والمفارقة أن تصدر هذه المقاومة عن إحدى القلاع الحضارية والثقافية التي أفدنا ونفيد من آثارها الأدبية كما عكستها على سبيل التمثيل تجارب كل من “جيوفاني بوكاتشيو”، “جاكومو كازانوفا”، “لويجي بيرانديللو”، “أمبرتو إيكو” وغيرهم. إذ أقدمت إحدى الجامعات الإيطالية “بيكوكا” ب “ميلانو” على استصدار قرار غايته منع تدريس مؤلفات الروائي “دستيوفسكي”. وهو المنع الذي جوبه بالرفض والاستنكار، مثلما اتخذ منه موقفا اتحاد كتاب روسيا، ليتم التراجع عنه لاحقا، وهو ما حذا بكتابات نقدية وفكرية عربية إلى وسم هذه الحالة بالقول ” إنه عقاب بدون جريمة” على غرار الرائعة الروائية “الجريمة والعقاب”.
ويعيد موقف من هذا القبيل، السؤال عما إذا كان الغرب الذي ألهم العديد من الأدباء والمفكرين ما يزال يحافظ على مبادئه وقناعاته، أم أن النزوعات الاستعمارية الجديدة بمختلف تلويناتها تظل تجسد الخلفية الحقيقية لما يختفي وراء ادعاءات التنوير وفكرة التقدم.
إن المؤكد _ وهو ما ألمحنا سابقا إلى جانب منه _ كون ميلاد جنس الرواية تأسس على الارتباط بالإنسان، وعلى حكي معاناته وصراعاته التي عمل بما يمتلكه من قوة على مجابهتها. بمعنى آخر، إن الإنسان لم ينقذف إلى عراء العالم ليعيش شبه معزول عن ماجريات الواقع، بل يعد جزءا منه يتفاعل، ويتحاور بما يمتلكه من كفاءة وقدرات ذهنية. هذا المعنى في الجوهر، التقطه الروائي ليكتبه، يحكيه ويسرده نثرا من خلال جنس الرواية. وبحكم كون الروائي إنسانا، فإنه يتماهى انطلاقا مما يراه، يشاهده ويتأثر به قراءة. كأنه هو، وليس. فالمعنى الملتقط، لا يمكن ألا يتأثر في سياقاته بما هو سياسي، خاصة وأن للروائي مهما كان انتماؤه وهويته مواقفه حيال قضايا سياسية واجتماعية. والواقع أن هذه المواقف قد يتحقق التعبير عنها مباشرة أو بصيغة غير مباشرة. ولن تكون الأخيرة سوى الكتابة الروائية التي تعتمد وتعمد إلى توظيف الخيالي والرمزي مادام الهدف ليس محاكاة الواقع، وإنما تشكيله في الصورة الأدبية التي تجتذب القارئ كي يمارس فهمه وتأويله. وهذا في العمق ما أقدم على تجسيده الروائي “دستيوفسكي” من خلال آثاره التي عبرت عن مرحلة، عن ماض، إذا ما ألمحنا لكون أي روائي لا يمكن أن يعبر إلا عن زمن انقضى خلدته روائعه التي يتفاعل معها القارئ في أي زمن، مرحلة وظرف، خاصة وأن متعة الحكاية لا تعترف بضوابط أو قيود أو موانع. فهل يريد الغرب من سلوك المنع الذي أقدم عليه، وبالضبط انطلاقا من النموذج المساق، تجريد المعنى الروائي من القضايا والمواقف المعبر عنها، وبالتالي سلب الروائي حريته في القول وعلى التعبير.
إن الروائي وهو يخوض في منجزه، وبالتالي بناء عالمه الخيالي، يساهم في التأريخ والتوثيق لمرحلة، حيث تصبح آثاره الأدبية دليلا عنها من منطلق كون توثيق الروائي غير إسهام المؤرخ في كتابة التاريخ وتدوينه. وترد في مذكرات ويوميات بعض السياسيين المثقفين من العرب والغرب عناوين لنماذج روائية اضطلعوا عليها، إذ أن جملة من الأحداث التاريخية والسياسية استطاعوا فهمها و وعي تفاصيلها بالاستناد لما يحكيه ويقدمه عالم الرواية.