حياة العنفوان بين المد والجزر؟ في “أمواج” عبد الله إبراهيم
لحسن أوزين
أمواج كتابة أدبية تعلن عن نفسها انطلاقا من عنوانها “سيرة عراقية”، كما أنها تكرر هذا الميثاق في وجه القارئ على صفحاتها من حين لآخر. لكنها توضح أيضا أن لا شيء معطى وجاهز ومحسوم بشكل نهائي، بل هي منخرطة في سيرورة بناء لا ينتهي من الحذف والتعديل والاضافة لمدة زمنية وصلت الى عقد ونصف، وهي تفكر نفسها في حوار صيرورة لا تنتهي بنهاية هذا النص، حيث ستظل تكذب نفسها باستمرار، ليس بالمعنى الأخلاقي، بل بالمعنى النقدي حين يفكر الادب في نفسه، فيما انتهت اليه- أمواج- من خلاصات وأفكار ورؤى ومنجز تخييلي. ذاك طموحها في الحفر والتنقيب للقبض على الأصول أو الجذور الملعونة التي كانت أرضية شرعية للذبح الحلال للشعب والتفكيك للوطن وهي لا تزال تحفر أنيابها الوحشية في حاضر العراق مانعة انطلاقته الرحبة والإنسانية في الوجود والانفتاح على القيم الإنسانية الكونية بما يفيد نوعا من الهجرة الى الإنسانية. هكذا تمارس أمواج كسيرة عراقية شغبها وشغفها كمنجز أدبي وهي تتأمل مظاهر تحولات وتطورات تمس الوعي في حركة تكونه وتطوره في النظر والمراجعة النقدية مع الرغبة في الاستيعاب و التجاوز. إنها هوية سردية تحكمها حركة العبور والتنقل، وهي لا تكف عن توليد الفوارق والاختلاف في العلاقة مع الذات والأخر والعالم، حيث يصعب جدا التأريخ للذات والأخر والمجتمع وللواقع الاجتماعي السياسي في عنف تمرحله التاريخي في ظل سلطة الطغيان للنظام السياسي المطلق و الشمولي في ترسيخه لواقع السيطرة والتسلط المقنع بالقانون الطبيعي القدري المفارق للشرط التاريخي البشري، وما يؤطره من صراعات وتناقضات مادية ورمزية. إننا أمام ذات ساردة تؤرخ لنفسها والأخر والمجتمع وللعنف السياسي للطاغية في ترابط جد معقد لسياقات كثيرة أسرية، اجتماعية، سياسية، ثقافية…، في علاقة الذات مع نفسها وبوسطها الاسري وضمن العلاقات الاجتماعية، وفي المدرسة، أو خارجها في مختلف أشكال التواصل والتفاعل والحضور الفاعل في سيرورة الفعل الثقافي والاجتماعي والتربوي والمهني والفكري والابداعي…
ذات تشهد على نفسها وعلى الاخرين وعلى المجتمع في علاقته بالسلطة في تحولاتهما الرهيبة والمشحونة بالكثير من العنف الرمزي والمادي الاجتماعي والاقتصادي والسياسي، المؤطر بإيديولوجية الموت الرمزي من خلال رعب قوة القمع والترهيب والخنوع والخضوع والذل والمهانة، في سحق كينونة الانسان، أو الموت الصريح في الزج بالشعب داخل مستنقع الحروب المتتالية داخليا ومع دول الجوار المسنودة إقليميا ودوليا بالوسائل والعتاد الحربي المتطور في التكنولوجيا العسكرية فتكا وتدميرا للإنسان والعمران وكل المحيط البيئي.
تعتبر أمواج تجربة سيرة مؤلمة أولا في عيشها كقدر وجودي اجتماعي سياسي تلبس مظهر القانون الطبيعي في قهر وهدر الانسان ونهب الثروات وسحق الفكر، وكل الرأسمال الاجتماعي والحضاري التاريخي في التنوع والتعدد كمكونات سوسيولوجية ثقافية تعايشت عبر قرون في انتمائها للأرض والبلد الواحد في نوع من الثراء الخصب، وفي تشويه الوجدان والذاكرة والتاريخ والانتماء الى درجة توليد الهمجية والتوحش وحروب الهويات القاتلة داخليا بين مختلف مكونات الشعب الواحد : العرقية، الدينية، المذهبية، والطائفية…، التي لم تكن تتعرف في ماضيها العريق والحديث على ذاتها إلا كعراق. وثانيا في كتابتها بلغة أدبية جميلة لها خصائصها المعنوية والدلالية والفكرية، كما لها منطقها وآليات اشتغالها، الشيء الذي يحقق مسافات بين المتن كما هو في الواقع التاريخي كوقائع وأحداث وبين حضورها في الكتابة كمبنى ورؤية للعالم تبلور بنية دالة تبعا لسجل ثقافي وجمالي وزاوية نظر السارد في إدراك المعنى وصياغة تأويل المتن على مستوى المبنى أو الخطاب. هكذا هي العلاقة بين السارد وقصته في وقائعها وأحداثها، حيث يستحيل الحديث عن الهوية والتطابق بين الكاتب والسارد والتجربة المعاشة، التي تقرأها عين فكرية نقدية وجمالية بوعي آخر مختلف ومتناقض مع مختلف أشكال الوعي التي ميزت التجربة في سيرورة تكونها وتطورها الاجتماعي والثقافي والسياسي في واقع حي تاريخي لا تكف الممارسة الاجتماعية في صراعاتها وتناقضاتها وعلاقاتها، ودلالاتها، عن تشكيله وإعادة بنائه. فالسارد ليس كائنا ثابتا جاهزا وناجزا سواء في ماضيه أو في لحظة ولادته السردية ككتابة تتوسط التجربة، ومن ثمة فهو وليد سيرورات ومسارات متشابكة ومعقدة في نشأتها وتطورها، وفي مدها وجزرها المرعب والرهيب، المفعم بالأحزان والآلام والمآسي المروعة، وأيضا في اختلاس متعها الحية والنشيطة النابعة من مثلث جدل القراءة والكتابة والمرأة، مثلث يشتغل كمنارات محفزة ومضيئة ضد اليأس والحلكة المعتمة التي أسدلت الدكتاتورية المجنونة والعمياء ستارها، وهي تسحق الانسان كمشاريع وجودية تأمل الكينونة والصيرورة.
نتعرف على السارد من خلال توسط الكتابة وهو يعيش طفولة صعبة أقدارها التراجيدية التي جعلته يتجرع تجارب ألم الحرمان العاطفي ثم عذابات الفقدان للوالدين، بشكل فجائي في رحيل الاب الغائب على مستوى الوجدان العاطفي، وبشكل بطيء معذب وقاتل في رحيل الأم بعد تجربة مرض مؤلمة وهي تخوض حربا شرسة ضد السرطان بقوى غير متكافئة كما لو أن الطاغية حل بالذات ينخرها من الداخل، تجربة تولد عذابات نفسية وجسدية للأ م ولأطفالها حيث المرض أتى على فرديتها الذاتية وهويتها الجسدية والشخصية كالنار الحارقة تلتهم ببطء الام والأطفال دون شفقة ولا رحمة وهم يشهدون وشاهدون على موت ليس هو الموت، حيث المرض حال بين الام وهويتها وجعلها غريبة عن نفسها في حالة ليست كما هي، مما ضاعف من حرقة العذاب لهم جميعا. من هذا المخاض أو الفرن الجهنمي خرج الطفل رجلا يبتغي عالم الرجال، كما لو حكم عليه أن يتخلى عن طفولته. فتوالت على السارد الكثير من التجارب المؤلمة التي لم تنل من إرادته في أن يكون ويصير رغم غموض المسارات المرعبة التي كان يقذف فيها دون اختياره وهو يتقلب من محنة لأخرى في بحثه عن الذات الحرة المستقلة التي تمتلك فرديتها وقدرتها على تحقيق الذات برغبة جامحة تجمع بين اللذة والألم. هكذا نتعرف عليه صبورا متحملا كل المشقة والصعاب، مجدا ومثابرا لأجل خلق شروط النجاح وتحقيق ما يخامر النفس من أوهام وأحلام. لذلك انخرط في مختلف أشكال الفعل المدرسي الى جانب الأنشطة الموازية الفنية والشعرية والمسرحية، دون ملل ولا كلل يدفع به الى الرجوع للوراء، لأن إرادة قوية وعميقة الجذور في داخل الطفل تشحذ رغبته وتقوي إصراره وعزيمته على الحضور الفاعل مع ووسط الاخرين في أن يكون ويصير على الرغم من أنه لا يعرف ماذا يريد، وتلك حالة طبيعية في البحث عن الذات.
سيرة تحركها قناعة الاعتراف بكل ما عاشته ذات السارد في مختلف محطات حياته دون مراوغة ولا نية له في التستر كما قال على الكبوات والاخطاء ،والتقدير السيئ والساذج المزيف للواقع في تناقضاته وصراعاته على مختلف المستويات الاقتصادية والسياسية والأيديولوجية. سيرة تقرأ تجاربها وصيرورتها ومسارات تكون رؤيتها للذات والأخرين والعالم، وهي تشكل رؤية لعالم الحياة والكينونة ، حيث كل شيء قابل للتمحيص والمراجعة والنقد دون خوف في مرحلتي طفولتها وشبابها من الاطار المعرفي الأيديولوجي السائد سواء في وجوهه التقليدية العرقية والقبلية والطائفية والدينية المذهبية، أو في وجوهه الإيديولوجية القومية والوطنية في صورتها الاختزالية للقيم الثقافية والاجتماعية وللانتماء والهوية الوجودية، بواسطة الرؤية الوحيدة والأحادية بلغتها الإطلاقية التي لا تقبل الشك والحوار والتفكير وإثارة السؤال، وهي لا تقبل التنوع والتعدد والاختلاف باسم الوحدة الأقرب الى الواحدية الدينية التي تعمل على وصم كل تنوع واختلاف خيانة وطنية وقومية وخدشا في قداسة الطاغية الذي لا يقبل الشرك حيث السمع والطاعة والتنفيذ. وكم من الرؤوس قطفت إعداما لأسئلتها واختلافها ونظرتها المغايرة لما يحدث ويجري من ظلم وبؤس وقهر ومآسي وتفكك لنسيج المجتمع وهدر للإنسان والخيرات. العلاقة العمودية هي المسيطرة بين القائد والرعية، بين السيد والعبد، بين المسؤول وعامة الناس، بين الكبير والصغير، بين الرجل والمرأة. علاقات اجتماعية تحكمها وتضبط آليات اشتغالها أخلاقيات السمع والطاعة والخنوع والقهر والاسترقاق الاجتماعي والثقافي والسياسي والوجودي.
سيرة تبين بوضوح المعاناة التي تورط فيها السارد وهو يكافح من أجل نيل حقه في التعليم ومواصلة دراسته الجامعية، حيث تحول الى مجرد دمية تتقاذفها فجائية أقدار الواقع السياسي الاجتماعي للدكتاتوري، وهي تتلاعب بمستقبل أبنائها الاكفاء ، وتعلي من شأن ثقافة الخوف والولاء وتجهز على ثقافة الجد والانجاز. وأمام الأبواب المسدودة والفرص المنعدمة أصر السارد على خوض تجربة البعد عن الوطن متجها الى جامعات مصر التي لم تحتضنه طويلا إذ سرعان ما عاد ليجد نفسه مرعوبا بين أمواج واقع سلطوي يريد لفظه في الوقت الذي ظل السارد متشبثا بصخرة العناد والتحدي، فحمل مشاق السفر والتباس توجهات واختيارات التعلم والتحصيل العلمي الاكاديمي، من الموصل الى البصرة ثم من هناك الى بغداد. هكذا هي الأنظمة الطغيانية تتحايل على التناقضات المجتمعية والممارسات الاجتماعية والسياسية بآلية أيديولوجية تجعل الواقع الحي يتخذ مظهر الاعتباط والاقدار الطبيعية بحيث يتخفى ويتستر العنف السياسي التسلطي والقهر الاجتماعي الاقتصادي والثقافي والتربوي، متحكما في حياة الناس ومؤبدا لسيطرته في تحديد وتقرير مصير الافراد والجماعات والمجتمع والوطن. وهي آلية نفسية اجتماعية سياسية يفرضها الطاغية كنظام سياسي للتحكم في مستقبل الشعب والوطن. وقد قدم لنا السارد تشخيصا دقيقا لجذور ومظاهر القهر والاعتباط في الفضاء المدرسي والثقافي والاجتماعي والسياسي، وهو يقدم لوحة رائعة في متعتها الأدبية كسيرة تتوخى الاعتراف والتمثيل السردي لمسارات الذات، وصيرورة حركية الواقع، لمحاولة تجميع الكثير من العناصر والسياقات والمعطيات التي تسمح بإضاءة ما يحدث الآن في العراق وأي أفق أو آفاق تنتظر البلد ومكوناته السوسيولوجية والثقافية في الاختيار بين التفكك والتشظي والتشرذم المشحون بالضغينة والحروب، أو في الحفاظ على مقومات المجتمع والبلد، وتأهيل النسيج والرأسمال الاجتماعي. إنها سيرة تقدم في شكلها الادبي إضاءة نموذجية للتحليل النقدي الذي قدمه مصطفى حجازي في كتابيه سيكولوجية الانسان المقهور، والانسان المهدور.
سيرة لا تخشى مواجهة وتعرية عوراتها وتسليط الضوء على ظلالها حيث تورط السارد في غياهب الوعي الزائف بسبب قوة وسطوة خلفيات حجاب الزيف السياسي والثقافي الأيديولوجي للنظام الاستبدادي الشمولي الذي حال بينه وبين الوعي الحقيقي للوضع الذي يعيشه وما نتج عن ذلك من رؤية أيديولوجية ضيقة للذات والآخرين والعالم، وللواقع الاجتماعي السياسي في تناقضاته وتوتراته وصراعاته الداخلية، وفي الحروب الخارجية مع دول الجوار، أو في التغطية على المسخ الذي طال المجتمع في قيمه الثقافية والاجتماعية، خاصة على مستوى الوجدان والذاكرة والهوية والانتماء…
وفي سياق هذه التعرية والاضاءات قدم لنا السارد صورة واضحة حول سيرورة ولادة وتكون وتطور النظام السياسي الشمولي العربي والإسلامي، في هزائمه وخيباته، في مصر وسوريا والعراق، في صورته الأقرب الى النظام النازي، على مستوى منطق الفكر وآليات الاشتغال والممارسة، وكيف التهم الطاغية وزبانيته البلد واستعبد الناس. وفي هذا يتجلى عسر ولادة الوطن والمواطنة والديمقراطية والتعدد والاختلاف…، وكل القيم الإنسانية التي يسحقها النظام السياسي العربي وهو يفكك الأوطان ويفتح أبواب بلدانه للاحتلال الخفي أو الصريح، كما لو أن النظام السياسي العربي وجه آخر للاحتلال الأجنبي، وربما ما يحدث الآن في سوريا واليمن يجد إضاءات له في هذه السيرة العراقية.
سيرة موجعة في فواجعها ومجازرها المروعة، وهي تعري بشاعة الديكتاتورية في جنونها الأعمى حين كانت تزج بآلاف الشباب في مستنقع الموت والحروب، وهم في مقتبل العمر وعلى استعداد للعطاء والبناء للوطن والانسان، عوض طحنهم في حروب بشعة بين طاغية تلبس قناع العلمانية والقومية العربية الاشتراكية في العراق، وبين طاغية تقنع بالدين والإسلام السياسي لولاية الفقيه في ايران، إرضاء لجنونها الأحمق في القهر والتسلط والطغيان والسيطرة الإلهية على الأجساد والارواح، دون أدنى اعتبار لحياة شعوبهما في الأمن والأمان وفي التقدم والازدهار وتحسين شروط الوجود الإنساني في العيش الرغيد بحرية وكرامة في ظل نظام سياسي ديمقراطي يفتح ذراعيه للتنوع والتعدد والاختلاف، محتضنا مختلف الأفكار والرؤى والاصوات، والتمتع بمختلف الحقوق.
سيرة تعري كل هذا العفن السلطوي المتجذر في الثقافة والفكر العربي والإسلامي، والمتأصل في اللاوعي الجمعي للاشعور الثقافي الاجتماعي الذي شكله الطغيان كنظام حكم سياسي في التجربة التاريخية العربية الإسلامية لسقف الملة التي لا يمكن أن تكون اليوم أفقا للتغيير والنهوض إلا باعتبارها تجربة سوداء في اطارها المعرفي وفي تراكمها التاريخي الاجتماعي الآسن الذي تتصيد فيه اليوم قوى حركات النكوص والقهر والتطرف والاستبداد أرضيتها الأيديولوجية السياسية في تشكيل فكرة التوحش الديني والقومي الشمولي في استباحة الناس والوطن وتقويض مناعته الكلية مما جعله سهلا لقوى التوحش والاحتلال في تفكيك وتمزيق المجتمع والدولة والثقافة ومسخ الوجدان والذاكرة والعلاقات الاجتماعية. إنها سيرة تنشر الغسيل القذر للنازية العربية في شخص الديكتاتورية العرقية، وهي حالة نظام سياسي غير استثنائي في المحيط العربي الإسلامي، تبعا لبنى التركيب الاقتصادي الاجتماعي المتخلف سياسيا واقتصاديا وايديولوجيا، والشرس والمعقد والعدواني تجاه القيم الإنسانية. سيرة تضع القارئ في الصورة الواضحة لكل الالتباسات والمغالطات التي رافقت نظام الطاغية السياسي، كما أنها تمارس تنويرا وإضاءة الوقائع والحقائق التاريخية التي نمت وتبلورت ومورست في داخل البلد إبان الحرب مع ايران، وخلال الهجوم الهمجي للقوى الغربية بخلفيات سياسية مفكر فيها بعمق السياسات المصلحية سواء في جانبها النيوليبرالي لإعادة انتاج السيطرة والهيمنة على الخيرات والثروات، أو في معاودة إنتاج الشكل السياسي المطابق لمصالحها الجيوسياسية والاستراتيجية في النهب والتحكم في مصائر الشعوب من خلال أنظمة سياسية معادية لشعوبها في تطلعاتها وطموحاتها الوطنية والديمقراطية والشعبية في الحرية والتحرر والكرامة.
تتناول أمواج كل هذا من زاوية شكل الكتابة الأدبية التي تقف عند مستوى قراءة الواقع الحي في تحولاته وهزاته واختلالاته وتناقضاته وصراعاته من خلال صيرورة الوعي في إعادة تركيب معطيات ووقائع اجتماعية تاريخية سياسية وثقافية وما نتج عن ذلك من حروب أتت على الأخضر واليابس، على الانسان والعمران، والذاكرة والهوية، والانتماء، والعمق التاريخي الحضاري تدميرا وتزويرا ونهبا واحتلالا. وهي أيضا كتابة تسعى في استراتيجيتها، كشكل تعبيري أدبي له خصائصه ومقوماته الجمالية والأدبية، إلى تحقيق تشخيص فني خيالي في قراءتها للماضي وتأريخها للذات والأخر والمجتمع في علاقته بالشمولية البعثية كنظام سياسي عائلي لعراق صدام، كما هو الشأن بالنسبة لسورية الأسد وهكذا دواليك في المحيط العربي الاسلامي. أي أن أمواج تمارس وعيها انطلاقا من فهم وإدراك طبيعتها ككتابة أدبية لا تدعي نقل الواقع أو انعكاسه الأمين، بقدر ما تعرف استحالة المطابقة بين السرد والوقائع والاحداث، خاصة وأن السارد واع بالسردية التي كان أحد روادها ومؤسسيها الأوائل، لذلك هو واع بالمسافة الزمنية لنشأة وعيه وتبلوره في صورته النقدية عبر سلسلة من التجارب والمحطات التي تفجع فيها وناله الألم ومزقه العذاب، دون أن يتخلى عن حلمه في أن يكون مفكرا نقديا وأستاذا جامعيا، وفاعلا اجتماعيا وثقافيا. إنها سيرة محنة تكوين الذات ورسم الأهداف والمضي بإصرار العاشق، وعناد القارئ الباحث عن العلم والمعرفة، في سبيل الوصول إلى تحقيقها، وعيش انعكاس إيجابيات وسلبيات نتائجه على الذات والانتماء والهوية والوعي والذاكرة…، فمن هذه الزاوية في استراتيجية الكتابة يمكننا الحديث عن منجز التخييل الذي احتضنته السيرة في بعض أمواجها التي تفتح أفقا للمتعة الأدبية، خاصة في أمواج مرحلتي الطفولة الى نهاية المرحلة الجامعية، وما تخلل بعض الأمواج من متع مسروقة وعذابات معاشة على جبهة القتال، حيث برزت دينامية مثلث العشق والرغبة وجنون الحياة، في العلاقة الجدلية التفاعلية التكاملية بين القراءة والكتابة والمرأة. بذلك كانت السيرة تتحرر من سطوة الوقائع والاحداث في بعدها الجهنمي الحافر في أعماق النفس للرعب والندوب والعذاب اللانهائي، ولجراحات السرد العاري. كما أن الوعي بمنجز التخييل في السيرة، خاصة في علاقة السارد بأسراره وحياته الخاصة الحميمة، سواء في تفاعله مع فواجع وخيبات ومآسي الواقع من خلال كتابة نصوص إبداعية في الشعر والقصة القصيرة، أو في علاقته بالمرأة، خاصة في مراسلاته ولقاءاته مع حبيبته، دون أن ننسى متعة ولذة القراءة. بمعنى أن السارد استثمر كل هذا وهو يستحضر كما هائلا من الهواجس والاسئلة المكبوتة التي تخص الذات والآخرين والمجتمع والسلطة، في محاولة معرفة لماذا أخذت الوقائع والاحداث ومصائر الناس والوطن هذا الاتجاه والأفق المروع الذي انتهى بتخريب وتدمير الانسان والوطن والعمران؟ وكيف ينظر ويتقبل الانسان العراقي بصفة عامة هذا القدر المزعوم الذي فرضته الشمولية البعثية كنظام سياسي عربي إسلامي في حده الأقصى للطغيان والاستبداد والقهر لقيمة الانسان ومناعة الوطن، وباركته القوى الدولية بخبث أخلاقي وممارسة سياسية عسكرية في التحكم في مصائر شعوب وبلدان المنطقة، إما بالخنوع والخضوع كأنظمة استبدادية، أو بالاحتلال الذي يسهله مثلث الموت: الاستبداد والعصبيات والأصوليات، في انعزاله وانغلاقه وأحاديته المطلقة ، وفي طغيانه وقضائه على القوى الحية في البلد؟ وكيف استطاعت ديكتاتورية الطاغية مسخ وتشويه الوجدان والهوية والذاكرة والتاريخ والانتماء الى درجة أنها سلخت من الناس إنسانيتهم وحولتهم الى مجرد قطيع قابل للسلخ والذبح والقتل وهي تورطهم في عنف أعمى للحروب الخارجية، وقد هيأتهم وقامت بتنشئتهم اجتماعيا وثقافيا كعشائر وطوائف ومذاهب وأعراق قابلين للاشتعال والانفجار كقنابل موقوتة في أية لحظة من سقوط الطاغية؟
إنها سيرة موجعة ومؤلمة، كما قلت سابقا، تتعقب الوقائع والاحداث لمعرفة ما يمكن التخلي عنه، وما يستحق التضحية، ويمكن الدفاع عنه وتحصينه وحمايته من التشويه والمسخ الذي تشربه الناس عبر تاريخهم القهري الحديث والمعاصر، من خلال الأدوات السياسية والأيديولوجية، والسياسات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والتعليمية…، وأيضا بتوسط الآلة الجهنمية للقمع من السجن الى الزج بهم في حروب الموت المجاني، والاعدامات التي تمليها الغطرسة والاهواء وخوف الطاغية من نفسه والأخرين. الشيء الذي أنتج في كل عراقي قدرا من العرقية والمذهبية والطائفية، بحيث استبطن كل واحد في جوف لاوعيه العميق طاغية أوفرعونا صغيرا، قد يكون شيعيا، سنيا، عربيا ، كرديا، داعشيا، حشديا أو اثنيا عرقيا…، بعضهم أتى على ظهر دبابات الديمقراطية والحرية والتحرير للعنف المركزي، ليعم البلد كله دون استثناء، تفجيرا لمكبوت الضغينة والانتقام بعدوانية تصل الى حد سحق الاخر، وقد وجدوا أرضية اجتماعية ونفسية وأخلاقية ولدها التشويه الذي أنجزه الطاغية وعمقته علاقات الاسترقاق السياسي والاجتماعي التي تمارسها النخبة والعشيرة الحاكمة، والفئة المتملقة من عامة الناس ومن طرف ثلة من أنصاف المثقفين والمفكرين الذين اعتلوا المناصب وفق ثقافة الولاء. وقد طال هذا التشويه والمسخ العلاقات ين أفراد النخبة الفكرية والثقافية، وهي تتنافس على إرضاء سلطة المراقبة والعقاب التي جعلت معيار النجاح الولاء للفوز بفتات الغنيمة ونيل المناصب، فانتشرت ثقافة الخوف والإرهاب والحمية القبلية والعرقية والطائفية، وغابت ثقافة الإنجاز والكفاءة والجد والاتقان. الشيء الذي ولد ذهنية محدودة متصلبة وقطعية في التواصل والحوار والنقاش والتفكير، أي أننا أمام فرد ذو بعد واحد في النظر والفعل والتفكير، مؤطر من قبل ثقافة الخوف والترهيب التي بذرتها الديكتاتورية في العلاقات الاجتماعية، وفي الوسط الثقافي والمهني، وفي نمط التنشئة الاجتماعية التي يتشرب قهرها الفرد في حليب الطفولة منذ ولادته، تبعا لعلاقات سلطوية عمودية، يدفع فيه المقهور المسحوق الثمن بشكل مزدوج وبأضعاف، خاصة الطفل والمرأة، والمنبوذ اجتماعيا واقتصاديا كفئات شعبية مسحوقة. وهذا ما فرخ الهروب والانعزال عن الشأن العام تجنبا للشر السياسي السائد في كل مظاهر الحياة اليومية، كنوع من سياسة الحياة العارية التي تحدث عنها جورجيو اغامبين، حيث لا اعتراف بالضحية ولا بالجريمة التي يستحق صاحبها العقاب. مما كرس واقع الإفلات من العقاب من قبل السلطة وأزلامها في النهب وفرض التهجير القسري، والقتل كما حدث للتجار الذين تمت تصفيتهم من قبل عشيرة الطاغية. وفي صفحات أمواج الهادرة نكتشف العراق فضاء للوطن المسلوب والمغتصب من طرف الطاغية والاحتلال الأجنبي، والدمى الطائفية المذهبية والعرقية التي جاءت للسطو والانتقام وليس لبناء الانسان والنهوض بالوطن وتكريس المواطنة، بل للضغينة وتفجير مكبوت الانتقام وتمزيق البلد، وهم بذلك يمثلون قفا الطاغية الذي لا يقل بشاعة وغطرسة وتخلفا عن النظام السياسي الساقط. كما يبدو العراق في السيرة مجالا للألم والمتخيل، وللحنين وانتعاش اشتغال الذاكرة المترعة بالعذاب والفواجع والخوف والاحزان، وهي تمارس تشاؤم السرد بالموازاة مع خلق قطب فني في شكل السيرة قادر على احتضان جمالية التلقي.
استمتعت كثيرا بهذا النص الجميل الذي ظلت تغريني أمواجه بمزيد من التحدي والعنفوان والمخاطرة…، فأتيت عليه دفعة واحدة.
لكنني لا أستطيع أن أخفي شعورا عميقا يلفه نوع من الحزن تجاه صمت ذاكرة السارد في علاقته بالمرأة، خاصة المرأة القابعة في الظل، كما لو أنه لم يقل شيئا في علاقته بالنساء.
___________________________________________
عبد الله إبراهيم أمواج سيرة عراقية ط1 س2017