ليلة الإفراج
أحمد حبشي
رحلة مخيفة خلتها تنتظرني وأنا أغادر باب المعتقل. كنا في لحظة استرخاء نداري ما نحن فيه من ضيق المجال وشساعة الزمن، لا شيء يبهر في رتابة تدفق اللحظات. كنت في غفوة حين تردد اسمي بإيقاعات متباينة يلفها انشراح. عناق صاخب وضجة ابتهاج، انهمر دمع دافق وانساب في خاطري أكثر من سؤال. أصارع نسائم الوثوق بأني سأغادر المكان وأن المسافة الزمنية صارت أمتارا وسويعات. كيف أعود إلى عوالم فقدت كل إحساس بتدفق الأيام فيها منذ عشر سنوات. صور أمكنة تتراقص في ذاكرتي وصخب شوارع لم أقو على استعادة كل معالمها. حياة أخرى في الانتظار، لا شيء يدنيني مما أنا مقبل عليه. تتدفق مشعة أمام عيني تهاليل فرحة الاستقبال، لهفة والدتي وعناق إخوتي وزغاريد الجيران. جمعت أغراضي وتركت ما لم اعد في حاجة إليه. انساب دمع حارق والرفاق من حولي يجملون اللحظة بأبهى العبارات، عناق ملفوف بحرقة الوداع. سنلتقي يوما على ناصية الحياة، ونواصل مباهج الود وصدق المشاعر على سكة الوفاء للغائبين قهرا والراحلين عنا بلا استئذان.
تملكني هلع رهيب وأنا أخطو إلى المعبر الأخير لأتجاوز سلطة السجان. صدى المفاتيح وصرير الأبواب ترافق إيقاع دقات القلب، وخطوي المتهالك يقودني إلى نسائم تحملها زغاريد وتهاليل انشراح لفت المكان. ايادي ممتدة ووجوه تشع ابتهاجا بلحظة العناق. تخلصت من كل ما كان يثقل كاهلي واستويت بين الأحضان. وجوه تتلألأ بفيض من جلال الوجد ولهفة اللقاء. فرح شاسع الضفاف وتلاوة آيات التبريك يرافقها عناق لاهب وشواظ اشتياق. حضرت أسر بعض الرفاق ممن انتهت إليها الأخبار بأن ثلة من المعتقلين سيشملهم الافراج، فأعدوا ما تيسر لهم حتى تكون اللحظة طافحة بالانشراح. كان من بين المستقبلين أصدقاء ورفاق، ساهم حضورهم في تسهيل التواصل وتعميم خبر الافراج على أوسع نطاق.
قبل أن نغادر المدينة حيث المعتقل، كل إلى وجهته، كان الاستقبال الباذخ في بيت أمي فاطمة بذات المدينة، أعدت لحظة الفرح بكل ما يليق بفورة الحدث، كأنها كانت على علم بموعد الافراج عنا، أعدت كل شيء واتسع فضاء بيتها لكل المفرج عنهم والمرافقين لهم، لم يكن ابنها بيننا، ولم تخف فرحتها ولا قصرت في قواعد الترحاب. امرأة واثقة من عزة نفسها تطفح أساريرها بالمودة وسعة الصدر، كان ابنها حسن من بين قادة المنظمة قبل الاعتقال، دخل السرية واستقر بالدارالبيضاء، حين تخلص من شواظ الملاحقة وتلصص المخبرين. لم يطل به المقام ليفاجئه ذات فجر يوم ماطر طرق صاخب وتحرش بالكلام. اختفى بعدها لأكثر من سنة في دهاليز القهر والإذلال. في مخفر شديد العتمة يضج بالأنين، استسلم لصولة الجلاد.
لم نصل إلى الدار البيضاء إلا في حدود التاسعة مساء، مدينة متسخة، اتسعت فيها مساحات الظلام. هكذا لاحت ونحن نشق شوارعها ونتبادل صيغ الاستغراب، نبحث عن معالم غابت وننبهر بطرق أحدثت وأناس تسرع الخطى في اتجاهات متعاكسة، يرافقها ضجيج منقطع النظير. اقتربت السيارة التي كانت تقلنا من أحيائنا، أضواء المقاهي تلوح في غبش الظلام كما أنارت أمسياتنا ونحن نتداول بهمة حول قواعد التحريض والبحث عن مداخل العصيان. حواراتنا الساخنة حول ضرورة التغيير وحصر مداخله للحد من صولة الطغيان. يخفت لهيب دهشتنا ونحن نقترب من أحيائنا، الأزقة كما تركناها، دكاكين متراصة بأضواء باهتة، وتجمعات متباعدة لشباب يتراشقون بالكلام. محطتنا الأولى كانت دار الرفيق مداد، جمع غفير تجمهر كان في الاستقبال، تعالت زغاريد وهتاف متعدد الايقاعات يردد أسماءنا بنشوة الانتصار. عناق دافق وقبل عاطرة الأنفاس. وجوه باسقة تفوح بالبهجة والارتياح. كنا في قمة الانتشاء، أصبحنا على مسافة شاسعة تحد بينا وكوابيس الوحدة وقرع المفاتيح وضيق فسحة الاستجمام.
أخي الأصغر كان الوحيد من أفراد العائلة بين الحضور عند الاستقبال، ضمني بشوق حارق وأخذ يستعجلني في الانتقال إلى بيتنا الذي يوجد بالحي المجاور ولا يبعد إلا بأمتار عن بيت عائلة مداد.
وصلت الحي بعد منتصف الليل تتقاذفني أمواج من الفرحة والرهبة، كأني أهيم في فضاء بلا ضفاف، تلاحقت في ذاكرتي صور من زمن فقدت كل ملامحه يلفني أكثر من سؤال. ما إن بلغت السيارة مدخل الحي حتى تعالت زغاريد وهتاف. لم أتوقع ولو لحظة حجم الاستقبال الذي قوبلت به، نساء ورجال يتدافعون لمعانقتي والزغاريد تعفر المكان، لم أتمكن من ولوج البيت، عدد المستقبلين كان أكثر من كل مت حدست من توقعات، زغاريد وقرع على الدفوف. انهمرت الدموع دافقة أقوى مما كنت أقوى على حصرها، بهجة فائقة الوقع والتأثير، استعدت معها وهج استرجاع حريتي وتخلصت من رهبة السفر نحو المجهول. كانت الوالدة آخر من استقبلني، انهمر دمعها قبل أن ترتمي بين أحضاني في عناق استعدت معه كل الدفء الذي كانت تخصني به منذ صباي، يصلني نبض قلبها وقد تسارعت دقاته. لحظة ابتهاج يصعب وصفها أو تحديد مستوى التفاعل مع لهيب تأثيرها. بدأت تدريجيا أستوعب ما انا فيه، أفراد العائلة وقد ازداد حجمها وضاق بهم المكان. لم تعد في البيت غرفة تخصني، ازداد عدد أطفال العائلة، أبناء أختي الأربعة وأبناء أخي الأكبر، يراقبون باندهاش كيف يتهافت الكل في احتضاني بقوة وانفعال، لأول مرة يقابلون من كان الكل ينتظر عودته كحلم جميل. من جهتي أحاول أن أتحق من أسماء كل واحد منهم، كانوا في مجموعهم ثمانية. من حين لآخر كان أخي يذكرني بما كنت ألح عليه في طلبه، ضرورة اخبار أصدقائي في كندا بواقعة الافراج، في الواحدة بعد منتصف الليل كنا أمام شباك مداومة البريد، تسلمت ورقة الاشعار وكتبت عليها جملة.
تلألأت في خاطري كزغرودة ابتهاج Im Free…
كان ذلك منذ أربعين سنة في 24 غشت 1984.