جمال براوي.. الرّجلُ الملتزم
علي كرزازي
كيف لي أن أنسى نظرته المسكونة بالحزن وسحنته القمحية التي تصيح :” أنا عبدي مغربي” وحتى صوته الرخيم بلكنته البدوية المحببة التي كانت تداعب طبلة أذني بين الفينة والأخرى على أثير القنوات الاذاعية لسنين عدة؟
” أش واقع؟”
ترجل جمال براوي عن صهوة الحياة والأكيد أنه لن يكون بمقدورنا أن نحصيه في عملية إحصاء المغرب 2024 ، لكننا سنحتسبه عند الله واحدا من شهداء الصحافة المغربية الرصينة.
“أش واقع؟” سؤال وجودي مهر به الراحل برنامجه الاذاعي الناجح، وهو سؤال تعظُم حمولته الدلالية في اللغة الدارجة. إنه عنوان تمغرابيت القحة الصادقة التي ترمي الى معرفة الحقيقة ولا شيء غير الحقيقة.
” أش واقع؟” سؤال تكمن أهميته وخطورته في أنه لا يثار بخصوص الماضي فقط ، بقدر ما يسائل الحاضر والمستقبل. وحينما أثاره جمال فهو كان يعرف جيدا الفئة التي كان يستهدفها. فئة المستمعين من الطبقات المسحوقة، طبقات القاع الاجتماعي التي كان من حقها في نظر جمال أن تعرف مجريات الواقع المفروض عليها.
“أش واقع؟” دليل على المراهنة على السؤال بدل الارتهان للأجوبة الجاهزة، بحث لائب في ثنايا الوقائع والأحداث بغية الوصول الى بلورة رؤية واضحة لواقع آسن تسكنه الخيبات والنكبات.
كيف لي أن أنسى هرما من أهرامات الصحافة العالمة ، خبر مدارات الثقافة ومنزلقات السياسة ومتاهات التاريخ، فكان بحق صحفيا ألمعيا مشاكسا لا يعرف المهادنة؟
جمال براوي هذا الذي عشق الفكر اليساري التقدمي حينما كان ماؤه رقراقا صافيا، وأشاح عنه بوجهه حين صار ماؤه ضحلا راكدا.
لجمال من اسمه نصيب، كيف لا وقد حمل بين حناياه قلبا يعشق كل جميل، في السياسة والثقافة والفن والرياضة. كان ذا ذائقة فنية تنجذب لكل أصيل وأثيل من العظماء الذين تركوا بصمة واضحة في حياة الشعوب والأفراد والأمم. ولا عجب أن تكون لاسم الرجل وشائج عميقة مع أسماء مماثلة لرجال استماتوا في الدفاع عن الحق .
جمال براوي مغربي أصيل مشبع بالأصالة والعتاقة . محب لتراث بلاده من العيطة الى الملحون . من جيل الرواد …أحمد البيضاوي، المزكلدي، محمد فويتح مرورا بعبد الهادي بلخياط ، الدكالي، نعيمة سميح. ناس الغيوان وما أدراك ما ناس الغيوان؟ جيل جيلالة، لمشاهب، محمد رويشة، نجاة عتابو وانتهاء بنعمان لحلو وأسماء لمنور وآخرين…
جمال براوي عاشق حتى النخاع للمنتخب الوطني لكرة القدم بما هو رمز للهوية الوطنية المغربية…وهو الى ذلك متيم دنف بحب الخضراء..رجاء الشعب..لفرجويته وإنجازاته. كان يحب الكرة بقلب طفل صغير وبعقل مجرّب نحرير لا يفتأ يخرج عُدّة التحليل والنقد كلما حلت النكسات وساد سوء التسيير.
جمال براوي تلفع برداء الشجاعة ، كان صريحا حدّ الصدام وكأني به كان يضع نصب عينيه مقولة سقراط الشهيرة:” إن قول الحقيقة يتطلب الشجاعة “.
جمال براوي كان من المثقفين القلائل الذين لا يستنكفون عن ممارسة النقد الذاتي، شعاره في ذلك صوت شاعر المارتنيك إيمي سيزار:” حينما يتعلق الأمر بالتمرد لا ينبغي أن يحتاج أحدٌ منا الى أسلاف”.
جمال براوي عابد متنسك في محراب التحدي . كان التحدي والتصميم سمة فارقة في حياته نجح في نقل عدواها الى بنيه ، فعلمهم كيف يسيرون في طريقهم قُدُما دون أن تجرفهم عواصف الحياة الهوجاء ليثبتوا ذواتهم في نهاية المطاف .
جمال براوي ابن “الهامش” الذي سار في الطريق المفضي الى “المركز” خطوة خطوة، لم يتعجل… ولم يحرق المراحل. وحين نحت اسمه في صخر المركز، لم تستهوه الأضواء ولم تغوه الاغراءات ، فلا هو كان مهادنا و لا منبطحا ولا خانعا ولا مستسلما.
الجميل لدى جمال أنه عرف كيف يفرض على خصومه قبل أصدقائه أن يحترموه أولا ويحبونه ويجلّونه دوما. عاش في حيز المسافة النقدية التي تضمن له مكانة مخصوصة لا يشاركه فيها أحد ليُخْلص الانتماء في الأخير لشخص جمال براوي وحده.
جمال براوي أحبّ وطنه وأحبّ الحياة فقاوم الداء حتى آخر لحظة.. ما اشتكى ولا تبرّم. ظل حتى آخر رمق ممسكا بقلمه مثل جندي جريح يصارع الموت ويدافع عن وطنه فلا يُسقط من يده بندقيته.
أخيرا وليس آخرا جمال براوي لم يتنكر لأصله ولأهله. حمل مدينته “أسفي” في ثنايا قلبه أينما حلّ وارتحل. أحبّها بنسك العاشقين وذاد عنها بصبر المقاومين، ولن أجد خيرا من هذه القصيدة المتواضعة لأهديها له ولكل المتيمين بحب أسفي، وهي قصيدة نظمتها سنة 2003 عند أول زيارة لتلك المدينة الجميلة:
وصـــلــة حــب
– لك يا منازل في القلوب منازل – ( المتنبي )
أسفي
آتيك والبحر يغزل محنتي برموش النوارس المشاغبة
آتيك ولبانات الفؤاد تنهل من عينيك ما أسكرا
أسفي
آتيك محمولا على صهوة الحلم
وهذه أبيات بنيتها لي فسكنتها
بوحي العاشق ورؤيا القديس
أسفي
سحر المكان بهاء الإنسان
وحورية تغسل وردها في باحة الأطلسي
تقول للخزاف:
قطر ألوانك من مقلتي
من نخلة تراود الريح
تربض في الأعالي
أسفي
هاكي قرطاسي وقلمي
يا ربة اللؤلؤ والمرجان
تاهت عيسي وحاذيها….في مجرتك يا زئبق الأكوان
أسفي
يا آسفى على يوسف
إن لم يمت بداء أسفي.
سلاما أخي جمال ولا أقول وداعا.