في ذكرى رحيل أحمد شوقي بنيوب: غيض من فيض مسار مشترك

في ذكرى رحيل أحمد شوقي بنيوب: غيض من فيض مسار مشترك

محمد الهجابي

        يصعب اختزال كل الذي جمعني بالفقيد سي أحمد شوقي بنيوب في صفحات معدودة، ومتى كان بالإمكان اختزال عمر بكامله في صفحات؟.

في رواية “بيضة العقر” (الصادرة سنة 2015) حاولت استحضار ملامح الرجل في شخصية “طه التحناوتي” ضمن كوكبة من مناضلي “حركة 23 مارس” بداية، فمنظمة العمل الديمقراطي الشعبي بعد ذلك، وقد تقاطعت سبلنا لنؤسس لسردية نضالية فريدة. وكان مسعاي هو أن أحتفي بهذه الثلة من المناضلين من جهة أولى، وأن أرصد تجربة شباب التموا حول أفكار وقيم أرادوها أن تطول “الدولة والمجتمع” معا، أفكار وقيم الديمقراطية والحداثة والمساواة.. من جهة ثانية.

بين الرباط والقنيطرة والدار البيضاء ومراكش وتملالت.. وغير ذلك من المدن، بمختلف أحجامها، وعلى امتداد خريطة الوطن، انتسجت بيني وبين سي أحمد علائق هي أكثر من علاقة رفقة حزبية وأوسع من علاقة صحبة وأبلغ من علاقة أخوة. وفي جملة، إنها كل ذلك. كانت بدايتها المادية لحظة التقائنا ب”بلاص بوركون” بحي أكدال بالعاصمة الرباط، ولم يمض وقت طويل عن مغادرة الرجل لسجن سيدي سعيد بمكناس سنة 1980 بعد أن أمضى به سنتين ونصف السنة من الاعتقال السياسي مرورا بكوميسارية جامع الفنا بمراكش، فدرب مولاي الشريف بالدار البيضاء. ومذ تلك اللحظة الفارزة قام بيننا ارتباط تجاوز العمل الحزبي ليصير بعد حين ارتباطا أشبه بارتباط توأم.

شوقي بنيوب ومحمد الهجابي (1982)
شوقي بنيوب ومحمد الهجابي (1982)

في مدينة الرباط لما التحق بها لمتابعة دراسته الجامعية قادما إليها من كلية الحقوق بمراكش، وحتى يسهل عليه تحمل مسؤوليته الكاملة الجديدة وقد بات زوجا يطمح لبناء أسرته الصغيرة، لم أشأ يوما من الأيام أن أبيت في بي غير بيته بزنقة القبيبات (وكان يقتسم البيت مع العزيز محمد الحبيب نظيف) أو بأكدال (زنقة سبو) رفقة زوجته، اللهم من استثناءات، ولا سيما بعدما زايل محسن عيوش وزوجته الفقيدة حورية العاصمة إلى الدار البيضاء، ويهم الأمر هنا بالأساس بيت الفقيد حسن السوسي بزنقة غانا على مشارف من ساحة روسيا بالمحيط. وتلك البيوت كانت لنا مأوى ومقرات اجتماع. وبالقنيطرة، وقد انتقل إليها بأسرته لاستكمال تكوينه في مجال المحاماة لدى مكتب ذ. النقيب عبد الرحيم الجامعي بشارع الإمام علي، فمحاميا بهيئة المحاماة بالمدينة في وقت لاحق، لم أكن أجد في بيته سوى ذلك الحضن الدافئ، وحتى حينما اكتريت لي شقة بشارع محمد الديوري، لم يكن الرجل ليترك لي فرصة الاختلاء بعزوبيتي. ففي كل مساء تقريبا يعرج علي فيأخذني إلى بيته ومبرره في ذلك أن يذيقني الطعام الصحي وينتشلني من إسار “الوحدانية”. وهكذا، بتنا لا نفترق إلا بموجب مهام خاصة فيما أغلب الأوقات نكون منكبين على مهام حزبية وقطاعية محلية (اللجنة المحلية للمنظمة بالقنيطرة) أو وطنية (فصيل “الطلبة الديمقراطيون” ونشرة “الشباب الديمقراطي” ف”حركة الشبيبة الديمقراطية” واجتماعات اللجنة المركزية للمنظمة.

في وقت سابق، منذ سنة 1984 إبان فترة التحاق الفقيد بسلك المحاماة بالقنيطرة، ولما كانت الوالدة، والدتي، لوحدها تشغل السكن رفقة أبنائها بحي “ديور الساكنية”، إذ كان الوالد لا يزال يؤدي زمنها مهامه بوحدات الجيش الملكي المرابطة على تخوم الحدود بأقليمنا الجنوبية، كان سي أحمد لا يكف عن زيارة سكن الوالدين كلما سنحت الظروف له بذلك. كان منزل الوالدين بالقنيطرة بمثابة منزله الثاني فيه يجد الحضن الدافئ لدى الوالدة والعناية. وكثيرا ما تقيّل وارتاح به قبل أن يتوجه نحو الرباط. ولطالما أمضيت رفقته والفقيد السوسي، جميعنا نحن الثلاثة، الليلة بالمنزل إياه نتسار ونتسامر. وحتى حينما استقر بالقنيطرة كان مداوما على زيارة بيت الوالدين بمفرده وأحيانا صحبة زوجته العزيزة سعاد. وليس من نافل القول أنك إذا سألت الوالدة، وقد أشرفت اليوم على التسعين من العمر ولحقها ما لحقها من آثار “الزهايمر” وباقي أمراض الشيخوخة القاسية، عن أسماء من دخلوا البيت لذكرت لك بدون تردد اسم شوقي؛ اسما، من جملة أسماء كباها والسوسي والعدناني والعبودي وسكم ومحيفيظ وبريبري ونزهة العلوي وسعاد سميرس والأعرابي.. أسماء ترسبت في قعر ذاكرتها لا تفارقها.

إبان زيارات له إلى بيتي بالقنيطرة منذ ما قبل جائحة كورونا وما بعدها، وكان الرجل ما انفك يقاوم المرض الخبيث، داوم السؤال عن أحوال والدي، واقترح علي تنظيم زيارة لهما؛ الأمر الذي لم يحصل للأسف بسبب إكراهات خارجة عن إرادتنا. كان الفقيد يعز والدي يطو وبوبكر مثلما كنت أعز والديه أمي فاطمة وأبا عبد الكبير رحمهما الله.

وكرفاق خلص ممن صهرتهم عوادي الزمن وبغتاته، وهم قلة بحال، كان يعاملني ساعة الضيق كما ساعة الحرج على نحو من التفاني والمودة.  كان سندي بالقنيطرة كما كانه من قبل بالرباط. لم يكن الفقيد يرفض لي طلبا أو خدمة. لم أسمع منه كلمة “لا” في يوم من الأيام متى استجرت به، بل لم أسمع منه بالمرة كلمة “أعتذر”. كل ما كان يبلغني منه هو “أنت أطلب وأنا أنفذ”. وإذا كان من تلكؤ من أحدنا فأنا صاحبه. نعم، لطالما اقترح علي خدماته وكان الامتناع مني. وعندما يهتف بي: عجيب يا رجل، إنك غريب الأطوار. كنت أرد: أنا هكذا، ورثت جينيا نطق لفظة “لا” قبل لفظة “نعم”، ماذا أفعل !؟ ولم أكن أستأذن لألج بيته. كان بيته في أحايين عدة مأواي ولأيام طويلة. كان يحلو لنا أن نمضي ساعات ونحن نجوب أزقة القنيطرة بحي “الخبازات” أو ب”جوطياتها” نهارا، أو نلبط بالقدمين أرصفة “الفيلاج” كلما أسدل الليل سدوله، وكنا كثيرا ما نشد الرحال إلى شاطئ المهدية ونقضي لحظات نتمشى إلى جانب الموج في مده وجزره أو نجلس إلى طاولة بمقهى أو بمطعم نشرب مشروبنا وما طاب لنا منه، ونتمزز طعامنا فيما نحن نتحاكى عن فترات من حياتنا أو نتداول في قضايا المنظمة وتوابعها. كان يحلو للفقيد أن يسافر بي إلى مسقط رأسه إمنتانوت ليسرد علي سيرة والده في الحركة الوطنية وإ.و.ق.ش وعلاقاته برموزها من مثل عبد الله إبراهيم ومحمد الحبيب الفرقاني وعبد السلام الجبلي ودوره في مجلة “رسالة الأديب” وإذاعة مراكش وفي العمل الحزبي بإمنتانوت واستقباله من طرف محمد الخامس، وعن جد أبيه الذي قضى بالحبس في قصر البديع مدة عشرة سنوات.. وهلمجرا.

أذكر تلك الجولات التي كانت لنا إلى مدينة المحمدية حيث كنا ننزل بها في كل عود لنا من شارع لالة ياقوت بالدار البيضاء في اتجاه القنيطرة، فنمضي إلى الميناء نقتني دزينة سمك “سردين” مشوي في الغالب، ثم نكتري مركبا يسير بنا صاحبه إلى داخل البحر لنتقاسم مع الرجل طعامنا والوقت، ثم نرجع بعد حين إلى الشاطئ وقد اغتنمنا لحظات ترويح عن النفس ومرح كفيلة ببداية أسبوع حافلة ومُيسرة. في إحدى هذه الجولات صادفنا رفيقنا الفقيد بنسعيد آيت إيدير، الأمين العام للمنظمة، متوجها إلى مقر ك.د.ش بالمحمدية فخفرناه إليه في سيارته رنو 4 بيضاء، إن لم تخني الذاكرة، بمناسبة إحياء ذكرى عمالية. وكان لنا كلمة بالمناسبة، إلى جانب كلمة رفيقنا والرفيق عبد الرحمان زكري، باسم “حشد”. ثم إننا ودعنا رفيقينا لنسير إلى الميناء فمطاعم شارع فرحات حشاد وما جاوره. كان “مطعم البارك” للسيد بيدوخ سيركا بشارع فاس (شارع لامارن سابقا) هو الغية في غالب الأحيان. وأنسى لن أنس تلك الجولات التي كنا نترك فيها مداسينا “يقطبان” بنا أزقة وأحياء مدينة سلا العتيقة (باب المريسة وزنقة سعيد حجي و”راس الشجرة” و”سانية الصبونجي” وزنقة الحواتين و”باب حساين”… إلخ)، وكذا أحياء الرباط ابتداء من “باب الحد” إلى غاية “قصبة الأوداية”، وتلك الأكلات بمطاعم زنقة سيدي فاتح وزنقة السويقة وزنقة سيدي بن رزوق وعلى امتداد شارع محمد الخامس بالمدينة العتيقة إلى غاية البيت الذي كانت تتقاسمه أخته العزيزة فوزية مع مناضلات طالبات بزنقة “الرواء” المشرف على شارع لعلو، إذا ما لم تصب ذاكرتي آفة النسيان. وفي ذلك البيت تعرفت إلى الأديبة المغربية ر. ريحان (زوجة فقيدنا عبد القادر أزريع) وشاهدتها مرارا والكتاب لا يفارق يديها. أوقاتا أخرى أمضيناها سويا في ضيافة أخته فوزية بزنقة بلغراد في حي المحيط إذا ما “كان عقلي ما يزال ينفعني” (!) نتسامر ونتحاكى. دور عديدة بالرباط ومكناس والدار البيضاء وفاس دخلناها معا.

 ويوم زرت مدينة مراكش، وهي أول زيارة لي إليها، بتحريض منه في بدايات الثمانينات بمناسبة حفل زفاف لرفيق لنا، كنت ضيفا على بيت عائلة سي أحمد شوقي بالحي المحمدي الجنوبي لأيام. وكان لي شرف التعرف إلى والديه الكريمين رحمهما الله وباقي إخوته. وكان الرجل، أثناء تلك الجولة، مرشدي إلى التعرف على أزقة المدينة القديمة و”جامع الفنا” و”الكتبية” و”باب دكالة” و”غليز” ومدرسة ابن يوسف التي اغترف بها المرحوم والده تعليمه وزنقة سيدي عبد العزيز حيث مقر إ.م.ش جوار “دار الباشا”.. إلخ. وبرفقته أكلت لأول مرة “الطنجية المراكشية”.

وتلك الأيام كانت لنا سدى اللحمة التي قامت عليها سرديتنا لأزيد من أربعين سنة. وفي توصيف له لهذا العلاقة الحميمة التي آلفت بيننا كتب إلي من تملالت في 23 دجنبر 1988: «يكبر الزمن فينا وحولنا ويجب أن نكون في مستوى هذا الكبر.. وفي معركة الحياة مع الزمن وضده وجدت أن علاقتنا ومحبتنا تدخل الآن في عامها الثامن.. وهي بالنسبة لمسيرتي وعلاقاتي من بين العلاقات التي أكن لها كل التقدير والاعتزاز وأتمنى لها النضوج (..) عسى أن تكون السنة المقبلة سنة استقرار مهني لك ولي لنواجه الأهم والأعظم من هموم أفكارنا ومعاناتنا.. إنك كما تعرفني –وكما يردد العديد الآن و”بخوف”- كلي أمل نحو المستقبل، وإلا تعرضت “للفناء”. إنه اختيار ربما قاس، ولكنه الاختيار الذي لا مفر منه».

أيامها كان سي أحمد متابعا لخطابات جمال عبد الناصر ومروزا لها كما كان، بالتبعية، شغوفا بكتابات الكاتب والإعلامي المصري محمد حسنين هيكل، وقد دجج مكتبته بكتب هيكل، حتى أنه لا يفوت لحظة لاستحضار فقرة من كتابات الرجل. كان شغوفا بالمطالعة، وعلى هذا المستوى لم يقطع علاقته بمكتبات الرباط مثلما لم يقطع علاقته بأنشطة “منتدى الفكر والحوار”. وأحسب أنه لم يفوت ندوة من ندوات المنتدى ولم يفوت بالمثل عددا من أعداد “مجلة الوحدة” أو إصدارا من إصدارات هذه المؤسسة التي شغلت اليسار المغربي منذ أواخر السبعينات، والتي عرفت حضورا قويا لمنظمتنا بها إدارة وأنشطة. حبه للقراءة وحبه لكتاب “القومية العربية المتنورة” ورموزها جعلته مداوما على الاطلاع على أعمال فرحان صالح ونديم البيطار وياسين الحافظ وناجي علوش والسيد ياسين ولطفي الخولي.. وغيرهم. زين منجز الكثير من هؤلاء رفوف مكتبته، بالمنزل كما بالمكتب، موازاة مع كتب عبد الله إبرهيم وعلال الفاسي وأبوبكر القادري ومحمد بلحسن الوزاني. وعلى المنوال نفسه صار الرجل يكوّن ملفات حول قضايا سياسية وقانونية بعينها ولا سيما عن حالات الاعتقال السياسي أو بسبب الرأي بالمغرب ابتداء من محاكمات اليسار الجديد وا.و.ق.ش والنقابيين إلى حالات “الإسلام السياسي”. وعلى هذا الصعيد انبرى الفقيد مرافعا عن المعتقلين السياسيين، بصرف النظر عن لون انتمائهم أو ولاءاتهم، في محاكمات أقيمت بمناطق مختلفة بالبلاد. وفي كل ذلك صار يتمرس على قضايا حقوق الإنسان بالمغرب ويجعل منها ديدنه وبؤرة تفكيره ومدار ممارساته.

يوم زايل مدينة القنيطرة إلى مراكش أواخر الثمانينات زرته لمرتين في بيته بجماعة تملالت (على بعد نحو 50 كلم من مراكش، وقد افتتحت بها زوجته الصديقة العزيزة د. سعاد عيادتها الطبية). وكان هذا هو الاستثناء الجغرافي الوحيد الذي باعد بيننا. وأثناء هذه المدة، وضدا على عامل البعد الذي بات واقعا مقضيا، تبادلنا رسائل بتواتر؛ الرسائل التي جمعت بين ذكر مستجداتنا وهمومنا وعواطفنا تجاه بعضنا البعض. كتب إلي من تملالت في 26 سبتمبر 1988: «لقد استعدت هذا الصيف، وما أكثر حرارته، ذكريات عن الطفولة وأيام مراكش.. لكنها يا أخي قمة المأساة.. لقد بقيت أتأمل في مناخ الجنوب وطقوسه، كيف يمكن للإنسان المتعب، المسحوق، المقهور هنا بفعل الطبيعة الجبار أن يلتفت يوما ما إلى حقوقه وواجباته.. (…) سافرت –بالصدفة- إلى الصويرة صحبة أحد الأصدقاء.. كم تذكرتك طويلا في هذه المدينة التي كانت ولا زالت وستبقى عتيقة ومسحوقة، هي حاضرة الآن فقط بفعل المعمار الذي تركه الأسلاف وإلا كانت قد دخلت إلى المتحف. نعم تذكرتك ونحن نطوف بأحياء سلا والرباط القديمة.. هدوء وسكينة واستسلام بفعل البرودة وأشياء أخرى.. أتمنى أن تتاح لنا أول فرصة لننزل إليها. وبالمناسبة كل شيء رخيص حتى “كرامة” الإنسان (…) إنني أعيش هذه السنة وضعية “فراغ” اخترتها بنفسي، لاعتقادي أن لكرامة ولشرف البشر حدودا مقدسة لا يمكن الحياد عنها، ولكن صدقني عزيزي إنني أقدر جيدا وضعيتك وأتفهم جيدا حساسياتها خصوصا “الوضع الذي لم تكن البتة ترغب فيها” (كما تقول)، بل إن وضعيتك عندما أفكر فيها كثيرا ما تؤلمني وأعتقد أن الشرفة الوحيدة التي بإمكانها أن تعطيك دفعة حقيقية هي قضاؤك فترة من الزمن بالخارج.. لقد تعبتَ كثيرا –ولا تستحق كل ذلك- رغم قناعتي أن التعب هو ضريبة مستقبلنا الذي هو لنا بدون شك. أتذكر قولة لحسن حنفي من إحدى ملتقيات “منتدى الفكر والحوار”: «لقد احتاجت الأمة العربية في بداية الخمسينات لضباط أحرار، أما اليوم فهي في حاجة لمفكرين أحرار» وإن تعب المفكر الحر لجسيم.. وتعرفني جيدا أنني ابن ناصر وشعاري «ارفع رأسك عاليا يا أخي».. «عليك أن تشذب من خجلك ومن “ريفيتك” التي فيها ما فيها من المزاج الحاد».

كثيرا ما كان الفقيد يؤاخذني على “ريفيتي” (من الريف الأوسط، شمالي المغرب) و”خجلي” (الذي لا أحسد عليه !)، وهما الطابعان اللذان لم ييسرا لي حياة طبيعية وفي منتهى السلاسة والمطابقة. مؤاخذته لهذا “المزاج الحاد” الذي يتملكني كلما طفت “ريفيتي” على ما عداها من مسلكيات التدبر والتعقل، وازاها عمل نصوح به ظل الفقيد يعلن في كل منعطف أو مرحلة عن استعداده لتقديم خدماته. وعلى هذا الصعيد سأظل مدينا له بالكثير من المبادرات، التي للأسف، وبسبب “ريفيتي”، لم تجد الوقع المطلوب والرجع الإيجابي. في رسالة له من مراكش بتاريخ 17 أكتوبر 1987 كتب إلي: «أما أملك في الدراسة الجامعية وقدراتك على خوضها فذلك أمر لا أشك فيه مطلقا وحرام أن تضيع هذه اللحظة و”تضيعنا فيك” وكن متأكدا أنك ستجدني إلى جانبك بكل إمكانياتي.. أقولها لك بمناسبة وبغيرها، لأنك لست بالنسبة لي صديقا حميما فقط بل رجلا عشت معه فترة أثرت وبعمق في حياتي وساهمت بالكثير فيها ولا أخفيك سرا أنني برحيلي إلى مراكش فقدت فيك ذلك الرجل»..

وسواء بالرباط وبالقنيطرة، وفي غيرهما من المطارح، كانت لنا فترات سمر خلال رأس الأسبوع بخاصة هي من بين أجمل فترات عمري. ولنا فيها طرائف شتى استعدنا أقساما منها أثناء زياراته لي بالقنيطرة، قبل جائحة كورونا وبعده، وقبل أن يقعده المرض اللعين.

في “الطلبة الديمقراطيون”

     انضم سي أحمد إلينا نحن الثلاثة محسن والسوسي وأنا غداة مغادرته باب سجن سيدي سعيد بمكناس بدايات 1980 محملا برصيد تجربة ثرية ضمن فترة التلاميذ بمراكش والتي بموجبها سيق إلى المعتقل السري درب مولا الشريف بالحي المحمدي، وتجربة الحبس بمكناس لاحقا، فضلا عن ركام من قراءات في الثقافة والسياسة. وقتها كنا في خضم التحضير لشرعية منظمتنا السياسية 23 مارس. وكان عملنا الحزبي يتصف بنوع من شبه شرعية. كان اندماجه بنا سلسا للغاية. وكان اقتباله منا أكثر حرارة. كان بيننا كما إحدى النوتات الموسيقية التي كنا نفتقد. اندمج أيضا بالمجتمع الرباطي وهو المراكشي. حضوره في “الخلية الطلابية” صار حضورا لازبا، حتى أن الخلية لا تسقيم بدونه. وتحت إشراف القيادي الفذ الفقيد سي أحمد بنعزوز (عبد الكريم، الشيخ) بخاصة، وفي أحايين أخرى تحت إشراف، وبالنيابة، لسي محمد حميمة برادة (لزعر)، وفي أوقات تحت إشراف سي محمد الحبيب طالب (الريفي) بعد دخوله من المنفى، كان سي أحمد شوقي مثابرا على إعداد الأوراق المطالب بها ومساهما في النقاش الدائر ومبادها بالرأي والاقتراح ومبدعا في ترجمة القرارات المركزية وقرارات الخلية إلى أعمال ملموسة.

وبإشراف من الفقيد بنعزوز، قبل حصول المنظمة على الشرعية القانونية، ساهم سي أحمد في عمليات التأسيس لفصيلنا الطلابي من موقع مراكش ومن المركز  بالرباط أيضا. وكانت اجتماعاتنا الرسمية بمثابة مدرسة تكوين عبرها نتداول في المهام ونقرر وننفذ ونقوّم. أذكر أن المهام التي أوكلت إليه، وهو في بديات التحاقه بخليتنا بالرباط، اتخذت منحيين: الإشراف على عمل فصيلنا الطلابي بمراكش، وفي ذلك ترك الأثر الطيب، ثم العمل ضمن هيئة تحرير نشرة “الشباب الديموقراطي”، وفي ذلك أجاد وأمتع. لا يخلو عدد من النشرة دون أن يحمل مساهمات كتابية له. ولم يكن يجيد الكتابة فقط، وإن احتفظ في مسوداته بالحروف العربية المغربية التقليدية (كوضع نقطة الفاء تحت الحرف ووضع نقطة واحدة فوق حرف القاف. ثم تلك الجرات بالقلم لبعض الحروف التي تحيلك على الخط الأندلسي المغربي مثلما تلقناه في “المسيد” في صغرنا..)، بل إلى ذلك كان صاحب لسان خطيب وذلق ومفوه. ليس برجل تحريض وإنما هو رجل دعاية. وأحسب أنه كان أحسننا في المجموعة على هذا الصعيد. عندما يلقي عرضا شفاهيا يكاد لا يحتاج إلى أوراق مدبجة. يكفيه عناوين ورؤوس أقلام يفلح في تعيينها وفق طبيعة موضوع العرض، ثم يترك للسانه الاشتغال عليها تقديما وتحليلا وخلاصات. يأتي كلامه مركزا ومقتضبا وهادفا. يتحدث كما لو يحرر مقالا. وتنصت إلى كلامه كما لو كنت تطالع مقالا. لا يسهب ولا يستدرك كثيرا ولا ينفر السمع أو يشوش عليه. كان شغوفا بالاختصار، الاختصار المصيب. عرفت قاعات كليات ومدرجاتها كما شهدت قاعات معاهد ومدارس عليا مشاركات له في التعريف بمواقف فصيلنا الطلابي، “الطلبة الديمقراطيون”، من قضايا الوطن والأمة العربية وحركات التحرير الوطني. لم يكن يتوانى في الدفاع عن رأينا في شؤون أ.و.ط.م ومنافحا عن طرحنا أو في بسط مواقف منظمتنا حول الوضع السياسي بالبلاد. ولم يكن يتردد في الالتحاق بمحطات الحافلات أو القطار للتوجه نحو المدن الجامعية أو إلى مراكز تواجدنا التنظيمي الطلابي والحزبي (مراكش وفاس ووجدة والدار البيضاء..) لتنفيذ ما قرر. وبمحفظة أو بدونها كان يلبي كل دعوة إلى ندوة ولقاء حزبي. يجتمع ويعرض ويحلل ويرد. لا يتأخر عن حوار أو سجال. في محطات عدة ترافقنا. لم يكن حديثنا، ونحن في سبيلنا نحو تطبيق مهمة “طلابية” أو حزبية، سوى في كيف نطور عملنا ونتقنه ونجوّده. كان موضوع تقدم المنظمة وتوسعها يهيمن على ما عداه من همومنا الشخصية والأسرية.

وفي إطار المناقشة التي انطلقت في أفق “الشرعية” تقدم بورقة للتدعيم والتعزيز سواء على مستوى الخلية أو على مستوى التنظيم بالرباط، قناعة منه بأن طريق الديمقراطية فكرة وخطا سياسيا لم يعد يحتمل خطابات يسرواية ضحلة على مستوى النظر وفقيرة على مستوى العطاء الميداني. ووجد في “خط النضال الديمقراطي الراديكالي” الذي باشرت منظمة 23 مارس التأسيس له بدأب ومراجعة وتأسيسا، ابتداء من منتصف السبعينات، كل التفاعل الإيجابي معه. كان الهوس بآفاق المنظمة بما يضمن لها الاستقرار والمصالحة مع التربة الوطنية يشغل منه التفكير والروح معا. كان يحب العمل ويقدسه؛ العمل الذي من شأنه أن يطور ويفعل وينمي ويترجم الجهد والبذل إلى مكتسبات محققة على الأرض. لم يكن يطمئن للشعارات المزايدة ولا للأطاريح القافزة على الواقع والهاربة إلى الأمام.

بالرباط لما استقر بها سعى إلى الجمع، إلى جانب اضطلاعه بمهام حزبية، بين استكمال دراسته الجامعية بجامعة محمد الخامس وبين افتكاك قدر من مال في إطار اشتغاله بمؤسسة تعليم حر “جان دارك”، زنقة أبو حنيفة، به يتولى تحمل مسؤولياته الأسرية الجديدة. وأقدر أنه أفلح في ذلك.  وكثيرا ما حدثني عن الأثر الذي تركه عليه والديه المرحومين أمي فاطمة وأبا عبد الكبير. والدته من جهة حفزه على الشغل والانضباط، وهي التي ورثت هاتين الخاصيتين من تربية أسرتها، إذ كانت تعمد على سبيل المثال، وهو طفل بعد، إلى تمرينه على العمل والتحلي بخصال الصبر كتشغيله في تنقية مواد غذائية من فصيلة “البقوليات” وما شابه في منافسة مع أخت له. ومن ناحية والده عبر حثه على القراءة والمثابرة والتحلي بالروح الوطنية والمسؤولية وهو الابن البكر ووارث سر الأب. وأحسب أن من الوالدين، ولا شك، اجترح قوة شخصية وكاريزما.

خلال فترة التحضير للمؤتمر 17 لأ.و.ط.م ساهم بالرأي السديد في العديد من الجوانب. أذكر أننا تشاركنا في تحرير مقررات ومسودات لفصيلنا إلى المؤتمر إياه، كما حررنا معا بيانات حول موقف “الطلبة الديمقراطيون” من مستجدات فشل المؤتمر 17 وتداعياته ولا سيما عقب انسحاب طلبة الاتحاد الاشتراكي وتعليق جلسات المؤتمر؛ وهي الفترة التي تحمل فيها فصيلنا “الطلبة الديمقراطيون”، إلى جانب فصيلين آخرين “طلبة التقدم والاشتراكية” وفصيل “رفاق الشهداء”، مسؤولية قيادة المنظمة الطلابية إلى حين. وأقدر، دون مبالغة، أن الرجل كان مؤهلا لتحمل مسؤولية العضوية باللجنة التنفيذية لأ.و.ط.م.

حرص الرجل على نجاح العمل الحزبي كان كبيرا. تحضرني هنا العديد من المحطات، ومن ذلك التحضيرات الجارية لانعقاد ندوة 1983، فقد ظل الفقيد حريصا، ضمن لجنة التنظيم، على خلو قاعات “علال الفاسي” (سمية)، بأكدال في الرباط، مما قد “يفسد” الفوز التنظيمي للندوة (؟ !). شاهدته يتنقل بين الأروقة والركح والمنصة يتفحص ويتثبت من “صفاء” الندوة من الشوائب والدخلاء. يريدها ندوة “نقية” ومفلحة. حرصه “التنظيمي” هذا من حرصه على إنجاح المهام الموكولة إليه حتى في تفاصيلها. هي جزئيات ولا شك، لكنها جزئيات قد ترهن العمل الحزبي. لذلك كان الرجل حريصا على أن تستوفي أوفر الشروط للنجاح. لم يكن يحبذ ترك المصادفات تتحكم في عمله.

في نشرة “الشباب الديمقراطي”

    عرفت “مطبعة التومي”، بزنقة دمشق، ومقهى “السفراء” بشارع محمد الخامس، جلسات لنا، نحن أفراد الخلية، بالإضافة إلى رفيقنا عبد الوهاب الصافي لاحقا بعد عودته من المنفى، لمواكبة عملية الإشراف على طبع نشرتنا الطلابية؛ وهي الجلسات التي كان يتخللها تداول الجديد في عملية الطبع ومراجعة المواد وتصفيف حروف اللينو.. إلخ، وتبادل مستملحات وقفْشات وطرائف للتخفيف من تعب دوام اليوم.

وعندما زج بعيوش والسوسي، في بداية الثمانينات على إثر الإضراب الطلابي، بحبس لعلو، أنيطت بنا، أنا وهو، مهمة السهر على استمرار نشرة “الشباب الديمقراطي” بإشراف من سي أحمد بنعزوز. كانت النشرة قد بدأت تتحول إلى مجلة في شكلها ومحتوياتها، ولم تعد تقتصر على هيئة التحرير الأصل (أربعة رفاق)، بل توسعت الهيئة لتشمل رفاق آخرين (أحمد الخمسي ومحمد تيريدا ومحمد بكريم.. )، كما توسعت لتشمل مساهمات دائبة لرفاق من قبيل سعيد يقطين وعبد الوهاب الصافي ونور الدين الطاهري، فضلا عن مشاركات ثابتة من السجن المركزي (أحمد حبشي وأحمد بوغابة..). كان التفكير جاريا في أن تقلص هذه الدورية من مسافة زمن صدورها وتحسن من شكلها ومضامين مواضيعها. لكن اعتقال محسن وحسن (المدير المسؤول) أثر كثيرا على هذه الصيرورة.

وفي خضم هذه الاهتمامات كان لي وللفقيد سي أحمد نصيب من العمل على إخراج الأعداد الأخيرة من النشرة بالدار البيضاء. أذكر أننا كنا نمضي أياما بكاملها داخل “مطبعة بنشرة” بالدار البيضاء التي كانت قد أدخلت أول آلة للتصفيف الإلكتروني Compugraphic الأمريكية سنة 1980، وفيها كانت تطبع دورية “الهدهد” للفنان الفكاهي أحمد السنوسي (بزيز) الذي التقينا به بالمطبعة لأكثر من مرة وكانت لنا معه أحاديث، إلى جانب مجلة “الثقافة الجديدة” لمحمد بنيس و”الزمان المغربي” لسعيد علوش.. وهلمجرا. كان سي أحمد إلى جانب إشرافة على صفحتين بنشرة “الشباب الديمقراطي” خاصتين بمتابعة أحوال الساحة الطلابية وتطوراتها المتسارعة ومواكبة أنشطة “الطلبة الديموقراطيون” يهب إلى المساهمة في “حزم الأعداد” المطبوعة وإيصالها إلى المراكز التي له صلة بها.

كانت أيام عمل متواصل وتعب حقا. نظل بمطبعة “بنشرة” واقفين، مثلما كان عليه حالنا بمطبعة التومي بالرباط من قبل، نصحح ونراجع، وحين نغادر نبقى نخبط مربعات الشوارع والدروب بحثا عن مطعم رخيص أو ساندويش شارع به نسد الرمق لكي نستمر، حتى إذا غابت الشمس نحير في أي الطرق نسلك، وفي أي باب نطرق أو مقر نأوي إليه. لم نكن نملك من مال بين يدينا سوى ما به نسد الرمق. أرصفة الدار البيضاء تشهد أننا مزقنا نعالنا على مربعاتها. وكثيرا ما استغللنا مقر إيواء ضيق ومؤقت لرفيقنا حسن العدناني الذي أجاد به عليه أفراد من جهة رفيقنا عيوش، لكي نقضي به ليلتنا. ومع ذلك لم نكن نفرط في خلق أجواء تباسط وتلاطف ومزح ونكتة ولا سيما بصحبة العدناني ورفيقة حياته رفيقتنا نجية. كنا نرطب أقدامنا وأطرافنا بماء، ثم نهب إلى ما استجلبناه معنا من مونة نروق بها الخاطر ونهدئ بها حوار المسغبة المستفز. في أوقات استضافنا بيت رفيقنا محمد بكريم بحي سباتة الذي كنا نبلغه مشيا متعبين حتى إذا فتح لنا الباب استقبلنا بابتسامة وضاءة وقضينا رفقته وقتا نتذاكر ونتسامر ونتحاكى. وفي كل ذلك كان سي أحمد شوقي يجيد تدوير أساليب التحمل والصبر. ولأنه كذلك فقد تجاوزت معه صعابا. كيف لا وهو المتحمل لأحوال اعتقال وحبس؟ أثرُ سي أحمد على استمرار صدور نشرة “الشباب الديمقراطي” أثر بالغ كأثره القائم في تطور عمل المنظمة خلال فترة الشرعية بالقنيطرة.

في بعض خاصيات الرجل

    الفترة التي قضاها سي أحمد بالرباط في الثمانينات كانت فترة تميز وتفكر وبذل. والاجتماعات التي آلفت بيننا بمختلف الدور بأكدال وحي السلام بسلا وبمواقع مختلفة بالعاصمة، ثم بالدار البيضاء (سكن محسن عيوش)، كانت كفيلة بانتساج علاقة تقارب قوية بيننا. مع أحمد شوقي بالرباط، بعد أن استقر بها، في النصف الأول من عقد الثمانينات، وجمع شمل أسرته الصغيرة في شقة بحي القبيبات أولا، ثم بشقة بحي أكدال لاحقا، عشت وإياه لحظات لا تنسى.. في هاتين الشقتين ذقت طبخ سي أحمد من ذات أصابعه. من الرفاق الذين أحسبهم من الطهاة المتميزين هناك ثلاثة. محمد الحبيب نظيف وحميد باها وأحمد شوقي بنيوب. هؤلاء لا يحتاجون لكتب طبخ مدونة يستعينون بها. هؤلاء يحتاجون للتسوق فحسب. وأما نوع الطبيخ ومشمولاته فهو أمر حاضر في الذهن بمجرد دخولهم “المارشي”. ينظرون إلى المعروضات من الخضراوات واللحوم أو الأسماك فتتواتر، في التو، أشكال الطبيخ المعتق والفاره في أذهانهم. تأتي أصناف الوجبات بالتلقائية. وحينما تذقها وتطعمها، وقد استوت على المائدة في صحون، فبالتأكيد ستستزيد ولا تمل أو تأنف. الطبخ فن. وعند هؤلاء الرفاق هو كذلك. من أين جاؤوا بهذا الحس أو الإلهام؟ كنت أغبطهم وما أزال. في شقة أكدال أقمنا لحظات غبطة وفرح نحن الأربعة (شوقي وزوجته والسوسي وأنا)؛ لحظات ماتعة محفورة في الوجدان والعقل ولم نكف قط عن استعادتها كلما كان لنا لقاء بالمصادفة أو بالعمد، خلال سنوات القرن 21؛ تلك الذكريات الرفاقية والإنسانية أنا مدين بها لهذا الرجل ولزوجته العزيزة د. سعاد سميرس وللسوسي. وفي هذه الشقة كانت للرجل مواقف إنسانية كبيرة مع رفيقات ممن عشن أحوال حياة صعبة. وبهذه الشقة أمضى فترة نقاهة بعد عملية جراحة فتاق. وبهذه الشقة كذلك احتفلنا معه بحصوله على شهادة الإجازة في العلوم السياسية من كلية الحقوق- أكدال؛ الشهادة التي خولت له الانخراط في قطاع المحاماة والالتحاق، بالتالي، بمكتب ذ. النقيب عبد الرحيم الجامعي بالقنيطرة لتمضية فترة تمرينه، فمقاسمته إصدار مجلة “الإشعاع”. وبنتيجة مرافقته للنقيب ذ. الجامعي لسنوات اكتسب الفقيد سي أحمد مراسا في المهنة وتجربة في المرافعة وعلما في ثقافة الحقوق والقانون. لا يكف الفقيد في ذكر شمائل النقيب الجامعي ومناقبه ووزن يده البيضاء عليه. ولن أزور عن الحقيقة إن قلت إن النقيب كان في مقام “الشيخ” بالنسبة ل”المريد”. مرات عديدة تلك التي زرته بمكتبه سواء بمكتب ذ. الجامعي أو بمكتب النقيب ذ. بلقائد، وهما معا بشارع الإمام علي، أو بمكتب ذة. المنيعي بحي المعمورة. وكان حريصا على أن يكون مكتبه منظما ورفوف خزانته عامرة بأمهات الكتب في “الفقه القانوني” والثقافة والسياسة. لا يتردد بالمرة في اقتناء الكتب متى حل بالرباط أو الدار البيضاء، إبان معارض كتب أو بدونها، تزيينا لخزانته وتأهيلا لمعارفه وإثراء لها.   

في مهنة المحاماة والعمل الحقوقي

    في تلك الفترة من سنة 1984 شهد المغرب حملات اعتقال واسعة زج فيها المئات من المناضلين والمواطنين في غياهب السجون على امتداد خريطة المغرب. كانت فترة قاسية. وكان عقد خليتنا قد انفرط، منذ اعتقال محسن وحسن في سنة 1981، على إثر الإضراب الطلابي الوطني. ولم تعد الخلية إلى اجتماعاتها بعد ما غادر محسن وحسن السجن. ألحق حسن بهيئة تحرير جريدة “أنوال” لتستوعب كامل جهده في متابعة قضايا الشرق العربي ولا سيما منها قضية فلسطين وبلجنة الرباط للمنظمة، وغادر محسن وأسرته إلى الدار البيضاء. لقاءاتنا باتت ذات رفقة ولم تصر، إلى ذلك، علاقة خلوية. وما برح أن سكن الرجل بالقنيطرة على إثر تخرج زوجته من كلية الطب وفتحها لعيادة بحي “بام”. تزامنت هذه الفترة بالتحاقي أنا الآخر بجسم المتفرغين الحزبيين لأباشر عملي الحزبي بين القنيطرة والدار البيضاء ومد جريدة “أنوال” بمواد إعلامية للنشر تارة باسمي الشخصي وتارة باسم “التوزاني” أو “الميضاري” أو الغرباوي”. اكتريت شقة عزاب بشارع محمد الديوري على بعد مسافة من سكن الفقيد بزنقة معمورة، ثم بعد حين بشارع محمد العمراوي. لم نكد نفترق سوى بفعل انشغالات كل واحد منا ومسؤولياته. وبقدر ما فتح مكتب ذ. الجامعي أبوابه على مصراعيها لكي يندمج الفقيد بهيأة المحامين بالمدينة ولا سيما وأن محاميين من قبيل ذ. نزهة العلوي وذ. ع. المصمودي كان له العضد في مباشرة تمرينه على نحو هين بالقدر نفسه اندمج بجسم المنظمة بالقنيطرة وصار أحد أعمدتها الأساس. ومن الطبيعي أن يلتحق باللجنة المحلية للمنظمة، م.ع.د.ش. وكثيرا ما كان يقاسمني محاور وأفكار أوراق مداخلاته “القانونية” في “ندوة التمرين” والأمر نفسه يفعل بشأن مرافعاته في قضايا الدفاع عن معتقلي الرأي مهما كان لونهم السياسي. على هذا المستوى لم يكن يعنيه التحيز لطرف دون آخر أو استثناء رأي سياسي ما من الدفاع عنه. في كل محاكمة تقريبا له كان له حضور. كان اندماج شوقي بممارسة المحاماة والاعتناء بمسائل حقوق الإنسان بالغ التأثير على مستقبله المهني والنضالي.

وفي  سياق التواصل بمعتقلينا بالسجن المركزي بالقنيطرة منح بكل أريحية وقته وجهده لجعل هذا الارتباط متواصلا ونافعا. وكثيرا ما رافقته إلى القنيطرة لأداء هذه المهمة على غرار ما كان يقوم به رفاق آخرون ومنهم الفقيدين إبراهيم ياسين ومحمد بنشقرون رحمهما الله.

ومن أجمل ذكرياتي مع الفقيد أننا كنا ضمن الوفد الذي استقبل في مارس 1980 رفاقا لنا في قيادة المنظمة الذين كانوا منفيين بالخارج (فرنسا والجزائر) ورفاقا لنا غادروا السجن المركزي في ما بعد. ومن ذلك سي محمد فكري وإبراهيم موطى وحبشي ومفتاح والعلمي وتافسكا.. وهلمجرا، بل وكان لنا شرف اصطحاب فقيدنا عبد السلام المودن في أول ليلة له خارج الحبس إلى بيت الفقيد حسن السوسي بحي المحيط، والأمر نفسه حصل من قبل مع فقيدنا رشيد نزهري بحي أكدال. واحتفظنا بذكريات عن تلك الليلين بالضبط.

في هذه الفترة توطدت علائقي بالرجل حتى بتنا كالتوأم. يحدث أن أغيب عنه لسبب من الأسباب فيظل يبحث عني وقد يطرق باب شقتي مستفسرا عن هذا الغياب الفادح. وكان سندي بالقنيطرة كما كانه من قبل بالرباط. لم أكن أستأذن لألج بيته. كان بيته في أحايين عدة مأواي ولأيام طويلة. كان يحلو لنا أن نمضي ساعات ونحن نجوب أزقة المدينة كلما أسدل الليل سدوله، وكنا كثيرا ما ننتقل نشد الرحيل إلى شاطئ المهدية ونقضي لحظات نتمشى إلى جانب الموج في مده وجزره أو نجلس إلى طاولة نشرب مشروبنا فيما نحن نتحاكى عن فترات من حياتنا أو نتداول في قضايا المنظمة وفرعها بالمدينة. وكان فترات سمر خلال رأس الأسبوع من أجمل فترات عمري. ولنا فيها طرائف شتى. كان سي أحمد وقتها متابعا لخطابات جمال عبد الناصر ومروزا لها كما كان، بالتبعية، شغوفا بكتابات الكاتب والإعلامي المصري محمد حسنين هيكل، وقد دجج مكتبته بكتب هيكل، حتى أنه لا يفوت لحظة لاستحضار فقرة من كتابات الرجل. وعلى هذا المستوى لم يقطع علاقته بمكتبات الرباط مثلما لم يقطع علاقته بأنشطة “منتدى الفكر والحوار” الذي مثل به منظمة العمل الديمقراطي الشعبي إلى جانب ثلة من رفاقه. وأحسب أنه لم يفوت ندوة من ندوات المنتدى ولم يفوت بالمثل عددا من أعداد “مجلة الوحدة” أو إصدارا من إصدارات هذه المؤسسة التي شغلت اليسار المغربي منذ أواخر السبعينات، والتي عرفت حضورا قويا لمنظمتنا بها. كان الفقيد محبا للقراءة ومتابعا لأعمال كتاب القومية العربية المتنورين، فرحان صالح ونديم البيطار وياسين الحافظ وناجي علوش والسيد ياسين ولطفي الخولي.. وغيرهم. زينت كتب هؤلاء رفوف مكتبته بموازاة كتب عبد الله إبرهيم وعلال الفاسي وأبوبكر القادري ومحمد بلحسن الوزاني. وعلى المنوال نفسه صار الرجل يكون ملفات عن حالات الاعتقال بالمغرب ابتداء من محاكمات اليسار الجديد وا.و.ق.ش. وعلى هذا الصعيد انبرى الفقيد مرافعا عن المعتقلين السياسيين، بصرف النظر عن لون انتمائهم، في محاكمات أقيمت بمناطق مختلفة بالبلاد. وفي كل ذلك صار يتمرس على قضايا حقوق الإنسان بالمغرب ويجعل منها ديدنه وبؤرة تفكيره.

في “حركة الشبيبة الديمقراطية”

   حلت ندوة تأسيس حركة الشبيبة الديمقراطية (سبتمبر 1985) التي كان له دور مهما في إنجاح التحضير لها كما في إنجاح أشغالها. انتخب عضو مكتبها الوطني ومن أعمدته الأساس. ولقد تحامل على نفسه كثيرا يوم هب أعضاء ثلاثة من الكتابة الوطنية، دون سائر باقي الأعضاء، ولأسباب غير مفهومة ( !؟)، إلى فتح تحقيق معه ومع حسن السوسي، أحيت بذاكرته مشاهد من فترة اعتقاله. ولا زلت أحتفظ بالمشهد الذي عاد فيه من هذا التحقيق وهو يبكي. فلم يكن يتصور لا هو ولا حسن ولا أنا أن يبلغ الأمر بأعضاء من الكتابة الوطنية حد التشكيك في رفاق تحملوا عبئا كبيرا في إنجاح الندوة الشبابية. ولم ينس قط أن أحد أعضاء المنظمة المعروف بتشدده الزائد هو الذي كان يقوم مقام حارس أعضاء الكتابة الوطنية الثلاثة ووكيلهم في المناداة على حسن وشوقي.

الليلة التي جرت فيها هذه “الأحداث الرهيبة”، وهي الليلة التي كنا منكبين فيها نحن الثلاثة، في غرفة بالمركز التربوي درب غلف على وضع آخر اللمسات على مختلف الكلمات والملتمسات والتوصيات كانت ليلة استثنائية. وإنني أكبر في الرفيقين حسن وشوقي كونهما جنباني بردودهما القوية أثناء التحقيق معهما الوصول إلى هذه المحطة من مساري. وتحامل الرفيقان على نفسهما لتجاوز ولو مؤقتا آثار تلك الليلة بعدما استنكر باقي أعضاء الكتابة الوطنية هذه الممارسة المستقبحة في عملنا الحزبي. تلا شوقي كلمة اللجنة التحضيرية، كما لو أن شيئا لم يحصل، وانتخب عضو مكتب الحركة كما انتخب السوسي كاتب عاما لها، ثم انفض جمع الشبيبة، لكن هل انمحى ما وقع في تلك الليلة بالمركز التربوي؟ أجزم أن هذا الحدث حمله معهما كل من شوقي وحسن، كما حملته أنا بدوري، في الدخيلة لما تبقى من العمر. ولقد ذكرني به المرحوم في آخر لقاء لنا وهو طريح الفراش، وكان يرغب في أن يعرض له في سيرة ذاتية له مسهبة. آثار تلك الليلة، وآثار غيرها من الممارسات من هذا القبيل لم تندثر . ففي سنة 1989 لم يجدد شوقي عضويته ب”حشد” في ندوة فاس. عضو واحد من المكتب السابق هو الذي جدد هذه العضوية. هاجر حسن إلى فرنسا بعدما ضاقت به أحوال المعاش بالداخل وغادر شوقي إلى مراكش فتملالت في عقب زوجته. وبقيت أنا أنتظر فرصة لفك الحصار عني من جهة استكمال دراستي الجامعية والعثور على شغل يقيني ضنك الوقت. وكان التحاقي طالبا بالسلك الثالث بالمعهد العالي للصحافة بالعاصمة سنة 1989 البداية الجديدة لحياة مغايرة صنعت مني ما صنعت إلى يوما هذا.

 في عضوية اللجنة المركزية وما بعد حركة غورباشوف

    كل ندوات المنظمة، منظمة العمل الديمقراطي الشعبي، ما قبل المؤتمر الوطني 1985، حضرها. وكان واضحا أن هذا المسار النضالي الثري يؤهله لاكتساب صفة عضو اللجنة المركزية. وكان أصغر أعضائها مثلما كان أصغرنا بالخلية. أذكر أنه يوم اختتام أشغال المؤتمر ذرف دموعا حرى. كان يعتبر أن هذه اللحظة التاريخية في حياة المنظمة إنما تترجم تضحيات جسام لأفواج من المناضلين ومنهم بالأساس طرف واسع لا زال يقضي محكومية جائرة في السجن.. بين 1985 و1989 دأبنا على زيارة المحمدية قبل أن نركب القطار في اتجاه القنيطرة. الأوقات التي كنا نقضيها بمرسى المدينة نتناول وجبات شواء سردين أو بمطاعم شارع فاس الأنيقة والباذخة ونحن أمام وجبة سمك وشراب لذيذ لا تنسى أبدا. أذكر يوم رافقنا الرفيق بنسعيد من الدار البيضاء إلى المحمدية لحضور لقاء للك.د.ش فألفينا نفسنا نسهم بكلمة باسم الشبيبة. التحضير لندوة الشبيبة بفاس كانت تحديا بالنسبة لنا. وكان الرجل قد تعهد هذا التحضير بالحضور والمواكبة. وكان علينا أن أن لا نترك شغور مقعد حسن السوسي عنصر تلكؤ. اشتغلنا في شروط صعبة كانت تمر منها المنظمة كما باقي قوى اليسار في سياق تراجعات ديمقراطية بالبلاد كانت تنذر بأوخم العواقب. عقد الثمانينات لم يكن سهلا. كان همنا أن نصل إلى ندوة فاس للشبيبة بأقل الخسائر ونوفر شروط انطلاقة جديدة.

كان شوقي يكن كل الاعتبار لأحمد بنعزوز. وكثيرا ما كانت سيرة الرجل مثار أحاديث بيننا. أضرنا ما انتهى إليه رفيقنا بنعزوز وهو الذي تعلمنا على يديه كيف تزان السياسة بميزان العقل والحكمة. كان بنعزوز مدرسة في الإشراف السياسي والتنظيمي. هذه قناعتي وقناعة شوقي. مثل هذا الرجل هو الذي كان يضعه الفقيد شوقي نبراسا في تقدير كل وضع سياسي. وفي كل الاجتماعات التي عقدتها خليتنا بأكدال أو بشارع الجزائر بالرباط أو بحي السلام بسلا أو بحي فرانس فيل بالدار البيضاء، وهي الاجتماعات التي تجري ببيت رفيقنا محسن في الغالب الأعم، كان الفقيد في الموعد من حيث الحضور والالتزام. وكثيرا ما كان الكتاب رفيقه. كان محبا للكتاب ودائم التسآل عن الجديد. وأذكر كيف استقبل سي أحمد شوقي رياح الديمقراطية التي هبت على بلدان “المعسكر الاشتراكي”. قرأنا معا أعدادا لا تحصى من الكتابات التي تابعت هذ الحدث الكوني الذي هز العالم من أساسه. زادنا في ذلك لم يكتف بمنشورات “أنباء موسكو” أو مقالات المنافحين عن نظام “البريسترويكا والكلاسنوست” من مشارقة وغربيين، بما في ذلك كتابات غورباشوف، بل تعداها إلى وضع ملفات عن كل بلد “اشتراكي شرقي”. كنا كما لو نعيد النظر في منظومة فكرية وسياسية بكاملها. ولقد طالت هذه المراجعة وقائع بلدان “تقدمية” أخرى شأن اليمن السعيد ولا سيما بعد اندلاع عمليات الاحتراب الداخلي بين رفاق الأمس في 13 يناير 1986 بين عبد الفتاح إسماعيل وعلي ناصر محمد؛ وهي التجربة التي كنت أتابعها والفقيد باهتمام كبير وربما بمبالغة، حتى أننا كنا وضعنا سويا برنامجا لتحرير كراريس تثقيفية وتكوينية عنها على نحو ما كان يصدر في المشرق العربي تحت عنوان “دليل المناضل”.  كانت ليالينا عامرة بالنقاش والتفكير وتداول الكتب. وكنا على قناعة أن يسارنا دون ما يجري في العالم. كتب إلي من تملالت بتاريخ 06 سبتمبر 1988: «بخصوص مطالعاتي الحرة أعدت قراءة كتب ياسين الحافظ وكتابين لهيكل وبعض الدراسات عن الناصرية وكتاب غورباشوف وجزأين للوزاني (حرب القلم) …المهم هو أن نطالع ونطالع ونطالع، فالفضاء بطبيعته رحب وواسع ومصيبة المرء أن تظل رؤيته ضيقة ومتحجرة»

وفي رسالة له من مراكش بتاريخ 17 أكتوبر 1987 كتب: «مؤخرا قرأت الاستجواب الذي أجرته “القبس” مع هيكل بمناسبة الانتخابات الرئاسية. ومن بين ما جاء في معرض حديثه عن التغيرات العديدة التي يعرفها العالم [وهذا.. وهذا.. وهذا كثير وكله يحتاج إلى درس وتأمل فنحن في عصر آمال عظيمة ومخاطر عظيمة ولا بد أن يدرك الجميع أن هؤلاء الذين لن يعبروا الجسر إلى القرن الواحد والعشرين سوف يظلون أسرى التخلف إلى الأبد.. وبداية كل شيء أن نفهم عالمنا ودون ذلك كل شيء مستحيل» . اعتبرت هذه الكلمة هي أقوى مما قد أتصور واعتبرته بالإضافة إلى ذلك “إنذارا رهيبا”. وفي محاولة للتخفيف منه طرحته بالمناسبة على بعض الأصدقاء، فكانت أجوبة بعضهم كالتالي: – إنه أمر طبيعي ومسلم به؟ ! – هل تتصور أنه بإمكاننا أن نصل مرتبة الغرب؟ ! – ولكن خصوصياتنا تختلف عن خصوصيات الآخرين؟ ! سكتت مطأطئ الرأس وعاضا على شفتي، ومتذكرا قولة لأحد الأساتذة الفرنسيين مواجها بها زميله العربي (إنكم لستم متخلفين فقط، بل أنتم فرحون بتخلفكم). لا زلت أصر على أن أجد وقتا للمطالعة وسط زحمة العمل ومشاكله ومشاكل الحياة، ولكن في كل الأحوال هو هذا الإصرار.. أتتذكر معي قول أوغست كونت: ‘اعرف لتتوقع ثم تعمل”».

تزامنت هذه الوقائع مع عود جديد للفقيد صحبة زوجته إلى مدينة القنيطرة بداية التسعينات. وهو عود صادف انتقالي للدراسة بالرباط. ومع ما كنت أوليه من عناية كبيرة لإنهاء مشواري الدراسي والانخراط في الوظيف العمومي، فلم نكن نفوت فرصا للمعايدة وتبادل الزيارة واستثمار نهزات للتسكع بأزقة الرباط وسلا كما دأبنا على ذلك من قبل. ابتعدت عن السياسة. أقصد جعلت نصب عيني إنجاح دراستي وولوج العمل، إذ الزمن والعمر لم يعودا يسمحان. تفهم الفقيد هذا التوجه الذي غالبته. وكان لا يني يشجع تماما مثل عهدي به قبل سنوات. ولم أحضر مؤتمر 1992. الفقيد هو الذي دفعني إلى كتابة كلمة اعتذار عن غيابي موجهة تعيينا إلى الرفيق العربي مفضال. لكن هو الذي اتصل بي لما بدت نذر استفحال أزمة المنظمة غداة هذا المؤتمر للالتفات إلى ما يقع. ولقد انخرطت ضمن جماعة من الرفاق على التدخل “بالتي هي أحسن” لمحاولة رأب الصدع الذي بات يكبر. وفي ذلك حررنا سنة 1993 بيان مناشدة اجتمع حوله أزيد من 55 مناضلا وإطارا وسلمناه (أ. بنيوب وع. السعيدي وم. الهجابي) في نسخ إلى بنسعيد والمريني ومسداد أثناء اجتماع اللجنة المركزية بزنقة صنعاء. على أن البيان إياه استقبل، للاسف، بارتياب من طرف أعضاء من الكتابة الوطنية، وسرعان ما همش وأقبر كما لو لم يكن له من وجود وكما لم يوقعه أحد من الأطر والمناضلين. وكنا هيأنا بالموازاة مسودة لنقاش ديمقراطي بين الاتجاهين المختلفين في أفق إيجاد صيغة توافق تقي المنظمة عواقب الخراب. حز في نفسنا ما بلغته المنظمة من أحوال لا تحسد عليها.

كنت في إجازة بمدينة الصويرة سنة 1996 يوم استمالتني إشارة بجريدة موسومة بـ”أنوال الجديدة” مؤداها العملي أن المنظمة على شفا انشقاق عمودي، فهالني الخبر. هل كان الأمر في حكم غير المتوقع. قطعا لا، فمنذ 1987 صرت أحدس أن المنظمة في سبيلها نحو وضع سيئ. وكان رأيي، وإن بقدر من المبالغة، أن المنظمة ولا شك ستصل مرحلة من الأزمة يصعب معها أي علاج. وفي سنة 1989 باتت قناعتي أنه من الأفضل أن تعقد المنظمة مؤتمرا لإصدار قرار بحل ذاتي لأجهزتها قبل أن يتكفل الزمن بذلك، وتخلي سبيل مناضليها ليختاروا مصيرهم ويقرروا فيه. وعلى قدر ما أخذت لي مسافة مما يحصل، عقب لحظة انخراط وجيزة، حتى وإن كنت أشارك قناعات عامة لمحمد الحبيب طالب، كان الفقيد، من جانبه، متورطا في هذه التطورات. وبات يعتبر نفسه طرفا.

وبعد حين، طوى الفقيد صفحة المنظمة، والعمل الحزبي، ليتجه نحو العمل في ميدان حقوق الإنسان، فكرس وقته لجمع مواد فلسفية وقانونية وتخلص من الكثير من  الكتب ليقصر هذه الرفوف على ما يشغل باله وتفكيره. وكانت زياراتي له بعد انتقاله إلى الرباط بشارع عبد الرحمان الغافقي قد دلتني على أن الرجل جاد في ترك بصمته على هذا الميدان وفي الكتابة فيه وعنه. تحمل مسؤوليات بالمنظمة المغربية لحقوق الإنسان التي حضر مؤتمرها التأسيسي في يناير 1989.

بالمصادفة في الغالب كنا نلتقي لنجلس إلى طاولة مقهى نتبادل الأخبار الخاصة. لكن لما استقر ثانية بالقنيطرة صرت أزوره بسكناه بحي فال فلوري. كان يحدثني عن مشاركاته في ندوات “هيأة المحامين” ومساهماته في إنجاح مجلة ‘الإشعاع” التي كان يشرف عليها النقيب القدير ذ. عبد الرحيم الجامعي. زرته مرة بسكنه بالرباط فأطلعني على حجم الملفات والكتب التي كان تضمها مكتبته الحقوقية والقانونية. كان تفكيره منصبا على التأليف. وفي ذلك شرع في الكتابة عن قضايا حقوق المواطنة والإنسان. ولما نودي على الرجل للاضطلاع ما بين 2002 و2006 بمسؤولية في هيئة الإنصاف والمصالحة فالمجلس الاستشاري لم نعد نلتقي تقريبا، وحتى إذا التقينا فبالمصادفة يحدث. وكنا نترصد أخبار بعضنا البعض عن طريق الأصدقاء والمعارف فحسب.

 بتاريخ 26 سبتمبر  2023 أبلغني صديقي العزيز أنس الحسناوي برحيل سي أحمد شوقي. أخرس الخبر- الفاجعة مني اللسان. قضيت فترة قبل أن أروي في الخبر وأستوعبه. هل كنت أنتظره؟ أقول: لا. في آخر زيارة له إلى بيتي بالقنيطرة في شهر يونيو 2023 تحدثنا طويلا عن رفاق رحلوا. ولم نتحدث عن عللنا. ولم يشأ أن يفصل في معاناته مع المرض اللعين. حدثني عن مشاركته في إخراج كتاب عن فقيدنا حسن السوسي “الرحيل القاسي”، وأهداني كتاب “دفاعا عن المحاكمة العادلة” للأستاذ عبد الرحيم الجامعين التي أشرف الراحل بنفسه على عملية النشر، وكتب تقديما للكتاب بصفته المندوب الوزاري المكلف بحقوق الإنسان؛ وهي المسؤولية التي تحملها منذ 6 دجنبر 2018، ومن جديد أطال الكلام عن تجربته مع النقيب مستعرضا شمائل الرجل وآثاره على مساره. خارج العمارة، ونحن نتوادع، رفع يديه من خارج زجاج السيارة محييا ومشددا على نيته في زيارة قريبة؛ الزيارة التي لم تتم للأسف.

قبل شهر وبضعة أيام من رحيله هاتفني، وبالكاد كانت الألفاظ تخرج من فيه، مؤكدا على حاجته لمجالستي بمنزله. أسرعت إلى زيارته وقد توجست سوءا. في هذه الزيارة ورغم تعب المرض الفاجع أفضى إلي بأمله في أن يمهله المرض وقتا حتى يكمل فيه مشاريع كتب ظلت تلازمه في السنوات الأخيرة، ومن ذلك توسيع لسيرته الذاتية التي ضمن بعضا من ملامحها في كتابه المشترك مع امبارك بودرقة “وكذلك كان” (2017) والتي وسمها ب”سيرتي_ جذوري…”، ومشاريع أخرى ترصد خبرته في مجال حقوق الإنسان، ولا سيما في إنجاح عمليات “العدالة الانتقالية وطي  صفحة ماضي الاعتقال السياسي”.

في 27 سبتمبر حضرت جنازته المهيبة صحبة ثلة من رفاقي وبرفقة عزيزنا سي محمد فكري بمقبرة الشهداء بالرباط حيث ووري الثرى، فالحفل التأبيني الذي نظم له بداية شهر نونبر 2023 بالمكتبة الوطنية. طوال هذه المدة لم أكتب عن رحيله. لم أكن أقدر. كنت في حاجة لمزيد من الوقت. اليوم فقط، وفي ذكرى رحيله الأولى، استطعت تحرير هذه الصفحات لعلها تخفف عني ألم فراقه، فاللهم وسع رحماتك على فقيدنا سي أحمد شوقي بنيوب وألهم ذويه الصبر والسلوان.

***

للراحل عدة مؤلفات فردية وجماعية، أذكر منها:

– تقرير حول مراقبة وتقييم الانتخابات الجماعية ليوم 13 يونيو 1997. – دليل حول المعايير الدولية والمقتضيات الوطنية المنظمة لانتخابات أعضاء مجلس النواب– عدالة الأحداث الجانحين– ضمانات المحاكمة العادلة– هيئة التحكيم المستقلة – حقوق الإنسان وقضايا الانتقال الديمقراطي بالمغرب (مؤلف جماعي) – المغرب والاختفاء القسري – برلمان الطفل.

محمد الهجابي، القنيطرة في 26 سبتمبر 2024.

____________________________________________________________________________________________________________________________________________

  • الصور الرئيسية:

    1-شوقي بنيوب صحبة مناضلي القنيطرة (المرحوم إدريس صيكوك … بلعربي وعزيز ومصطفى سكم وفاطمة) بمؤتمر معدش 1985

    2-رسالة للفقيد بنيوب بتاريخ 23 دجنبر 1988

    3- رسالة للفقيد شوقي بنيوب بتاريخ 17 أكتوبر 1987

    4- نشرة الشباب الديمقراطي يونيو 1981

    5- شرة الشباب الديمقراطي أكتوبر (وضمنه حوار أجراه بنيوب والهجابي مع محمد الحبيب طالب) 1983

Visited 3 times, 3 visit(s) today
شارك الموضوع

محمد الهجابي

صحفي وكاتب