الأديب سليمان فياض والواقعية النقدية
الصادق بنعلال
أ – شكل الأديب المصري الكبير سليمان فياض الذي غيبه الموت يوم الخميس 26 فبراير 2015 عن سن يناهز 86 سنة، علامة فارقة في مسيرة الإبداع الأدبي والفكري على وجه العموم، ليس فقط بفضل ما خلفه من مؤلفات رفيعة شملت القصة والرواية واللغة والتاريخ.. وإنما لنوعية هذا المنجز الإبداعي ومحايثته لإشكالية النهضة العربية الحديثة، وإصراره على مساءلة ماضي وراهن الثقافة العربية بعيدا عن الصخب الإعلامي، وإلحاحه على المساهمة المنتجة من أجل إكساب” النهضة” بعدا وجوديا مخصوصا.
ب – وهكذا لم يخل عطاؤه الثقافي والأدبي منذ مستهل الستينيات من القرن العشرين من إضافات تنزع نحو التجديد والاجتهاد. فعلى مستوى الدراسات اللغوية لم يتوان عن دعوته إلى التغيير الإيجابي لمناهج تدريس مواد اللغة العربية، عبر مؤلفات رصينة من قبيل: معجم الأفعال العربية المعاصرة والدليل اللغوي والنحو العصري.. وهي كتابات تروم تسهيل الدرس اللغوي وخدمة اللغة العربية بالشكل الذي يجعلها أداة طيعة للنهوض الحضاري للأمة العربية. وعلى صعيد الإبداع الأدبي أثرى الراحل سليمان فياض الخزانة العربية بمجموعاته القصصية مثل: عطشان يا صبايا وبعدنا الطوفان وأحزان حزيران، ورواياته التي أشرت على بدايات ما أضحى ينعت في عرف النقاد والدارسين بالواقعية النقدية ، لما تميزت به من أسلوب حكائي يتجنب الإسهاب غير المجدي، والاقتصار على تجسيد المواقف والمشاعر الإنسانية عبر حس فني مرهف ووعي فكري نادر ، ومن أهم رواياته التي تعكس هذا المنحى من الصوغ الجمالي نذكر : الشرنقة وأيام مجاور وأصوات التي تعد بحق إضافة نوعية في سياق ما يصطلح عليه بالرواية الحضارية ، العازفة على وتر الصراع / الحوار الثقافي بين الشرق (الأنا) والغرب (الآخر) ، ولعل أهم ما وسم هذه الرواية بالذات هو تمكن الكاتب من تقويض البنية النمطية المألوفة في هذا النوع الحكائي والمتمثلة في الثنائيات الضدية ؛ الشرق # الغرب الرجل # المرأة الأنا # الآخر . فلئن كنا قد تعودنا على ترسيمة مسبقة وجاهزة عند عدد كبير من الروائيين العرب ليس أقلهم توفيق الحكيم ويحيى حقي وسهيل إدريس والطيب صالح، صورت مادية الغربي “المتقدم” وروحانية الشرقي “المتخلف”، والمرأة الغربية “اللعوب والمستهترة” والرجل العربي الذي يسعى لإعادة الاعتبار “لشرف” الأمة العربية الجريحة عن طريق اقتحام معارك تدور رحاها على جسد المرأة الغربية.. فإن سليمان فياض قلب الطاولة على أساتذته وانتهج مسلكا فنيا و تصوريا بالغ الدلالة.
ج – إن بطل هذه الرواية المنشورة سنة 1972 امرأة غربية ؛ “سيمون” الفرنسية التي جاءت صحبة زوجها المصري “حامد البحيري” لزيارة قرية “الدراويش” البسيطة ، بعد ثلاثين سنة من مغادرته لها في اتجاه الديار الفرنسية ، و إذا كانت سيمون قد عقدت العزم على المجيء لهذا “الشرق” لمساعدة الأهالي البؤساء ، فإن تعاملها العفوي و لباسها وأسلوب حياتها كل ذلك أحدث زلزالا في نفوس رجال ونساء القرية ، لا بل إن غيرة نساء البلدة العمياء حدت بهن إلى قتلها في حدث مأساوي فظيع ، في إشارة رمزية – إيحائية إلى أن الكساح الذي تشكون منه النهضة العربية صناعة داخلية و ذاتية ، تتمثل في عدم قابلية العرب أنفسهم لعوامل تاريخية وسوسيو اقتصادية .. للقطع مع مسلكيات الحياة البدوية وتقبّلِ منجزاتِ الآخر.
د – ولم تقتصر إنجازات الكاتب سليمان فياض على الاستكناه السردي للواقع العربي الغارق في التخلف الحضاري، بل إنه تجاوز ذلك لاستقراء موضوعي للتجربة السياسية العربية القديمة ، وقد تجلى ذلك بشكل خاص في مؤلفه الشهير ”الوجه الآخر للخلافة الإسلامية”، والذي أبان فيه عن تحليل علمي حصيف، حيث خلص إلى نتيجة مفادها أن الخلافة الإسلامية شكل سياسي منتهي الصلاحية ، انتهجه المسلمون كأداة لتسيير حياتهم العامة منذ العهد الأموي، وأنها اتخذت الدين مطية للتحكم في مقدرات الشعوب المسلمة بعيدا عن قيم التشاور وتبادل الآراء و التداول السلمي على الحكم ونبل الرسالة المحمدية، خاصة وأن النصوص الدينية (القرآن الكريم والأحاديث النبوية الصحيحة) لم تحدد بشكل قاطع وحاسم شكل نظام سياسي معين ، مما يعني منطقيا ضرورة الاستفادة من التجارب السياسية الكونية الراهنة و التجربة الديمقراطية ، طالما أنها تهدف في المحصلة الأخيرة إلى خدمة الإنسان وصون كرامته وضمان حقه في الحرية و العدالة والمساواة .. وذلك لعمري جوهر الإسلام ورسالته الخالدة.