ما الذي أحبُّه أكثر في الترجمة؟
سعيد بوخليط
الترجمة تمرين حقيقي أقرب إلى المنحى الصوفي والنزوع الاشراقي، بخصوص الارتقاء بجوانب أخلاقية عدَّة على مستوى تكوين الشخصية الإنسانية، التي تحتاج من جهة إلى انفتاحها الدائم على التطوُّر بتطوير مشاريعها الذاتية كي تظلّ حيَّة متوقِّدة لاتقترب منها الموت، سوى متى أرادت ذلك.
من جهة ثانية، ولتحقيق هذا السعي الجدلي نحو السموِّ والاكتمال، نحتاج بالضرورة إلى حافز ودافع وملهم ومحرِّض، من ذلك الاشتغال على الترجمة واستلهام أبعاد هذا الفعل معرفيا وروحيا بالدرجة الأولى.
الترجمة مرجع أخلاقيّ بامتياز،تلهم المتأمِّل اليقظ الذي يمارس الترجمة بشغف وعشق، مختلف معاني الانفتاح، الإصغاء، التحاور، الانضباط، الدَّأب، المثابرة ثم الوفاء. منظومة قيم أولية ومبدئية تشكِّل حياة الإنسان المؤمن يقينا بهويته الأصيلة، ويسعى إلى تجسيدها خلال مراحل حياته، بحيث لايتحقَّق معنى وجوده سوى من خلال هذا التطلع نحو الاكتمال.
منذ أن سكنني شغف الترجمة، تغيَّرت جوانب كثيرة في شخصيتي على مستوى بنائي الذهني والنفسي نحو ممكنات أخرى، لم أكن أتوقَّع بلوغها ذات يوم.مع توالي السنوات، تزداد حرقة شغفي وكذا حوافز رغباتي.
صحيح، أنَّ الخيبات ماثلة في غضون سياقات ذلك، وأحيانا دوَّامة الإحباط الموجعة حقيقة، عندما تعترضني صعوبات على مستوى التمرين اللغوي غير المطيع باستمرار، أو اكتسحني بين الحين والآخر، سؤال المعنى المؤرق والعويص حيال ما أفعله سواء نتيجة تصوُّري لطبيعة ما أسعى إليه، أو هوية النصوص التي تستهويني أكثر من غيرها، ثم مدى إشعاع الترجمات التي أنجزها في خضم منطق السوق الثقافي ومستويات تفاعل القراء.
معطيات حاضرة دون فِكَاك، ضمن أبعاد الخلفيات القيمية لمحكِّ ارتجاجات وهزَّات نفسية وذهنية، تعضِّد في نهاية المطاف خصلة الصبر على تهذيب وتنمية الشغف بالقدرة على تفعيل آليات الصراع الروحي جراء تخاذل الذات، أو تهاونها، وربما تقاعسها واستكانتها إلى الكسل، بالتجاوز والسعي والمكابدة قصد تحقيق الأهداف المنشودة.
جملة معادلات تعتمل بين طيات مختلف ذلك، حينما تقرأ وتكتشف هذا البلسم الباطني، فتتواتر صور التأمل وتشتغل المخيلة بل جلّ الكيان الإنساني، بكيفية غير مسبوقة تفضي إلى انبثاق وتبلور زمن جديد. هكذا، تبدأ الكتابة في الإلحاح، باعتبارها ينبوعا لإعادة تنظيم ذاكرة القراءة، والترجمة إحدى أقوى وأهمّ مصبَّات ذلك.
عندما يشتغل المترجِم بشغف وتعطُّش، متحرِّرا من مختلف السُّلط المصطنعة، متجرِّدا عن شتى الدواعي العابرة، سيزداد حبُّه أكثر للانفتاح على الآخر، ومن خلال ذلك تقييم ذاته ثم تاريخ وجوده، مما يشكِّل ولادة ثانية لمصيره وإعادة انبعاث أخرى لكيانه، ضمن عوالم استبطان ذاتي؛ أولا وأخيرا، وتلاقح لغوي وتثاقف حضاري احتفالا بعلامات لم تعد جامدة أو محايدة، لكنها حمولة دلالات إنسانية لانهائية. هنا، يشرع المترجِم وقبله الإنسان، في ولوج عتبات اختياره الفعلي لمعنى أن يوجد حقا؛وليس صدفة وعبثا.
إذن، هذه المرتكزات الأخلاقية التهذيبية حتما لدواخلي الإنسانية، مثلما تعكسه تجربة الترجمة وفق الكيفية التي أوضحتُها، تعتبر أعظم حافز يجذبني إلى هذا المجال، لذلك أسعى يوميا العثور على نصٍّ لغويٍّ يضمر المعايير التي أتبنَّاها بهذا الخصوص وتغويني بالدرجة الأولى أكثر من غيرها، فأواصل حينها تمثُّل قيم الترجمة وعبرها محاورة ذاتي وسبر أغوار مكامنها، بالسعي إلى تطهيرها من شتى مكامن الجشع والغرور والإقصاء والتمركز المَرَضي بمختلف تجلياته، قصد إعادة الانتماء إلى هذا العالم بولادات متوازنة ومَرِحة غير تلك الولادة البيولوجية اليتيمة.