الحاجة لتربية إعلامية واستخدام أمثل للتكنولوجيات الحديثة
جمال المحافظ
أفرزت الخلاصات التي أسفرت عنها ندوة “التربية على وسائل الاعلام والاتصال.. رؤى متقاطعة“، التي نظمتها الجمعية المغربية للناشرات والإعلاميات والمركز المغاربي للدراسات والأبحاث في الإعلام والاتصال في 24 من نونبر 2024 بالرباط، الحاجة الماسة إلى التربية الإعلامية وإدراجها في المقررات الدراسية، بدء من المرحلة الابتدائية، وذلك من أجل تفادي الإشكالات السلبية التي قد تطرحها التكنولوجيات الحديثة،.
فتح نقاش عمومي، تساهم فيه مختلف الأطراف المعنية، وبحث السبل الكفيلة بالاستخدام الأمثل لتكنولوجيا الاعلام والاتصال، للمساهمة في تفادي انعكاساتها السلبية على التنشئة الاجتماعية، والارتقاء بمستوى البيئة العامة للإعلام والاتصال، واستثمار ما توفره الثورة الرقمية من فرص إيجابية عوض تحويلها وسيلة لنشر الأخبار والمعلومات المضللة، وتعميم التفاهة والتشهير وبث الكراهية، دعوات ترددت على لسان المشاركات والمشاركين في هذه الندوة التي قدمت فعالياتها ونشطتها الإعلامية والباحثة فاطمة الإفريقي، بالاعتماد بتقنية سؤال/ جواب، تفاعل معها المتدخلين في هذا اللقاء الذي احتضنته القاعة الكبرى بالمقر الوطني لحزب التقدم والاشتراكية.
وفضلا عن قيام المشاركين، وهم من حقول الثقافة والاعلام والبحث والدراسات والعمل السياسي والمدني، بتشخيص الوضع والمآل واستشراف المستقبل، من خلال تقديم مقترحات وتوصيات، لكن قاربوا من زوايا متعددة، بيئة المشهد الإعلامي والتواصلي على ضوء الثورة الرقمية وانعكاساتها على واقع الممارسة الإعلامية المهنية، لأن الرهان اليوم، هو كيف يمكن مواجهة التحديات المتزايدة في عصر يهيمن فيه الإعلام الرقمي، بما يصاحبه من سيادة ملحوظة لإعلام الإثارة والتفاهة”، كما سجلت الإعلامية عزيزة حلاق رئيسةالجمعية المغربية للناشرات والاعلاميات في كلمة باسم الهيئتين المنظمتين في افتتاح الندوة .
وفي ظل تسارع وتيرة التكنولوجيا واكتساح منصات التواصل الاجتماعي للساحة الإعلامية، أوضحت عزيز حلاق أنه ظهر ما يسمى بـ”ثقافة المحتوى القصير”، خاصة على منصتي “تيك توك” و”إنستغرام”، التي لقيت رواجًا هائلًا، أصبحت مصدرًا للربح السهل والشهرة. ومن هنا، برزت ظاهرة المؤثرين والمؤثرات، الذين تحولوا إلى “قدوات ونماذج” بدعم – مع الأسف – من قنوات إعلامية خاصة يتابعها الملايين- ساهمت في شهرتهم وانتشارهم وخلقت جمهورا يتابعهم وجيوشا من المعجبين يدين بتفاهتهم”. ونتيجة ذلك ، قالت أصبحنا نعيش تحت وطأة غزو إعلامي رديء يكرس التفاهة ويمجد التافهين، ولا يؤثر فقط على الوعي الجماعي، بل يساهم أيضًا في تغييب القضايا الجوهرية وإشاعة ثقافة السطحية، وأن هذا النوع من الإعلام، “فرض نفسه على الجمهور، الذي خضع تحت هذا التأثير وقوة الاكتساح، لما يمكن أن نسميه، بعملية “فورمتاج”، جعلته مطبعا مع كل ما هو مثير وسطحي وسهل.
وبالنظر لأهمية الفعل الإعلامي ومسار الفعل الديمقراطي وترسيخ حرية التعبير، عبر كريم التاج عضو الديوان السياسي للتقدم والاشتراكية، عن استعداد الحزب من أجل الانخراط في مبادرات نضالية ترافعية مشتركة، تسمح بالتصدي لما يعرفه الحقل الإعلامي من تراجعات، تمكن من فتح آفاق جديدة للتجربة الديمقراطية، مذكرا بسعي الحزب الحثيث لإطلاق ديناميات مجتمعية مواطنة في مجالات مختلفة، وذلك قصد توحيد الجهود والتنسيق وبلورة وتنفيذ مقاربات مشتركة تسمح بمجابهة ما ينتظر البلاد.
وفلاحظت فاطمة الافريقي، إن تنظيم هذه الندوة، يأتي في ظل ما نعيشه من تحولات في نظم انتاج وصناعة ونشر المضمون الإعلامي، وأيضا في أساليب التلقي وعادات الاستهلاك وتعامل الجمهور مع المحتويات الإعلامية المتدفقة بغزارة، وخارج الضوابط المهنية والأخلاقية في كثر من الأحيان في ظل الثورة التكنولوجية والرقمية وما أتاحته منصاتها المجالية من حرية النشر والولوج. وفي ظل انهيار الكثير من القيم المهنية والنظم الصلبة والمرجعيات الأخلاقية في واقع الممارسة الإعلامية، اعتبرت أن من الأسئلة المطروحة اليوم، ما يتعلق بما هي كلفة ومظاهر الخسائر التي مست منظومة الإعلام، وكيف يمكن مواجهة التحولات بإبداع بناء منظومة قيم جديدة، تتماشى مع إيقاع وتقنية ولغة الاعلام الجديد، وكيف يمكن تأهيل الصحافيين وصناع المحتوى لمسايرة هذه التحولات بحس نقدي وقيم مهنية ومسؤولية أخلاقية؟ وبأي منظومة تربوية يمكننا تقوية المناعة المعرفية للمتلقي عبر التربية على ثقافة واستعمال واستهلاك وتلقى المحتوى الإعلامي في هذا العالم الجديد؟
وفي معرض تفاعلهم مع هذه الأسئلة، أكد أولا سعيد بنيس الأستاذ بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط، أن التربية على الميديا، باعتبارها مكونا من مكونات المواطنة، تتطلب انخراط المنظومة التعليمية بجميع أسلاكها في اعتماد محترفات ومواد “التربية على الميديا” للتشجيع على الممارسات الجيدة في حقل الميديا وموضوعية التلقي، وإذكاء الفكر النقدي وتوعية وتكوين الكبار وأولياء الأمور والمشتغلون في محاضن التربية والتنشئة بمخاطر الأمية الافتراضية، موضحا أن كل الأرقام والمعطيات تجيز الحديث على أننا أمام حالة من الاحتباس الافتراضي الذي يمكن الإحالة على بعض من مسبباته، منها فشل محاضن التربية وراء تنامي العنف الافتراضي وانتشار خطاب الكراهية، بالانتقال إلى العهد الرقمي الذي ساهم في بزوغ هويات جنسية متوحشة.
أما الإعلامية مونية منصور الباحثة في علوم التربية، فاستعرضت تأثير الإعلام بصفة عامة على حياتنا ومدركاتنا وأذواقنا، قبل أن تقف عند الإعلام الرقمي الذي اعتبرته أنه أعاد تشكيل جغرافيا الحياة، وعلاقتنا بذواتنا والآخرين وفق أولويات وتصورات وقيم جديدة. ولاحظت أنّه عند ظهور أي تكنولوجيا جديدة، يتعاظم الحديث عن المخاطر، ومهما ارتقت هذه التكنولوجيا ارتقت المخاطر ومعها ارتفعت المنافع أيضا، ..إننا اليوم بصدد حتمية رقمية إن صح التعبير، وأنّ مخاطر التكنولوجيا تأتي أساسا من سوء الاستخدام.
وإدا كانت مونية المنصور تقترح ضرورة الاشتغال على البيئة الرقمية بتواز مع البيئة التعلمية، إذا أردنا جني الثمار، فإن الكاتب والإعلامي عبد العزيز كوكاس رسم صورة قاتمة ، عن وضعية ما يعيشه المشهد الإعلامي الذي اكتسحته الرقمنة، وثورة التكنولوجيا، داعيا إلى تطوير اللغة لفهم ما يحدث اليوم خاصة بعد الارتفاع الكبير في عدد المواقع الإلكترونية، وفي ظل ظهور ما وصفهم ب” تجار الإعلام الذين اكتسحوا المشهد بشكل طوفاني، مما أسفر عن انتشار الأخبار والمعلومات المظللة، وذلك في سياق يشهد المزيد من اضطراب للميكانيزمات، وهي تحديات أدت إلى أن ثلثي المغاربة يعيشون في زمن افتراضي”.
أما الإعلامي يونس مسكين مدير مؤسسة “صوت المغرب” فسلط الضوء، في هذه الندوة التي عرفت تعقيبات وملاحظات أعقبت التدخلات على المخاطر والتحديات الناجمة عن الرقمنة المتجددة، مثيرا الانتباه الى ما فرضته التكنولوجيا الحديثة من تغيير كبير، إدى الى هدم كل ما سبق، في الوقت الذي فرض التحول الرقمي انتقالًا حتميًا للصحافة من الورقية إلى الرقمية ، لكنه كشف بالمقابل عن فجوة عميقة في قدرة الوسائل الاعلام التقليدية على مواكبة هذا التطور.
ومن جهتها توقفت فدوى ماروب، عند ما وصفته بـ”دكتاتورية الصورة، واندثار الكتابة”، وركزت في هذا الصدد على نماذج من مجريات الحملة الانتخابية برسم سنة 2021 بالفضاء الرقمي، الذي اعتمدت فيه الأحزاب السياسية في هذه الاستحقاقات على الفضاء الافتراضي، ملاحظة أن الصورة كانت العنصر الطاغي في وسائل التواصل الاجتماعي، في حين سجل ضعفا في الكتابة التي هيمنة عليها الدارجة، كما كتابات كانت تتم باللغة الأمازيغية، مشددة على ضرورة الانشغال بإشكالية التنشئة الاجتماعية عوض الاقتصار على التربية على وسائل الإعلام والاتصال ، مع إيلاء اهتمام خاص بالأجيال الصاعدة التي ولدت وترعرعت وسط التكنولوجيا الحديثة.
وإذا كانت بعض الدراسات الحديثة، تذهب الى القول بأن العالم يوجد الآن، أمام ثورة صناعية ثالثة مرتبطة بتنمية تكنولوجيا الإعلام والتواصل، وذلك بعد ثورة صناعية أولى ارتكزت على تطور الآلة البخارية والسكة الحديدية، ثم ثورة ثانية اعتمدت على استغلال الكهرباء والبترول، فإن التطور التكنولوجي الذى غزا كافة القطاعات، ساهم في تغيير العادات والعلاقة بالإعلام والاتصال، والتأثير في المعارف وفي الممارسة المهنية، كما أصبحت تلك الوسائل تمس الحميمية والحياة الشخصية، والتنشئة الاجتماعية.
ويتجلى التغيير في البيئة الإعلامية في انتشار الوسائل التكنولوجية، التي لم تعد في متناول الصحفيين، بمفردهم، لكن الجمهور أيضا، فدخول الانترنيت الى الفضاء العام، غيرت بعمق معالم وسائل الاعلام التقليدية (الصحافة المكتوبة، الإذاعة ، التلفزيون..)، وأدت إلى ظهور فاعلين جدد في مجال نشر المعلومة الاخبارية، وهذا ما انعكس على الممارسات المهنية للصحافيين، وأدى ذلك الى تغيير عميق في طريقة إخبار الجمهور، وكانت سببا في إعادة توزيع الادوار ما بين المنتجين والمستهلكين لمواد الصحافة ورقية وإلكترونية. فالتقنيات الحديثة للإعلام والاتصال، وفرت ولوجا، غير محدود الى المعارف، ورفعت من القدرة على التبادل والمشاركة.
وعلى المستوى الوطني، بقدر ما يسجل اقبالا متصاعدا من لدن مختلف فئات المجتمع على استعمال تكنولوجيا المعلومات والاتصالات، وابحارا متزايد في الشبكة العنكبوتية، بقدر ما يسجل، توجسا مبالغا فيه أحيانا من هذه التحولات، من لدن الفاعلين المؤسساتيين والمدنيين بدعوى “الاستخدام السيئ” لهذه الوسائط، متغافلين عن الجوانب الإيجابية لهذه التكنولوجيات الحديثة.