الغار (1)
الدكتور أحمد العلوي – مونتريال
كنا متجهين الى دار الملك. كان سيدا طيبا ودودا. لكن عند اقترابنا من هدفنا تعرض لنا جسر طويل وقبل وصولنا الى الجسر رأينا قوما هاربين متجهين الينا. سألناهم. قالوا:
– ان على الجسر من جهتنا قوما قتلة ولا يمر أحد الى الجهة الاخرى حيث دار الملك الا القتلى
قلنا لهم:
– كيف يمر القتلى؟ هل يمشون؟ القتلى لا يمشون. ما هذا الكلام الاعوج.
اشتد الحديث بيننا وبينهم وكانوا عددا كبيرا وكلهم شهدوا ان القتلى يقتلون على الجسر ثم يمشون ويعبرون الى الجهة الاخرى. اضطرب حبل جماعتنا وداخلهم الرعب. صدقت طائفة منا الخبر. كانت اقلية ولكنها تكاثرت ساعة بعد اخرى حتى عادت الاكثرية الاولى اقلية. رعب القتل اخاف الناس والرعب زين لهم ان يتخلوا عن نية الوفود على الملك. نسي الناس الاخبار الصحيحة التي زودوا بها قبل استهلال السفر. كان فيها ان الطريق الى الملك محمية ولا خطر فيها وان الملك امر خدامه برفع كل ضرر يصيب الناس او ينذر بإصابتهم فورا.
انقلب المصدقون على المكذبين وانحازوا الى الجماعة الآتية نحونا من جهة الجسر وقالوا:
– هؤلاء جماعة لا يعقل اتفاقهم على الكذب. هذا خبر متواتر فلنعد من حيث جئنا ولننس وفادتنا على الملك. لا غرض لنا بها ان كان الثمن ان نقتل على الجسر
انقلبنا جميعا خوفا من انتقام الجماعة الراجعة وبسبب جغرافية الطريق وقلنا:
– فلنعمل كما عمل غيرنا.
كنا متجهين من الغرب الى الشرق على طريق ضيق وكان ينبغي لذيل جماعتنا ان ينقلب على عكس طريقه ليمكن رأس القافلة من الانقلاب. لم يكن متاحا من الناحية الجغرافية ان يمر المصدقون عائدين وان نمضي وافدين باقتسام الطريق طوليا الى نصفين. كان طريقا لا ينقسم. كان ضيقا ولو قسم لما كفت المساحة المقسومة لمرور رجل واحد. يضاف الى ذلك ان جماعتنا كان مربوطا افرادها بعضهم ببعض بسلاسل لا يمكن نزعها. لا ندرى لم سلسلنا قبل خروجنا لهذه السفرة. لكن يظهر ان السبب هو الطريق الضيق الذي ما كان شكله يسمح بالتزاحم فيه. لذلك فرض منظم السفرة السلسلة على الجميع بحيث قهرت تلك السلسلة كل فرد من الجماعة الوافدة على رتبة في المسير لا يفارقها وان اجتهد.
غايته اننا انقلبنا على اعقابنا من ذيلنا الى راسنا فأصبح الذيل راسا في الجماعة المنقلبة. بمجرد انقلابنا احسسنا باننا نتدحرج بسرعة عاتية. صبرنا على التزاحم والتراكم بين الاول والتابع من الماشين. واقبل الليل ونحن نتدحرج كالأحجار المتكورة من قمم الجبال. الفرار، الفرار يا قوم. لقد أرسل الملك وراءكم من يفتك بكم فالعجلة، العجلة. كان صراخ المتأخرين في القافلة يصم آذاننا وكان الرعب المنبثق منه يبث السرعة في اقدامنا. لم تعد الشمس الى الظهور واختلف الناس في السبب. قال قوم ان الملك امر بإطفائها ليبالغ في اضلالنا عن طريق النجاة وقال قوم ان الشمس طلعت ولكن القافلة دخلت قبل طلوعها الى غار عظيم وهي تظنه طريقا فتورطت فيه فلا أمل في رؤية الشمس قبل العودة الى بابه والخروج منه. اختلف الناس طويلا وأرسلوا المستطلعين يبحثون في جوانب المكان الذي استقرت فيه القافلة وبعد بحوث وحسابات شارك فيها الجغرافيون والحياسبة وعلماء طبقات الارض والفيزيائيون تبين ان المكان جزء من غار عظيم. اذن فقد تورطت القافلة في غار تجهل مخرجه كما كانت تجهل مدخله وهي مقبلة اليه. اين الجسر الآن واين الوفادة على الملك وكل الآمال التي ارتبطت في اذهاننا بذلك؟ كل ذلك تحول الى آلام. هربنا ولكن بعضنا لم يصدقوا ان يكون قتل الناس على الجسر من عزائم الملك ونواياه. لم يصدقوا ذلك لأنه ثبت في علمهم رحمته بالوافدين عليه وحبه للناس جميعا ثم انهم كانوا يقولون للناس قبل الورطة الغارية وبعدها ان لو كان الملك مضمرا قتلنا لقتلنا في امكنتنا او لقتلنا ونحن في الغار. كانوا يستدلون على ذلك بأدلة ثابتة عند الجميع تروى قصصا عن قدرته التكنولوجية العظيمة التي لا تضاهى والتي لو شاء لوجهها الينا ونحن هاربون او متورطون. لكن الرأي الغالب كان نسبة نية الإذاية اليه والسكوت عن تناقض ذلك مع المعلوم بالضرورة عن قدرته الإفنائية العالية.
ظللنا اذن فى الغار ننتظر العثور على طريق للخروج والعودة الى ديارنا التي كنا فيها قبل نية الوفادة والشروع فيها. الحقيقة ان العثور عليه لم يكلفنا بحثا ولا رهقا. كان يكفي ان نعود ادراجنا من حيث اتينا لنقع على المخرج وكان يكفي ان يتحول ذيل قافلتنا الى رأس لها لنخرج جميعا من الورطة. لكن كان يقوم في وجه هذا الحل صعوبة منتصبة الهامة لم نجد طريقا لتذليلها. كان القوم الهاربون الذين اوقفوا وفادتنا على الجسر مستقرين على ذيل قافلتنا الهاربة وكانوا يسدون بعددهم الطريق فلا يستطيع أحد ان ينقلب في الاتجاه المقابل للمهرب الا ان انقلبوا هم ايضا. كان لابد ان نقنعهم بالخطة ليسيروا فيها ونتبعهم في قافلة جديدة يكونون هم رأسها. رفضوا كل الاقتراحات والبراهين التي قدمناها وقالوا:
– لا نتجه ابدا في النحو الذي جئنا منه. لقد حذرناكم ولن نكون اول المخالفين فنكذب أنفسنا. تقدموا الى الامام وانتظروا لعل الله يهديكم الى مخرج في وجهة الهرب
لم يكن امامنا من حل الا ان نشهر في وجوههم اسلحتنا وان نقهرهم على طاعتنا ولكنا عجزنا عن استجماع ارادتنا لهذا السبيل. اشتغل الناس بالأغذية الكثيرة والكنوز الوفيرة المبثوثة في جنبات الغار واستقرت نفوسهم لذلك وسولت لهم حب الاقامة والتمتع بما غرس الله فيه من خيرات. وكان يجوز لكل غاري ان يذهب عرضا لينال ما شاء من ثمرات وليبني ما شاء من منازل وليحرث ما شاء من ارض ولكنه كان يظل مربوطا الى مكانه في القافلة يعود اليه عند الحاجة. كان الناس يخافون التلف في الغار وكان همهم الاول الخروج وان كان هذا الهم قد توارى امام المنافع التي كانوا يجنونها من الاقامة فيه ولذلك لم يتهيجوا لمقاومة الطائفة المانعة للانقلاب نحو مصدر القافلة.
طول الاقامة يحث المطيل على التفكر في حاله ومآله. تساءل الناس بعد مدة من الاقامة فى الغار عن أصل كونهم فيه. كانوا جميعا يعلمون انهم كانوا وافدين على الملك فحدث ما حدث من خبر القتل على الجسر الى آخر القصة. لكنهم اختلفوا في الداعي الذي كان دعاهم الى الوفادة. انقسمت القافلة في ذلك الى قولين قول من لا قول له وقال قوم انهم كانوا وافدين حبا في زيارة الملك واستجلابا لرضاه لا غير وانهم كانوا من رعاياه الذين لم يتقدم لهم عصيان. انتشر هذا الراي في القافلة
و انبنى عليه قول آخر غير قلبهم على الملك. ان كان الامر كذلك فلم يتركهم الملك لمصيرهم الغاري ولم أرسل من يقتلهم على الجسر؟ الا يكون هذا ظلما؟ وان كان افلا يعنى ذلك انه على غير ما يظن عنه من كرم ورحمة وعدل؟ ولنفرض انهم هربوا غلطا وان الجماعة المخبرة بالقتل كذبت فلم تركهم ولم ينقذهم من غلطهم برسالة منه إليهم وهو العالم بالتكنولوجية الموصلة لذلك؟ كان هؤلاء المتسائلون يعتقدون جميعا انهم لم يسبق لهم عصيان للملك وان موقفهم سليم من كل الجهات وانهم عرضة لظلم لم يرفعه عنهم الملك وهو القادر على ذلك. هؤلاء اشتد تصديقهم للطائفة المخبرة بالقتل على الجسر واشتد سوء نيتهم في الملك وانضموا فى الختام الى تلك الجماعة في رفض العودة الى باب الكهف بالطريقة التي وصفت آنفا.
كان على راسهم رجل اسمه دمحم وكان كل دعوته البقاء في اتجاه الفرار والبحث في جهة المهرب عن مخرج يعود بالجماعة الى ديارهم. ورشح نفسه للمغامرة فى هذا السبيل واتجه وحده الى الجهة المظلمة التي خاف الناس جميعا التورط فيها ولم يذهب معه أحد وغاب مدة طويلة حتى ظن الناس انه لن يعود وان الظلمة اكلته. لكنه عاد ومعه كتاب وعد الناس بترجمته الى لغتهم وكان قد ترجم بالفعل اجزاء منه قرأها على راس القافلة ونقلها السامع الى من خلفه. اخبر الناس بان الكتاب كتاب الملك وانه جعله في نهاية الغار وانه لا ينفتح الا الذى وصل الى تلك النهاية وانه وصلها ووجد الكتاب وجاء به ثم اخبر الناس انه عاد عن رايه الاول بعد قراءته الكتاب وان الواجب العودة في اتجاه المصدر أي الى الجهة التي جاءت منها القافلة والاتجاه من جديد الى الجسر وانه يأمرهم بالعودة اليه ومقاتلة من ينهاهم عن ذلك وان طاعة الملك في ذلك واجبة ثم صرح بالخبر الذى زعزع اركان الناس اذ قال ان وفادتهم على الملك لم تكن زيارة قوم لم يتقدم لهم عصيان ولا تأكيدا لطاعة سابقة وان اول طاعة اطاعوها هي الوفادة نفسها وانهم جميعا عصاة قرروا طواعية الوفادة عليه طلبا للعفو. وزاد دمحم فاعلن للناس الخبر المفزع الذى جاوز الاول شدة وقسوة فقال لهم انهم جميعا كانوا قد تآمروا على الملك وعزموا على قتله والاشتراك في ذلك وان الملك علم بنيتهم بمجرد ان انعقدت في نفوسهم النية وانه علم ذلك بالوسائل التكنولوجية التي لا يعلمها الا هو وانهم فشلوا في تحقيق ما عزموا عليه وانهم اعتقلوا ووجهوا بجرائمهم , ما قبل نية القتل والاغتيال الى حدوث تلك النية , وان الملك عفا عنهم وجعل ما اصابهم من عقوبة تعليما لهم واعادهم الى العزة والكرامة التي كانت تشملهم منه وزادهم دمحم فأخبرهم ان قصة قتلة الجسر كانت وهما وافتراء افتراه كذابون كانوا على رأس قافلة الوفادة وان الناس فروا غلطا وعن قصر نظر وفقر في البصيرة والاستدلال والتحليل. وسمع الناس خبر دمحم فانقسموا الى فريقين الاول تبعه واراد العودة معه الى الجسر والثاني كذبه وكذب اخباره وسخر من الكتاب الذي وجده في اقصى مكان من الظلمة. ودارت رحى الحرب بين الفريقين، بين الجماعة المصرة على العودة والجماعة المصرة على الفرار. والغريب في المسالة ان الفارين تعاهدوا ليمنعن العائدين من العودة وزعموا انهم ان تركوهم يعودون فسيكشفون للقتلة على الجسر مكانهم وانهم هالكون لامحالة ان وجدوهم. وانتشرت بين الفارين تهمة الجبن يوجهونها للعائدين وانتشرت ايضا بين العائدين تهمة الخيانة يوجهونها الى الفارين. جبناء؟ تسأل الفارين فيزعمون لك ان العائدين خائفون من الظلمة وان زعيمهم كذاب ادعى انه اخترقها وما اخترقها وانما زعم انه فعل كذبا ليريح نفسه واتباعه من جهد المغامرة. خونة؟ يزعم العائدون ان الفارين خونة الملك وانهم أضمروا قتله ثم عفا عنهم وانهم عادوا الى نية القتل ولولا ذلك لعادوا الى الجسر والوفادة. وتسأل هؤلاء عن مقالة اولئك فتسمع عجبا. يقول الفارون ان الملك كلفهم بعبور الظلمة وصولا الى النور وهنالك يلقونه ويفدون عليه ويقولون ان العائدين يعصون الملك اذ يرفضون اختراق لجة الظلمة بأنفسهم ويتبعون دمحم الكذاب على قولهم. وان ذكرتهم بالهربة من الجسر أنكروا قصة الهرب جملة وتفصيلا وقالوا:
– لم يكن هرب على الاطلاق وانما نحن وافدون على الملك من هذه الجهة كما أمر.
وان جوبهوا بقصص العائدين قالوا:
– هؤلاء خرافيون يومنون بالأساطير
ولئن سألت العائدين سمعتهم يقولون:
– ان الفارين يكذبون والملك لم يأمر باختراق الظلمة وانما امر بعبور الجسر ثم ان هذه الظلمة لا تقود الى نور او مخرج ويستدلون برحلة دمحم الذي عبرها الى نهايتها ووجد فيها سورا من نار لا يخترق ويجذب اليه من اقترب منه قرب دخول ويبتلعه ويذكرون قصة الجسر وكذبة القتلة على الجسر ونية القتل عند الجماعة قبل الوفادة والعفو الملكي ويزعمون ان الفارين مرتدون عن الوفادة ومخاصمون للملك وعائدون الى نية القتل وانه سيلقون غيا في خطتهم وان الملك عالم بهم وسيدخلهم في ظلم بعضها وراء بعض ولن يفلحوا ابدا.
اشتدت الحرب وحمي وطيسها بين الفريقين وكلاهما يتهم صاحبه بالخيانة والجبن او بالخيانة والجنون وانفصلوا. المصرون على العودة ظهرهم الى قعر الغار ووجههم الى بابه والمصرون على الفرار وجههم الى القعر وظهرهم الى الباب. صار كل فريق يرى في الفريق الآخر مانعا يمنعه من مبتغاه.
وتوفي دمحم في خلال ذلك واستمرت الحرب اعواما ثم اتفق الفريقان على التنازل عن مطالبهما فلا هؤلاء يعودون ولا هؤلاء يفرون واستقروا في الغار ونسوا امر الوفادة على الملك وصنعوا لأنفسهم ملوكا آخرين واقتسموا الغار واسسوا فيه الممالك.