فديريكو أرْبُوس.. في الصّداقة البعيدَة (13 فبراير 1946 ـ 14 أكتوبر 2024)
محمد بنيـس
1.
صبيحة يوم 15 أكتوبر 2024 وصلني نعْيك. صديقنا لويس ميغيل كانْيادا هو الذي فاجأتني رسالته في وقت مبكر. فاجعة في صبيحة كنت أتوقعها هادئة. تعودتُ على الرسائل من لويس ميغيل في الصباح الباكر، وخاصة منها التي بعث لي بها في غشت الأخير، بخصوص ترجمتك لديواني يقظة الصمت، الذي كنتَ مُصرّاً على الانتهاء من ترجمته وهو اتفق معك على نشره قبل نهاية هذه السنة. في البدء، ظننت الرسالة تأتي خبراً عن نشر الديوان، لكنها، بدلاً من ذلك، أيقظتني على فاجعة رحيلك عنا. نعيُك أحدث رجة لا تتوقف تردداتها. هي رجّات لنفوس جميع الذين يعرفون القيمة العليا لما قدمته للثقافتـين الإسبانية والعربية، منذ ما يقرب من خمسين سنة.
كنتَ متعلقاً بهذا الديوان، لطبيعة قصائده. لكن حرب الإبادة التي تمارسها إسرائيل على غزة جعلتك تبذل المجهود المضاعف لأن الديوان يتضمن قصيدة «أرض بدماء كثيرة»، التي كتبتُها على إثر المذبحة التي قامت بها إسرائيل لفلسطينيي غزة، عندما أقدموا سنة 2018 على تنظيم مسيرات سلمية، كل يوم جمعة، للوقوف على الشريط العازل بين غزة وإسرائيل، وهم يحملون العلم الفلسطيني. ثم في إحدى رسائلك كلمتني عن قصيدة «صمتٌ يضيء هارْلم» وقارنت بينها وبين ديوان فديريكو غارسيا لوركا شاعر في نيويورك أثناء إقامته هناك، في هارْلم بين 1929 و1930. كنتُ أتخيّلك تحلم بصدور الديوان وبالدراسة التي كتبتها. وأنا سأحتفظ بهذه النسخة، التي أرسلتها لي من الدراسة وترجمة الديوان، وديعةً ناطقةً بالمحبة. كنت كريماً على الدوام. من أعمالك الأخيرة تلك الدراسات التي نشرتها سنة 2022 عن شعراء الحداثة العربية المعاصرين، عبد الوهاب البياتي وأدونيس ومحمود درويش.
تبادلنا خلال هذه السنة العديدَ من الرسائل، التي تشهدُ على الصداقة البعيدة التي جمعت بيننا، في حياة تواصلنا فيها عبر الطرق والمسارات المتعددة والمتقاطعة. عندما كنا التقيْنا آخر مرة في 2 يونيو 2017 بملاكا، عند دعوتي لإمضاء ترجمة كتاب الحب التي صدرت عن دار نورتي إي سور NorteySur بالمدينة نفسها، كان ثمة معرض للكتاب أقيم في ساحة لاميرسيد التي يطل عليها بيت عائلة بيكاسو. هناك أخذنا صوراً تذكارية وأنت في حالة من النشوة، التي هي حالتك في لحظات الفرح بالحياة. كنت تتكلم، تضحك، تتذكر. طفنا معاً على أروقة المعرض، نتفحص الكتب وأناقة طباعتها، من بينها الأعمال الشعرية الكاملة لأكثر من شاعر، ونتحادث في القيمة التي توليها مدينة ملاكا لكتّابها وأدبائها وشعرائها وفنانيها. كنتَ تتحرك مُعتزاً بنفسك وسعيداً بصدور الكتاب.
غريبة كانت تلك الزيارة، التي لها الآن أثرُ اللقاء الأخير بيننا. عندما وصلنا إلى رواق الناشر أخذتَ نسخة من الكتاب وأشرتَ إلى لوحة الغلاف لعاشق ومعشوقة في وضع شبقي، رسمها الفنان الإسباني لويس بريهويغا (1915 ـ 1985) بأسلوب أعطاها شكل منحوتة، وفوق صورة اللوحة عنوان كتاب طوق الحمامة باللون الأزرق الفاتح، مُستنْسَخ عن مخطوطة قديمة. أنت الذي اخترتَ الصورة، قلتَ لي، ووضعتَ تفاصيل تصميم الغلاف. في كل كلمة من كلماتك عن الكتاب وجمالية الطبع كانت فيها الصداقة تتدفق من دون حاجة إلى البوح بها، لأننا كنا تعودنا بيننا على تبادل عبارات تشير إليها بصوت خفيض. تحركنا لوقت طويل، نتعرف على جنبات الساحة، توقفنا أمام بيت عائلة بيكاسو، تفقدنا مكتبة في زاوية الساحة، وألقينا نظرة على المقاهي والمطاعم التي تكثر فيها.
2.
عزيزي فديريكو، بهذه العبارة كنتُ أبدأ رسائلي إليك وأنت تردّ عليّ بالعبارة ذاتها. عهد طويل وممتع كان بيننا. في البداية، خلال الثمانينيات، كان صديقي الشاعر محمد الخمار الكنوني أخبرني، ونحن في مقهى بالرباط، بترجمتك لديواني وجه متوهج عبر امتداد الزمن الذي كنتَ نشرتَه سنة 1986 في مجلة Puertaoscura. كانت تلك أول مرة أسمع فيها باسمك، واندهشت لمبادرتك بترجمة الديوان. بسذاجة الشعراء الشبان، سألت الصديق الخمار الكنوني عن كيف أمكنك الحصول على الديوان، المنشور في المغرب، فأجابني أن هناك مهتمين يتتبعون بجدية ما يصدر من الأعمال الخاصة بمجال اشتغالهم. ذلك اليوم شعرت أن الشعر يقرب المسافات، كما يقربها الأدب والفنون. شيئاً فشيئاً انفتحت أبواب التعارف بيننا. كانت العتبة الأولى في صنعاء، باليمن، بمناسبة اللقاء الشعري العربي ـ الإسباني، سنة 1990. كان الحديث بيننا تلقائياً، كما لو كنا رفاقاً في عهد الطفولة. كلمتني عن الدواوين التي كنتَ ترجمتها لعبد الوهاب البياتي ابتداء من 1970، واقتربت منه أكثر عندما أقام بإسبانيا من 1980 حتى 1989، حيث عمل ملحقاً ثقافياً في السفارة العراقية، ولم تتوقف عن ترجمة دواوينه اللاحقة، مثل كتاب البحر وقمر شيراز ومملكة السنبلة. كلمتني أيضاً عن ترجمتك لديوان شهوة تتقدم في خرائط المادة لأدونيس، ودواوين لمحمود درويش.
ذات يوم من أيام 1996 التقيتُ بك مصادفة أمام معهد سرفانتس بالقاهرة، الذي كنتَ مديراً له. ثم جاءت المفاجأة الكبرى عندما اتصلت بي سنة 2000 لتخبرني أنه تم تعيينك مديراً لمعهد سرفانتس بالدار البيضاء. لمدة ثلاث سنوات كان التعاون والتواصل بيننا غنياً. ربما كانت رغبتنا المشتركة في إصدار نسخة إلكترونية من مجلة المعتمد، التي كانت أصدرتها تْرينا مرْكادير باللغتين الإسبانية والعربية، في نهاية الأربعينيات واستمر صدورها حتى بداية الخمسينيات بالعرائش ثم لاحقاً بتطوان، وهي تحمل اسم الشاعر المعتمد بن عباد وتجمع بين شعراء وكتاب إسبانيين ومغاربة، أجملَ إنجاز حققناه معاً، تحية لهذه المجلة الفريدة بمشروعها المستقبلي، ولكنها كادت أن تصبح منسية في تاريخ التحديث الثقافي والشعري، على الخصوص في المغرب الحديث. ثم عدتَ مرة أخرى إلى المغرب من 2007 حتى 2012 لتدير معهد سرفانتس بالرباط. في هذه الفترة كانت لك أنشطة موسعة، جمعت فيها بين إسبانيين ومغاربة، وكنت تدعوني للمشاركة فيها، سعياً إلى خلق الحوار المفقود عن الشعر والثقافة بين إسبانيين ومغاربة.
3.
كنت تعرف الكثير عن تعلقي بالثقافة الإسبانية، منذ شبابي الأول، حيث كنت قرأت دون كيخوته لسرفانتيس، ودواوين شعراء من جيل 27، فديريكو غارسيا لوركا، رفائيل ألبرتي، فيسنتي ألكسندري، ثم أنطونيو متشادو. كما أنك تتبعت مسار علاقتي بنخبة من الباحثين والشعراء، حيث كنت في تلك الفترة بالذات، ومباشرة بعد سنة من زيارتي لإسبانيا، في 1968، توصلتُ برسالة من بيدرو مارتينيز مونتافيز. كانت عبارة عن كلمة ترحيبية بما كنت أنشره آنذاك من قصائد في الملحق الثقافي لجريدة العلم بالرباط. بعدها، في الثمانينيات، أطل علي صوتُ بشارتك، من خلال ترجمتك لديواني، وفي ديسمبر 1994 التقيتُ الشاعر أنطونيو غامونيدا، وهو من أكبر أصدقائك، في سان ـ دوني بفرنسا، خلال مهرجان الذكرى المئوية للشاعر بول إيلوار. كان لقاء حميماً بعد أن سمع كلُّ واحد منا إلقاء الآخر قصيدته في لغتها الأصلية، هو بالإسبانية وأنا بالعربية، ثم ترجمة القصيدتين بالفرنسية. لقاءٌ تتجدّد على الدوام دهشتُه الأولى. وفي 1999 كان لي اللقاء بمركز الشعر والترجمة في مؤسسة روايّومون بفرنسا مع لويس ميغيل كانْيادا، الذي كان أحد المترجمين المشاركين في حلقة الترجمة الإسبانية لقصائد من ديوان نبيـذ، بمشاركة خيسوس موناريثْ ولويس مونيوثْ، ثم ترسّخت العلاقة بيننا. أكتفي بهذه اللحظات القوية، التي عمقت لدي التعلق بإسبانيا وثقافتها، كما منحتني قدرة على قراءة الأندلس وأدبها وفنونها وثقافتها بنفَس متحرر.
وأنتَ كنتَ، في كل لحظة من هذه اللحظات، حاضراً برؤيتك المستقبلية للعلاقات بين الثقافتين، العربية والإسبانية. كان انشغالك بترجمة أعمال من الأدب العربي الحديث يتجاوب مع مواقفك التحررية، المعلنة دوماً عن يساريتها، لأنك كنتَ مؤمناً بأن الرؤية التحررية هي وحدها التي يمكن أن تعيد بناء الزمن الثقافي الأندلسي في فضاء الحاضر، متخلصاً من خطاب الإنكار والجحود والعدوانية، الذي أعلت من شأنه الكنيسة الكاثوليكية منذ مأساة محاكم التفتيش وامتدت حتى نهاية العهد الفرنكوي في السبعينيات من القرن العشرين. لهذا كنتَ تختار بعناية بالغة ما تترجم من أعمال. عندما أخبرتني بإقبالك على ترجمة الكتاب لأدونيس، بأجزائه الثلاثة (نشرتَ الجزءين الأول والثاني، فيما كنت تعمل على إصدار الجزء الثالث سنة 2025)، أحسستُ أنك موقن بأن هذا العمل، والأعمال الأخرى التي كنت ترجمتها منذ بدايات انشغالك بالترجمة، منها رحلة ابن بطوطة (بالاشتراك مع سيرافين فانخول، سنة 1981)، مترابطة فيما بينها، من حيث بناء رؤية عربية حديثة، ببعدها الكوني، بها تبدأ معرفة العالم العربي الحديث.
كان لا بد لك من هذه الرؤية التحررية كي تشرع في قراءة وترجمة شعر عبد الوهاب البياتي، وهي نفسها التي قادتك نحو أعمال أدونيس ومحمود درويش، وكنتُ أنا محظوظاً باختيارك ترجمة أول عمل لي، وهو يحيل على ذاكرة إسبانية جريحة. حينما أتأمل الأعمال التي ترجمتها تتراءى لي سلسلةٌ من العلامات الدالة على الرغبة في تسْييد الحوار بين الثقافتين وبين الأدبين والشعرين. وفي كل عمل من أعمالك، كنت تحترم اختلاف الاختيارات الإبداعية والفكرية لكل مبدع وكل عمل من الأعمال.
4.
كنت تحب الاحتفاء بالأعمال التي تترجمها. عندما صدرت لك الترجمة الكاملة لديوان نبـيذ، مع تقديم مستفيض، عن منشورات المشرق والمتوسط ediciones del oriente y del mediterráneo بمدريد، هيأت لي لقاء جميلاً بـ«البيت العربي» في مدريد، حضره صديقنا المشترك، الشاعر أنطونيو غامونيدا إلى جانب الشاعرة الصديقة كلارا خانيس. ثم كان لنا تقديمُ الديوان بفرع «البيت العربي» في قرطبة. وفي كل مرة كان اللقاء مفتوحاً على الحوار بتلقائية، كنتُ دائماً أشعر معها أننا موْلودان من رحِم واحدة، وأننا نتكلم لغة الصداقة التي حدودها هي اللاحدود.
ترحل الآن عنا، بعد أن عانيْت من الآلام ما عاناه الأصفياء، بثقة وإصرار على السهر مع الفلسطينيين في غزة، وهم يواصلون مقاومة الطغيان الإسرائيلي ـ الأمريكي ـ الغربي. غضبُك أراه في كل كلمة تكتبها أثناء النهار والليل، وأغنيتُك تنأى عن الشكوى. نحن، القريبين منك، ندرك لماذا كنت تترك كلمة الحياة ترافق كلمة الحرية، كما لو أنهما طفلان يلعبان في ساحة المدرسة. كذلك تعلمتَ أن تنطق باسم فلسطين وتكتبها على حيطان مدريد. عشقك متعدّدٌ، جامح، يولد من الكلمات وبين الكلمات. وصورة العاشق الأبدي لإنسية محلوم بها هي صورتُك في كل ما يحيط بنا.
الصداقة لديك، يا عزيزي فديريكو، مدرسةٌ ربّيْتَ عليها مترجمين ساروا وهُم ينظرون إلى الأعالي التي كنت تدرّبُهم على النظر إليها بتواضع وقناعة. هي صداقة العارفين بمعنى الحرية ومعنى الاحترام المتبادل. بالنظر إلى الأعالي تخلصتَ من نظرة الاستشراق، الذي استباح ثقافة وشعوباً وبلاداً، بمنطق الاستعلاء واعتبار الثقافة العربية رداءً مسموماً ترتديه حشودٌ من العبيد. كنتُ، خلال حواراتنا، أنصتُ إليك وأنت تأْسَى على رؤيةٍ لا تتحرر من ترديد هذيان خطاب استعماري، ديني وسياسي في آن، ومن حفر الخنادق المانعة لكل لقاء أو حوار بين الثقافتين الإسبانية والعربية.
رؤيتك التحررية هي التي كنتَ تتشبثُ بها وتُعلنها. باسمها انطلقتَ نحو الإبداع الذي وحده يعيد رسم جغرافية العلاقة الحرة، التي تتخلص من إرث الاستشراق. كنتُ، في حالات عديدة، أتأمل عملكَ وعملَ أصدقائك وطلابك الأوفياء، الذي رسّخ الرؤية النقدية في الوسط الأكاديمي الإسباني مثلما أعطى الصلة الديبلوماسية بين الثقافتين بُعداً متجدداً، منفتحاً على الإبداعية العربية، التي أصبح لها حضور في مجالات من الثقافة الإسبانية. فهمتَ جيداً أن الاستشراق الإسباني ليس هو ذاته في الغرب، لأن خصوصية التاريخ الإسباني لما بعد الزمن الأندلسي، ليس هو تاريخ العلاقة الغربية مع الثقافة والبلاد والمجتمعات العربية. هذا الفهم، القائم على نقد نظرة العداء والحقد التي تربتْ عليها الأجيال الإسبانية المتعاقبة، لكل ما هو عربي ـ إسلامي، ولا تزال آثارها ما ثلة في خطابات وسلوكيات، يقود إلى زمن متحرر مهما كانت عوائق التاريخ متشعبة بطبقاتها المتراصة.
5.
ذلك أنك كنتَ، يا عزيزي فديريكو، على الدوام تحتفل بالجميل والحر في الثقافة والإبداع العربيين. لا إرغامَ ولا إخضاع. باحتفالك بلغتِ الصداقة بينك وبين شعراء وكتاب، بل بينك وبين الشعوب العربية، مكانةَ الصفاء. وفي كلّ عمل قمتَ به زرعتَ نبتةً تزهر في النفوس الحرة. بين مدريد، صنعاء، الإسكندرية، القاهرة، الدار البيضاء، الرباط، تركتَ كلمتك الحرة من أجلنا جميعاً، بيْن ضفتين، ثقافتين، شعرين، لغتين. وتلك الصداقة، صداقتك، هي ما يضيءُ لأصدقائك ولي حلكةَ الأيام.
هكذا كنت لنا جميعاً، إسبانيين وعرباً. اختيارُك كان اختيار النفوس الحرة. في كل مكان زرتَه أو أقمتَ فيه، تركت الصدى يملأ المكان. وأنتَ أصبحتَ من أهل المكان. جمعتَ في أعمالك بين الشعر والمعرفة والكرم والتواضع. لم تتوقف عن العمل طيلة حياتك الثقافية لأنك كنت واعياً بدلالة الزمن وما يحتاج إليه من عمل مُضاعف لترصيص الشقوق والثقوب. نطرتُك كانت أوسع، لأنها كانت متشبّعة بفكرة الحرية التي ظلتْ تقود خطاك في اليوم واليوم الذي يليه، تستقبل الجميل والحر، أنت العزيز، في حياة هي الصداقة البعيدة.