السودان الجريح (8): حرب الجنرالين.. ذهب وماس.. وبعير…!

السودان الجريح (8): حرب الجنرالين.. ذهب وماس.. وبعير…!

جورج الراسي

       يمكن القول إن تاريخ السودان منذ القرن التاسع عشر هو تاريخ حروب تتخللها  فترات تهدئة. فلم يعرف هذا البلد السلام منذ الثورة المهدية، والانقلابات المتتالية منذ الاستقلال عام 1956 وحتى اليوم. من حكم الجنرال عبود إلى انقلاب جعفر نميري إلى انقلاب عمر حسن البشير، بعد فاصل الديموقراطي سوار الذهب، وصولا إلى حرب “الجنرالين”، بعد الفاصل الديموقراطي الآخر الذي قاده حمدوك بعد العام 2019، لمدة لا تتجاوز الأربع سنوات.

  نصف الشعب أصبح مشردا.. وجائعا

    الحرب الحالية اندلعت في مطلع شهر نيسان – أبريل من عام 2023 بين الجيش النظامي بقيادة الجنرال عبد الفتاح عبد الرحمن البرهان، ومساعده الجنرال محمد حمدان دقلو، الملقب باسم الدلع “حميدتي”، قائد ما يعرف بـ”قوات الدعم السريع”، التي تنحدر من ولاية دارفور، والتي جرى تأسيسها أصلا في عهد عمر حسن البشير لدعم القوات النظامية ضد “المتمردين”… من أصحاب الأرض الأصليين… والتي نفذت عمليات إبادة حقيقية منذ مطلع الألفية الثانية، وصلت مواصيلها حاليا إلى المحكمة الجنائية الدولية

لقد أودت هذه الحرب “الأخوية” بحياة أكثر من 150.000 مواطن حتى الآن، أي في حدود عام ونصف العام. وتسببت بنزوح نحو 11 مليون مواطن آخرين عن بيوتهم وقراهم، فيما لجأ أكثر من 2.3  مليون إلى دول الجوار، وضربت المجاعة وسوء التغذية، أكثر من 25 مليون إنسان، أي أكثر من نصف العدد الإجمالي للسكان، بخاصة وأن المتحاربين يمنعان وصول المواد الغذائية إلى السكان ويقومان بسرقتها… هذا عدا ما يتعرض له الهاربون من جحيم المعارك  وفي مخيمات الإيواء – كما في معسكر “زمزم” شمال دارفور – من عمليت ترويع واغتصاب طالت مئات النساء والفتيات الصغيرات على يد مقاتلي الجنجويد” الأشاوس.!

وقد وصفت وكالات الأمم المتحدة ما يحدث بأنه “أسوأ كارثة إنسانية عرفها العالم   منذ عشرات السنين “… طبعا قبل انكشاف ما حدث ويحدث في غزة… وكأن العالم العربي أصبح مختبرا لكل مآسي وكوارث الإنسانية…!

لقد جرت محاولة لجمع المتحاربين في جنيف في 14 آب- أغسطس 2024   المنصرم، تحت رعاية أممية، للتوصل إلى مجرد وقف إطلاق النار، لكن المحاولة لم تنجح، فقد رفض البرهان حضور اللقاء على اعتبار أنه من غير المعقول أن يوضع على قدم المساواة مع المتمرد دقلو، وأن هدفه سحق قوات التمرد السريع  بشكل نهائي.!

 من هو “دقلو”؟

    من أين خرج “دقلو”..؟ يبقى الغموض يحيط بشخصية محمد حمدان دقلو  …

هو أولا زعيم “الجنجويد” في دارفور. وهم من راكبي الجمال الأشداء  المتمرسين بفنون القتال، والمنحدرين من القبائل العربية، وقد اكتسبوا شرعيتهم  في العهد السابق كقوة مساندة للجيش، قبل أن يتضخم عددهم ويتحولوا إلى قوة منافسة للقوات المسلحة، بخاصة وأنه تم تزويدهم بأسلحة تفوق في قدراتها  إمكانيات الجيش… حتى أن “دقلو” فكر بشراء طائرات حربية ومسيرات تجعله على نفس مستوى الجيش الذي لم يكن يمتاز إلا بتفوقه الجوي!

وهو ثانيا رجل ثري جدا، بفضل مناجم الذهب والماس التي يسيطر عليها. وقد سمحت له هذه الثروة بشراء كفاءات كثيرة من داخل البلاد ومن خارجها، وحتى من صفوف القوات المسلحة الشرعية ذاتها، مما سمح له باستقطاب كوادر مهمة من عسكريين ومدنيين، بخاصة وأنه كان يدفع رواتب تفوق الرواتب التي تدفعها الدولة!

وهو ثالثا self made man صنع نفسه بنفسه. لم يعرف عنه أنه التحق بأية مدرسة عسكرية، ولا زين مكتبه بأية شهادة حربية كانت أم مدنية

وهو رابعا عرف كيف يتحول من مجرد قائد عسكري مجهول الشخصية ومكان الإقامة، إلى الرجل الثاني في الدولة

ومن الأمور العجيبة أن عبد الله حمدوك الذي رأس الوزارة في الفترة الانتقالية التي أعقبت الإطاحة بالبشير، ممثلا  “قوى الحرية والتغيير” التي تقاسمت السلطة مع العسكر، اعتبرت دقلو “خبيرا اقتصاديا”، فسلمته مهمة “رئاسة  الآلية الاقتصادية”، مما جعله مسيطرا على القرار المالي والاقتصادي للدولة…!

هكذا أصبح له موقع دستوري يتيح له الاطلاع على كافة أسرار الدولة… وكل ما يتعلق بالأمن والدفاع

في البدء كان اليمن

    لم يكن ينقص دقلو سوى العلاقات الخارجية .وقد جاءه المدد… من اليمن!، في عام  1918 أرسل السودان إلى اليمن  قوات عسكرية شاركت مع “قوات التحالف” العربية لاستعادة الشرعية في اليمن، وصرحت قيادتها آنذاك “أنها باقية حتى تحقيق النصر وهزيمة المشروع  الإيراني”… نعرف ما جرى بعد ذلك وتغير الأوضاع  في السودان

إلا أن المهم أن أحد قادة القوات السودانية في اليمن… كان دقلو.. الذي أرسل  آلافا من مقاتليه بطلب من الإمارات التي تحملت تكاليفهم، مما زاد في ثرائه…!

الأمر  الآخر أن تلك الحملة سمحت له بعفد لفاءات وتحالفات مع قادة بقية قادة  الوحدات العربية المنضوية تحت راية التحالف، وبالطبع لم يقتصر الأمر على الشؤون العسكرية لرجل متربع على بضعة مناجم ذهب وماس

 الواقع أن أقرب الدول إليه كانت دولة الإمارات، لسببين، الأول سياسي، والثاني  مالي.

الإمارات التي تتبع سياسة طموحة في المحيط، كانت مهتمة بحضورها في منطقة القرن الافريفي، وبالسودان على وجه الخصوص، لحاجات غذائية واستراتيجية.

ففي عام 2020، استثمر الشيخ طحنون بن زايد، نائب حاكمأ بو ظبي، 225   مليون دولار في مشروع زراعي يغطي 100 ألف فدان

وكانت الإمارات على خلاف مع البشير لأنه لم يدعم موقفها عندما توترت علاقاتها  مع قطر. وكانت أول دولة رحبت بالإطاحة به، ومدت الحكومة الانتقالية بدعم مالي لالتقاط الأنفاس، بلغت قيمته 3 مليارات دولار بالتعاون مع المملكة العربية السعودية.

الأمر الثاني أن دقلو وجد في دبي متنفسا ماليا له، فأصبحت معظم معاملاته التجارية تمر عبرها. وأصبح الذهب المستخرج يأخذ طريفه إلى دبي

وقد توطدت علاقاته على وجه الخصوص مع الشيخ منصور بن زايد مالك نادي “مانشيستر سيتي ..

 اصطفافات خارجية..

    لولا التدخلات الخارجية لما استمرت حرب اليمن .فقد اصطفت مصر والسعودية  إلى جانب البرهان. ففي 12 نيسان – أبريل 2023، قبل ثلاثة أيام من اندلاع القتال، حاصرت قوات حميدتي قاعدة “مروي” العسكرية، حيث كانت تتواجد مقاتلات حربية وحيث كان يقيم 27 عسكريا مصريا يتولون تدريب القوات السودانية، فتم خطفهم… وقد اعتبرت مصر منذ البداية أن الإطاحة بالبشير موجه ضدها… واتهمها  دقلو بقيام الطيران المصري بقصف قواته لمنع اقترابها من الحدود المصرية..

أضف إلى ذلك أن قوات الدعم السريع متحالفة مع اثيوبيا، فيما أن مصر عقدت  اتفاقا  ثلاثيا مع كل من اريتريا والصومال لحماية شواطى البحر الأحمر.

روسيا من جهتها مهتمة جدا بذهب ويورانيوم دارفور. وقد صالت وجالت قوات “فاغنر” في دارفور وفي وسط افريقيا لطرد الفرنسيين من آخر حصونهم الإفريفية ..

أخيرا وليس آخرا، فقد زار وفد من الموساد السودان العام الماضي واجتمع مع  قيادات أمنية وعسكرية، كان على رأسها حميدتي، وتم البحث في كيفية التعاون لمكافحة “الإرهاب” وتبادل المعلومات الأمنية

لكن البرهان أيضا طلب رضى إسرائيل قبل بدء المعارك الأخيرة

كان الله في عون السودان.. !

Visited 7 times, 1 visit(s) today
شارك الموضوع

جورج الراسي

صحفي وكاتب لبناني