العَشَّاب وشراب الفحولة
سعيد بوخليط
أكَّد دائما لزبنائه ومُجَالسيه، عبر أحاديثه المسترسَلة طيلة اليوم، بأنَّه بائع أعشاب راسخ، لايشقُّ له غبار، نهل من منبع الحرفة أباً عن خالٍ، من سلالة لأخرى داخل قبيلته وأهله، لذلك يحقُّ له شرعا شتم؛ بل لعن المتطفِّلين على خيمياء الأعشاب، الذين ولجوا المجال خطأ، بالتالي لامجال كي يضع نفسه موضع مقارنة، لأنَّه صاحب علم وخبرة ودراية كافية بما يفعل، يلزم على رواده التحلي بالثقة التامة بخصوص مختلف الوصفات التي يقدِّمها، وظل ينعت ذاته بكونه طبيبا تقليديا، درس وتعلَّم مرجعيات متون المجال بين طيات مصادر خالصة استلهمها من أفواه فقهائه الأفاضل.
سرعان ما سطع اسمع العشَّاب داخل الحيِّ، أولا بقدرته الهائلة على حبك الكلام دون تلكُّؤ، ووصله بسياقات مقامية خلال حديثه تنمُّ عن ذكاء تواصلي مدهش، مما أتاح له في ظرف وجيز توسيع قاعدة ضيوفه لاسيما فئة الرجال، الذين قصدوه تباعا، مثلما يكشف بخيلاء، بهدف تحقيق مطلب أساسي يشكِّل أولوية الأولويات مقارنة مع باقي الحاجيات الأخرى، المقصود هنا تحديدا، ماتعرفه الأدبيات الشعبية بالفحولة الجنسية.
أخبره أغلبهم، حسب قوله دائما، بجملة أسرار و حكايا لم تختبر كنهها حقيقة سوى الحيطان الصمَّاء، وأنهم ولجوا عتبة الموت البطيء إذا لم ينقدهم بخلطته، على استعادة مناطقهم السفلى لتوهُّجها الشبابي، وفتوَّتها،ثم وصل حبل الودِّ ثانية مع زوجاتهم المتعبات.
ذاع صيت صاحبنا، بعد فترة قصيرة من تدشينه يوميات دكان أعشاب، فقد صادف حفل الافتتاح نجاحه في ترميم ثم استعادة هِمَّة أحد العابرين الذي أفرغ عليه هَمَّه، فأمدَّه مجانا بقارورة صغيرة احتوت على زيت مركَّزة جدا، فأوصاه بدهن الجهاز ذهابا وإيابا كي تستفيق عروقه وينهض من سباته، ثم ارتشاف جرعة صغيرة قبل كرنفال الجماع بفترة قصيرة، وحالما يسري المفعول بين ثنايا الشرايين، سيقدِمُ لامحالة على زوجته إقداما، وذلك ما حدث فعلا كما روى، فقد عاد ثانية كي يخبره بالنتيجة المذهلة إلى درجة أنَّ زوجته شرعت تقبِّل يديه بكيفية هستيرية في أوج الانتشاء، ووعده من باب الشكر والامتنان والدعاية، بتعميمه مضمون النتيجة بين صفوف أصدقائه ومعارفه.
فعلا، تحقَّق الوعد، فأضحى اسم العَشَّاب معلوما وجوده عند الساكنة، ليس فقط الرجال المعنيين بجدليات البرود والفحولة والعِنَّة، بل صارت تطرق بابه النسوة أيضا قصد استشارته في حيثيات الفراش ومايجري مجرى ذلك.
كان يتقن فنون اللغو، وقدرته على الإحاطة بحضور الآخر .بمجرد ولوج أحدهم عتبة دكانه، يقابله بابتسامة عريضة وترحيب مبالغ، ثم كأس شاي مقطَّر هيَّأه على إيقاع تحلُّل خيميائية أعشاب برِّية وبحرية؛ حسب ادعاءاته دائما، كي تنطلق من هنا بعد رشفة أو رشفتين، عملية تنقية الجسم من العلل والأسقام التليدة، فيستعيد عافيته الجنسية حتى ولو كان صاحبه في أرذل العمر.
هكذا، تمضي حوارات العشَّاب طيلة اليوم، ومع ازدهار تجارته وتقاطر الزُّبناء مساء أساسا، صار لا يغلق مَحَلَّه سوى عند بلوغ ساعة متأخِّرة. تؤثِّثُ جدرانه صور حفرت ذاكرة المكان، فاكتسب منذ أيامه الأولى رمزية لدى المريدين: أسد يافع في كامل جبروته؛ التُقِطت صورته فيما يبدو وسط الأدغال الإفريقية .حصان عربي مهيب الحضور، خنجر حادّ أخذ شكل فاكهة الموز، ثم صورة تراثية قديمة جدا تخيَّلت وقوف حواء وآدم بجانب الشجرة المحظورة، إضافة إلى أيقونة مُجَسَّدَة تكمن في إبريق الشاي النحاسي القابع دوما دون استراحة على مجمر نار خافتة، حيث تتحلَّل بتؤدة خلطة الأعشاب التي تحيل نتائجها المنتظرة على دلالات تلك الصور ومعانيها البلاغية، فينتقل الزائر من حالة الضَّبع المنهك إلى جنس ذكر يطوي صدره رئتي حصان.
بدأ جيران المبعوث الإيروسي، يشعرون بالغيرة والامتعاض نتيجة الإقبال الذي غمر الدكان المعجزة، ورواج السلعة، وذيوع صيت العَشَّاب خلال ظرف وجيز، وتداول الألسن حكاياته الشبقة، المتواترة بكيفية مذهلة وبتناسق محكم عن الأجهزة التناسلية وشكلها وحجمها والزواج والطلاق والخيانة والعذرية والإباحية والعِفَّة والاستمناء والمقدِّمة والمؤخِّرة ومختلف الأوضاع الجنسية وماتعشقه المرأة ومايكرهه الرجل وأنواع الفراش، إلخ.
يستطرد سرده حول بطولاته العلاجية التي أنقذت عائلات من انفصام عراها نتيجة طلاق الزوجين، المرتبط أولا وأخيرا، حسب منظور العَشَّاب إلى التعثُّرات المفاجئة التي تكتنف العلاقات الحميمة، بسبب أعطاب طرأت على الأجهزة السفلى، البؤرة التي يأتي منها الخير والشر يؤكِّد تأويله.
لم تتجاوز تكلفة الخلطة دراهم معدودة، غير أنَّ مفعولها نوعي مثلما أشارت أغلب الاعترافات، على الأقل خلال الأيام الأولى، لكن سرّ تحضيرها ظلَّ متواريا في ذهن العَشَّاب وحده، غير راغب قط في الإفصاح عنه حتى لأعزِّ زوَّاره، وحين سؤاله يتخلَّص من جواب واضح، باللعب على سياقات الكلمات واستدراج موضوعات أخرى، أو دغدغة العواطف بذكائه المغناطيسي مثل “تسلَّح ياصديقي بحسن النيَّة، ولتنم حينها بكل أريحية بجانب الحيَّة”، “لا تتأتى الحياة سوى لكريم أو بارٍّ بالوالدين أو باسل زعيم”، ”كن أسدا في الفراش، كي لا تضيع رجولتكَ، وتصير أضحوكة تلوك باستهزاء سيرتكَ الألسن”، ”الفحولة من سمات المسلم، لأنَّه يعتني بصحته،الأمانة الملقاة على كاهله غاية يوم الدين” إلخ.
يسرد مختلف ذلك بطريقة خاصة تراجيكوميديا، تجعل الرسالة بليغة تلامس الأوتار الحسَّاسة، فيزداد الإقبال، واقتضى حينها الحصول على الخلطة وقتا أكثر من ذي قبل، وانتظارا قد لايسعف بتاتا صاحبه.
من ناحية ثانية، بالموازاة، تداعى خيط الإشاعات وتجلَّت الضغائن إلى السطح، بعضهم كشف اعتماد نجاح العَشَّاب على أحد السَّحَرة الذي يمدُّه بتعازيم تحضِر الإنسان زاحفا على بطنه. آخرون، أعلنوا احتيال الرجل وخداعه، بحيث يسرع إلى أقرب صيدلية متواريا عن الأنظار كي يشتري مقوِيّا جنسيا كيميائيا، ثم يطحنه ويمزجه مع بعض الأعشاب الحلوة المهدِّئة أساسا، فتنزل بردا وسلاما على جوف أفراد التجربة، تنتشلهم بسرعة من الضيق والجزع. جماعة ثالثة، ردَّدت يقينا تهم مغامراته النسائية العابرة مع زوجات يقصدنه لعلاج أزواجهن…
كثر اللَّغط السلبي حوله، بدأ يفقد تركيزه المعهود واجتهاده الدؤوب، نتيجة تراكم الهفوات، واتساع هامش الأخطاء. صار يغلق عند بداية المساء، وليس الاستمرار غاية ساعات متأخِّرة، كما دأب فترة أوج نجاحه. أصاب تغيُّرٌ سيميائية مزاجه، وتقلَّص حماس اندفاعه، قدر تناسل انتقادات انصبَّت عليه دفعة واحدة، بخصوص نجاعة الخلطة، فقد اتفقت أغلب خلاصات المُتَبارين بأنَّ ترياقها وجيز، أقصى مداه ليلة واحدة في أفضل الأحوال، ويصبح بعد ذلك تناولها غير مجدي بتاتا، بل تحدث مغصا يثقل كاهل المعدة، وفقدانا لشهية الأكل، فما بالك بشهية الشبق الموعود بها، من طرف العَشَّاب وأقسم دائما للجميع بشرف أمه وأبيه.
في خضم تلك الأجواء المتلبِّدة، فالمصائب لا تأتي فرادى، حضرت زوجة العَشَّاب بغتة إلى الدكان، تشتعل غضبا، المرأة التي تمنَّت جل نساء الحي احتلال مكانها، والتمتُّع بنصيب من حَظِّها السريري الوافر، مادامت كل ليلة تحتفل كأنَّها عروس، فزوجها لا يضاهى، رجل الميدان بامتياز وسيِّد مفاتيح الأزرار.
تصور طبيعي، جراء كل منظومة الإثارة التي أرساها الزوج، بيد أنَّ واقع حالها لم يكن حسب هوى تلك التخيُّلات، بل عكسها تماما، والأفظع أنَّ زوجها الفارس المغوار؛ مثلما ظنه رجال الحي، يعاني نفس ما يعانيه المستنجِدِين به. فضيحة مدوِّية ألقت بها الزوجة، وهي تقذفه أمام الملا بأبشع النعوت وأرذلها، بينما يقبع العَشَّاب في زاوية واضعا رأسه بين يديه دون أدنى إشارة، كأنَّه ميِّت.