غاستون باشلار: أمبادوقليس (3)

غاستون باشلار: أمبادوقليس (3)

ترجمة: سعيد بوخليط 

         مصير أمبادوقليس،بمثابة مصير/ قطيعة، ينفصل عن منحى الزَّمن المعتاد. لقد رصد فعلا فيلهام ديلتاي مبادرة أمبادوقليس هولدرلين نحو الانفصال جذريا، كـ”سلطان ومنعزل”، رفقة”مصير خارجي”:

”أراد هولدرلين تجسيد مكمن ينطوي عليه الإنسان المتأمِّل، يرتقي دون توقف، حينما تخرِس المشاعر الذاتية. السجال مع وجودنا (دازاين) المحدود، وكذا ضرورات الحياة التي تستمدّ أصلها من علاقتنا مع قوى لامرئية… هو تاريخ روحنا التي تستحضر أكثر من مشاعرنا الخاصة و إشباعها… وحينما يستمرّ هذا التاريخ متبلورا لدى شخص باعتباره الأكثر فعالية وقوّة وسموّا، فسينتهي به المآل، بكيفية أو أخرى، غاية تحريره من كل كبح للوجود، في منطقة الحرية، حتى لو اقتضى السعي الالتجاء إلى حضن الموت” (10).

شَكَّل موت أمبادوقليس أقصى نقطة يتخلَّص إبَّانها الكائن مما عاشه سلفا، أو اعتقد بأنَّه يعيشه. النار، هنا. تكتسي تلك النقطة الضئيلة المتمثِّلة في الوجود الإنساني، ضخامة النار. بالتالي، يصبح الدازاين المتيقِّن جدا من جذره، حجر صوان، بفضل شجرة الشعلة الهائلة.

بالفعل، شعرية أمبادوقليس عند هولدرلين غير مكرَّسة تماما إلى النار. بالنسبة إليه، تهيِّئُ النار الأثير، وتحضِّر عودة الآلهة الأثيرية إلى واجهة الحياة. تحدث تضحية أمبادوقليس كي تساعد على تنقية العالم، وكذا تأليه العنصر ماقبل الإلهي.

يبدو منحه نار الأرض الملوَّثة إلى شخص يسمو على جميع الأفراد، تنقَّى بعد مداواة، بالتالي أراد مساعدة النار الأرضية كي تصير سماوية، ونارا أثيرية. 

وُصِفَ هولدرلين دائما بكونه فيلسوف عنصر الأثير، غير أنَّ الأخير لن يكون سوى عنصر انسلالٍ خارج إطار باقي العناصر. بالتالي، عدم امتلاكه صورة مادية بإمكانها الإدلاء بشهادة عن الباطني، فالأثير عنصر لايمتلك باطنا.  

يجسِّد أمبادوقليس حسب تأويل هولدرلين بطل صيرورة أثيرية. يرغب في الموت باعتبارها عودة إلى موطنٍ سماويٍّ. أخيرا، الموت استعادة الأبِ في خضمِّ التهاب الفكر:

هنا فوق هذه القمة، في غاية الثَّراء والابتهاج

أمكثُ سلطانا بجوار كأس النار

الفكر مفعم غاية الحافة، ومكَلَّلٌ

بأزهارٍ جعلها تنمو

حسن الضيافة التي حظيتُ بها من طرف الأبِ إتنا (11). 

سيتحرَّر هذا الفكر الأبويُّ القابع في البركان، نتيجة تضحية الابن:

بعد الآن، لن تتوارى عنِّي أيُّها الفكر المحتَجَزُ،

تصبح لديَّ مضيئا، فلم أعد خائفا.

أريد أن أموت؛ ذاك حقِّي الشخصي.

آه !أيَّتها الآلهة! فتوَّة! فتوَّة !أشبه فعلا بمطلع الفجر

يشعُّ كليّا من وجهي.

عند حافة الأسفل لم تتوقَّف زمجرة استياء قديم!

وأفكاركِ النَّائحة تماما!

قلب مضطرب! قط لم أعد حاليا  أحتاجكِ.

لاريب أبدا بهذا الخصوص. إنَّه نداء الإله…(12).

أمام الفوهة، وحيال الشعلة، يحتفي هولدرلين بـ”الفكر، والأبِ الأثريِّ”. نعاين حقا حضور الموت وفق هيبته الرجولية. إنَّه حتما فضاء كون ذكوري ينفتح على فكر ”ينتمي تحديدا إلى ذاته ”، متحرِّر من حنين شتَّى أنواع الليونة الأنثوية.

تبثُّ هنا ثقافة هولدرلين الهيلينية بعض الدَّمار. تستحضر الآلهة. يتعرَّض الشاعر للإحراج من طرف أحد تلامذة الأوليمب. هل يلزمنا الموت عبر موت مطلق قصد ولوج عائلة الآلهة أو لكي تصبح حقّا كائنا، وقوَّة، ثم وميض كون؟ لقد اختار أمبادوقليس الموت عن طريق فعل إرادة صلبة (13):

أنا مجرَّد وميض، شهاب في رحلة الشتاء.

أيُّ إشارة بالنسبة إلينا، على أنَّه وميض بين طيات برودة فضاء كونٍ شتويٍّ! إشارة الانتقال من النَّار إلى الأثير. هذا الأثير إذن نار باردة، نار تضيء دون مادة، نار تضيء الفكر.

ينقاد الفيلسوف خلف النَّار، فيستسلم إلى مصير فكر خارج الحياة يرفض إبطاءه من طرف الحياة. في الأثير،لاشيء أرضيا، كثير من الدخان، لا شيء مائيا، كثير من الضباب. بل لاشيء هوائيا في الأثير، لا رائحة، ينعدم كل أريج أو تيار. غير، أنَّه قبل الأثير، يحدث إعداد حرية المادة، كل المادة، بالتالي يلزم دائما الحلم بالنار، ما وراء النار. وحدها النار قد تجعل من الأثير عنصرا فائقا. يكمن دائما مصير قصيدة الأثير من خلال تجاوز قصيدة النار.

سعى هولدرلين أن يحيا، عند هذا الأوليمب، ”الأثير الأبويِّ” (14)، بغير نقطة تمركز، أو امتلاك أوَّلي بين ثنايا عالم الأثير، وفق هيمنة المهيمِنِين. لقد تأمَّل الشاعر مصير أمبادوقليس، بيد أنَّه لم ينجز تماما مافوق/أمبادوقليس. أبطأت تراجيدية الإنسان الخيال الشعري و كبحته: ”فلتكن، أيُّها النشيد! ملاذي المِضياف”.

يفترض أن يكون أمبادوقليس/هولدرلين قصيدة وليس تراجيدية. أدركتُ نفس الخلاصة وأنا أتفحصُّ متونا أخرى للإبداع الأدبي.

كتاب لم نكمل إنجازه قط، نبدأه من جديد مرَّات عدَّة، ويشغل الذهن أكثر من كِتاب آخر اتَّخذ إبداعه خَطّا مستقيما جدا قصد تشجيع المبدع. يتَّجه التفكير إلى استحضار هولدرلين، غالبا، خلال جهد الإبداع، مصير أمبادوقليس.

تطرح فعلا، دراسة عُقدة ارتداد/إبداع على مستوى الإبداع الأدبي، إشكاليات بالنسبة لتحليل نفسي ينصبُّ على تباين الفروق الدقيقة. اهتمَّ المحلِّلون النفسانيون بالتردُّد قبل التصرُّف. لكنهم لم يتناولوا قط التردُّد قبل الكتابة. يسهل كثيرا، قصد استبعاد هذه الإشكالية، القول بأنَّ الكتابة طريقة للتصرُّف. من يكتب يمحو- والمحو كتابة ثانية. ينطوي كل شيء في حياة الكاتب المتحوِّلة، على أكثر من نهاية.

عند اقتفاء أثر هذا التردُّد على مستوى الكتابة، وفق مختلف منحنياتها، وكذا جلِّ رعشاتها، بوسعنا حينها قياس تضمينات الشعري في الحياة، ثم تسامي الحياة من خلال الشعري. يتداخل الشعري والواقع الفعلي. تسلكُ النفسية سبيلا شعريا. بالتالي، هذه المرَّة، سعادة الكتابة.

نجدنا حيال وضعية تعاكس بطريقة وضعية/التردُّد لدى هولدرلين. بدوره ماثيو أرنولد، كتب عن أمبادوقليس، ودفع بالمشروع غاية منتهاه. لكن بمجرَّد إتمامه الدراما الشعرية، أضفى عليها ماثيو أرنولد انتقاداته الخاصة. انتقاد الكاتب لما طرحه، إشارة عن تردُّدات اختبرها قبل أن يكتب. وننتقل بذلك من سعادة الكتابة إلى  تعاسة تجلِّيها. درس جميل يلزم تقديمه للذين يفرطون في الكتابة.

أنهى ماثيو أرنولد مبيعات كتابه أمبادوقليس في جبل إتنا، وبالكاد تجاوزت خمسين نسخة. ولم يبادر بعد ذلك إلى إدراجه ضمن إصدار احتوى على مختلف كتاباته سوى جراء إلحاح روبير بروينغ.

مقارنة مع الانتقادات التي ضمَّنها ماثيو أرنولد صفحات كتابه، اتَّسمت التردُّدات التي حالت دون إنجاز هولدرلين لعمله،بهدوء أكبر، إذا جاز القول. لم يعرف ماثيو أرنولد حين كتابة دراسته حول أمبادوقليس، كيفية الإفصاح عن  الحزن الجاثم فوق صدره. لذلك، أخبر آرثر هيو كلوف سنة 1853، بما يلي: “نعم، احتقان الدماغ، هذا مصدر ألم مستمر، أحسُّه وأفصح عنه، ثم أناشد الهواء بصرخات متعالية على منوال أمبادوقليس الخاص بي”.

هكذا، لم يمنحه عمله حول أمبادوقليس الرَّاحة. فشل بعد النجاح، وَسَمَ فشل في العمق، أمبادوقليس ماثيو أرنولد. يتأتَّى دليل إضافي، بخصوص عدم قدرة التحليل النفسي للمشاعر الإنسانية على إبراز مصير أمبادوقليس، في إطار عمل دراماتيكي. لكن توجد صفحات أنقذت خلالها الشعرية كلَّ شيء. انطوى عمل ماثيو أرنولد تحديدا على قصيدة قوامها اللحظة، خلاصة لحظتيْ الإنسان والعالم.

أقدِّم دليلا حول هذه الهيمنة الشعرية للحظة أمبادوقليس:

آه! لو أمكنني الالتهاب على شاكلة هذا الجبل!

آه! لو أمكن قَلْبي الوثوب مع اندفاع البحر!

آه! لو كانت روحي مفعمة بالنور كالنجوم!

آه! لو استطاعت التحليق مثل الهواء أعلى من العالم!

لكن لا، هذا القلب لا يشتعل قط، توقَّفتَ يا أمبادوقليس على أن تكون إنسانا حيّا!

أنتَ مجرَّد شعلة فكر مدمِّرٍ، فكر منسلِخٍ وقلق دائما! (15).    

بالنسبة لحالم الحياة والموت، يقترح كل عنصر كونِيٍّ خلاصا. لكن قبل شعلة البركان، فقد اجتاحت شعلة الفكر فؤاد الكائن الحيِّ. يلزم عودة الفكر إلى النار، ”حياة النار الذكيَّة والمشرقة” (16).

الموت الأوَّلي، موت عِلَّتُهُ الكون وفي سبيله. حياة الإنسان مزيج خاطئ، مما دفع الفيلسوف إلى اختيار موته. أخبرنا لويس بونيرو، بأنَّ هذا المقطع الشعري تحديدا ”لا شيء، فقط أن تلتهم الشعلة الفكر ”يعتبر” الأكثر إيحاء” في كل القصيدة (17).يقترب هذا المقطع الشعري من عبارة ”أنا الجحيم ذاته” التي اختزلت كلَّ ”الفردوس المفقود ” لصاحبه جون ميلتون. 

هكذا، امتلك ماثيو أرنولد/ أمبادوقليس، ”حدس الموت الكبير” على حدِّ قول لويس بونيرو، موت ينتشلنا من استعراضات الحياة بغية معانقة لانهائية الكون، الذي يتمدَّد ببداهة ويجد رمزه في الشعلة.

نصبح وسط الموت ذاته مانحن عليه. يلزم أن تكون شعلة كي تعيش وسط الجحيم، ثم شعلة قصد الارتماء في بركان إتنا. لقد انتمى أمبادوقليس إلى البركان قبل الاندفاع نحوه. لا يكفي فقط التحليل النفسي، قصد تحديد مصير ناري من هذا القبيل. دون بلوغ تفاصيل دراسة ماثيو أرنولد، بوسعنا ملاحظة اختلال التوازن بين التحفيز ثم الفعل.

أيُّ سخرية حين سماع التماس أمبادوقليس ماثيو أرنولد من العناصر :  

خدمة أخيرة  قبل أن يخنق أوباش السفسطائيين

من خلال كلمات الوميض الأخير للوعي الإنساني(18) .

الهروب من الحياة كي لاتزعجنا قط السجالات الفلسفية ! لكن،هناك خطأ أكثر جسامة،تضمَّنته دراسة ماثيو أرنولد لأمبادوقليس بحيث لم ينجح بشكل أفضل في إعطائها علَّة جمالية. بينما يخطو أمبادوقليس صوب الموت، نلاحظ أحد المريدين الشَّباب بصدد عزف قيتارة في منحدر. يتغنَّى بجمال العالم، الأشجار، النَّدى والنسيم. جدلية دون ضجيج، بين طمأنينة الوديان بظلالها ثم النار الحمراء المنبعثة من البركان.

ندرك دائما نفس الخلاصة: ينبغي على صنيع بركان إتنا والفعل البشري العثور على وحدتهما في خضمِّ السيادة الشعرية.تغدو كل تاريخية هنا تابعة. فقد تآلفت لحظتا الإنسان والعالم. يستمرُّ دائما إتنا موقدا يحرق الفيلسوف. تفْلِتُ الصورة من التاريخ وكذا التحليل النفسي. كائن الصورة فنٌّ شعري. مادمنا نبلِّغها بواسطة الكلام، فتصبح قيمة له. الصورة التي لا أراها قد توارت خلف تعابير تزيِّنها، وتتجدَّد من خلال الكلام. مختلف علاقات الصورة مع الواقع بمثابة إرساء ينبغي حتما تقويضه قصد ولوج مملكة الشعري.

إذن الصورة الكبيرة مكتفية بذاتها. ترفض التمدُّد في إطار بعد تاريخي، ينحدر بشموخها ويجعل منها تراجيدية. فالتراجيدية تحكم المشاعر، تضاعف الصراعات الإنسانية، تحطِّم أهدافا.بالنسبة لمختلف هذه التراجيديات الإنسانية، يظلُّ الكون  رغبة.

بناء على تصميم ثان، غير الخريطة  التراجيدية، يصبح بركان إتنا شخصا. لم تستطع النار النيل من كرامة الشخص، سواء مع عمل هولدرلين أو ماثيو أرنولد. فعلا، تحدَّث الأخير عن صرع تايتان (الجبار) تحت الجبل، الذي كان تحريكه له يخلق ارتجاجا للكرة الأرضية، ويئنُّ عبر هدير الحِمَمِ البركانية، وينفث بخارا كبريتيا، لكنَّ الشاعر رفض تصديق ذلك. يختبر رغبة فيلسوفه/البطل في تأكيد عدم إيمانه بذلك. دليل جديد على صعوبة إبداع الشعر ضمن نطاق الثقافة.                                

____________________________________________________________________________________

Gaston Bachelard :Fragments d une poétique du feu (1988).PP :142-151 

(10) بيير بيرتو: نفس المرجع،ص 231 .

(11) موت أمبادوقليس، ص 159

(12) نفسه، ص 161

(13) نفسه ص 170

(14) الإحالة هنا على قصيدة هولدرلين سنة 1796

(15) موت أمبادوقليس، ص 151

(16) نفسه، ص153

(17) نفسه، ص 54

(18) نفسه، ص 135

Visited 1 times, 1 visit(s) today
شارك الموضوع

سعيد بوخليط

كاتب ومترجم مغربي