فض الاشتباك بين النسبي والمطلق لبناء مجتمعات أكثر عدالةً واستقراراً
نضال آل رشي
في عالمٍ تتعدد فيه الثقافات وتتصارع فيه الأفكار، يصبح التساؤل حول وجود حقائق مطلقة أو نسبية أمراً جوهريّاً في تشكيل المجتمعات وتوجيه مستقبلها. هل يمكن لمجتمع أن يستقر إذا تبنى فكرة النسبية؟ أم أن فرض المطلقات دون مرونة يؤدي إلى الاستبداد؟ في هذا المقال، نحاول استكشاف التداخل بين النسبي والمطلق، وتأثيره على المجتمعات، وكيف يمكن إيجاد توازن يضمن بناء مجتمع عادل ومستقر.
منذ بزوغ الفجر الأول للفلسفة، ظل التساؤل حول طبيعة الحقيقة والواقع أحد المحاور الأساسية في الفكر الإنساني. بين المطلق الذي يسعى إلى تقديم مبادئ ثابتة تنظّمُ الوجود، والنسبي الذي يقرُّ بأنّ الحقيقة والمعرفة والسلوكيات تتغير وفقاً للظروف والسياقات المختلفة، نشأت مُعضلة فلسفيّة لم تزل تؤثر في مجالات متعددة، من العلوم إلى السياسة، ومن الأخلاق إلى القانون.
النسبية تعني أن الحقيقة ليست ثابتة بل تتغير حسب السياق والظروف. في الفلسفة، رأى رائد النسبية ومبدعها الأول الفيلسوف اليوناني بروتاغوراس أن “الإنسان هو مقياس كل شيء”، بمعنى أنّ الحقيقة تختلف من شخصٍ لآخر، مما يجعلها ذات طابع ذاتي بحت. أما في الأخلاق، فتُطرحُ النسبية كإطار لفهم اختلاف القيم بين الثقافات، حيث ما يُعتبر فضيلةً في مجتمعٍ قد يكون رذيلةً في مجتمعٍ آخر. في المقابل، المطلق يرتبط بالثبات واليقين، فهو يعبّر عن حقائق وقيم لا تتغير مهما اختلفت الظروف أو الأماكن كعالمِ أفلاطون حيثُ الأفكار والمُثل لا تتأثر بالزمن ولا بالتحوّلات الاجتماعية والثقافية.
الإشكالية هنا لا تكمن فقط في تحديد ما إذا كان هناك مطلق أو نسبي، بل في تداعيات تبنّي أحد الموقفين بشكل متطرف. إذا قبلنا بتعميم النسبية، فإن كل فكرة أو معتقد يصبح صحيحاً وفقاً لمن يتبناه، مما يجعل الحوار والتوافق صعباً إن لم يكن مستحيلاً. فلو كان كل رأي صحيحاً بالنسبة لصاحبه، كيف يمكن بناء أرضية مشتركة تسمح للمجتمعات بوضع قوانين عادلة؟ على الجانب الآخر، إذا اعتبرنا كل شيءٍ مطلقاً وغير قابل للنقاش، فإن ذلك سيؤدي حتماً إلى جمودٍ فكري واستبدادٍ اجتماعي، حيثُ كلُّ خروجٍ عن هذه المطلقات خطيرٌ ومرفوض.
العلم ذاته، الذي يُعتبر نموذجاً للبحث عن الحقيقة، يعكس هذه الجدلية بين النسبي والمطلق. في الفيزياء، قدمت نظرية النسبية لأينشتاين تصوراً جديداً للزمن والمكان، موضحة أنهما ليسا مطلقين كما كان يُعتقد في الفيزياء الكلاسيكية، بل يتغيران تبعاً لسرعة المراقب والجاذبية. ومع ذلك، تبقى هناك قوانين علمية تعتبر مطلقة ضمن نطاقها، مثل ثبات سرعة الضوء في الفراغ. وحتى في الرياضيات، التي تبدو عالماً منطقياً بحتاً، يمكن العثور على بعض النسبية. العملية الحسابية 2+2=4 صحيحة في النظام العشري، ولكن في أنظمة عددية أخرى مثل النظام الثنائي، تكون النتيجة مختلفة من حيث التعبير الرمزي (10₂ + 10₂ = 100) رغم أنها تحتفظ بقاعدتها المطلقة الداخلية. هذا التداخل بين النسبي والمطلق في العلوم يعكس الحاجة إلى فهم الحقيقة كنظام متداخل، حيث تكون بعض الأمور نسبية وأخرى مطلقة بحسب الإطار الذي نضعها فيه، وتُبرزُ الفرق بين النسبية الفلسفية التي تقول إنه لا يوجد أي شيء مطلق، وبين النسبية المنضبطة التي تقبل بوجود قواعد نسبية داخل أُطر معينة ولكنها لا تنكر وجود أنظمة ثابتة. حتى في الفيزياء الكمومية، حيث نجد العشوائية وعدم اليقين، هناك قوانين إحصائية تتحكم في الاحتمالات، مما يعني أن هناك نوعاً من البنية المنتظمة رغم النسبية. إذن، النسبية موجودة لكنها ليست مبرراً لرفض الحقائق المُطلقة في كل المجالات، فبعض الأشياء نسبية أو مطلقة وفقاً للسياق، لكن لا يمكننا الادعاء بأن كل شيء نسبي بلا استثناء أو مُطلق بلا استثناء وهو فرق جوهري يمكن إسقاطه على مجالات أخرى مثل القيم الاجتماعية والسياسية.
ما الذي يجب أن يكون مُطلقاً إذاً؟
حقوق الإنسان الأساسية كالحق في الحياة، حرية التعبير، حرية المعتقد، المساواة أمام القانون، منع التعذيب والمعاملة اللاإنسانية. هذه الحقوق يجب أن تكون محميّة بغض النظر عن الظروف السياسية أو الثقافية. سيادة القانون واستقلال القضاء يعتبران أساساً لمنع الظلم وضمان العدالة دون تمييز. كذلك، وحدة الأراضي والسيادة الوطنية يجب أن تكون مطلقة لمنع التقسيم والفوضى، وأي تغيير في هيكلة الدولة يجب أن يتم وفق إجراءات قانونية محددة وليس بقرارات فردية أو جماعات ضغط. من جهة أخرى، الانتخابات الحرة والنزيهة وتداول السلطة يجب أن تكون مبدأً مطلقاً، بحيث لا يمكن لأي فرد أو حزب البقاء في السلطة إلى الأبد. حرية الصحافة والتعبير، ضمن حدود تحمي الأمن العام دون قمع المعارضة.إضافةً إلى ذلك، لا يمكن قبول أي شكل من أشكال التمييز القائم على الجنس أو الدين أو العرق أو الخلفية الاجتماعية، والقوانين يجب أن تُطبق بالتساوي على جميع المواطنين. أخيراً، الدفاع عن الدولة ضد التهديدات الخارجية يجب أن يكون مبدأً ثابتاً وغير خاضع للنسبية أو التفاوض، شريطة ألا يتحول إلى قمع داخلي.
في المقابل، هناك جوانب يجب أن تكون النسبيّة فيها سيّدةَ الموقف، بحيث يمكن تعديلها وفقاً للظروف والمتغيرات، مثل السياسات الاقتصادية والنظام المالي وإدارة الموارد. كذلك، القوانين الاجتماعية والثقافية، قوانين الزواج والطلاق وحرية اللباس وتنوّع أنماط الحياة يجب أن تكون قابلة للنقاش والتعديل ويجب أن تحترم القوانين الثقافات المختلفة داخل الدولة دون فرض نموذج واحد على الجميع. النظام التعليمي والمناهج الدراسية يجب أن تشجع على التفكير النقدي وأن تكون مرنة لتتماشى مع التطورات العلميّة والتكنولوجيّة ومتطلبات سوق العمل والمجتمع. العلاقات الخارجية والسياسات الدبلوماسية يجب أن تكون نسبيّة وفقاً للمصالح الوطنية المتجددة، ولا يجب أن تكون ثابتة أو مرتبطة بأيديولوجيا غير قابلة للتغيير، كما يجب أن تخضع التحالفات الدولية والتوجهات الدبلوماسية لمتغيرات السياسة العالمية. مدى استقلالية الأقاليم والمحافظات يجب أن يكون متغيراً بناءً على الحاجة الإدارية وظروف الدولة، حيث قد تحتاج الدول إلى نظام مركزي في مرحلة ما، بينما قد يكون النظام الفيدرالي مناسباً في مرحلة أخرى. أخيراً، بعض القوانين مثل سنّ القيادة، قوانين العمل، أو حتى قوانين الإعلام، يجب أن تبقى قابلة للمراجعة بناءً على التطورات الاجتماعية والتكنولوجية.
هنا لا بد من التنويه إلى أنّ التحدي الحقيقي ليس في الاختيار بين النسبية أو المطلق، وأنّ بناء مجتمع عادل ليس مجرد مسألة صياغة قوانين، بل هو نتاج عملية فكرية عميقة تتطلب فهماً دقيقاً للحدود بين ما هو نسبي وما هو مطلق. لذا، فإنّ المجتمعات التي تمكنت من تحقيق هذا التوازن في فكرها الجمعي قبل دساتيرها وقوانينها كانت الأكثر قدرة على التطور والازدهار، لأنها تحافظ على ثقافتها دون أن تفقد قدرتها على التكيف مع المُتغيرات، واستطاعت أن توفر بيئة تضمن حرية الفكر مع الحفاظ على النظام والاستقرار.
ختاماً، إنّ المجتمعات التي تبنت النسبية المتطرفة لاحقاً كما يحصل في الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة اليوم، تواجهُ خطر الانقسام والتشرذم والفوضى، بينما تلك التي اعتمدت على مطلقات غير قابلة للنقاش كأفغانستان وإيران وكوريا الشمالية، انزلقت إلى أنظمة قمعية لا تَعِدُ إلا بالمزيد من التخلف والعنف وعدم الاستقرار، فالمستقبل لا يكون مِلكاً لمن يتبنى المطلقات المتحجرة ويكمم الأفواه، ولا لمن يغرق في فوضى النسبية ويطلقُ العنان للشعبوية، بل لأولئك الذين يفهمون أنّ الاستقرار الحقيقي يأتي من إيجاد منطقة وسطى بينهما.