عبد الله المسفيوي أو في رحلة البحث عن “مولاي بوعزة” من جديد!

عبد الله المسفيوي أو في رحلة البحث عن “مولاي بوعزة” من جديد!

عبد الرحيم تافنوت

           ما معنى أن تحمل قلما وتضع أمامك ورقة خالية من أي أثر يخدش بياضها الممتد، وتبدأ في الكتابة عن رفيق يحمل اسما تكاد تعرفه كل اليسار المغربي،بفصائلها المركبة وأجنحتها المتحركة إلى اليوم اسم من صفاته الحسنى أنه كثوم، يمر على القلاع جلها دون أن تنتبه إليه الأرواح النائمة التي لا تدرك معنى أحلام اليقظة ليلا…!!

عن هذا المعلم بالمعنى اللينيني طرحت على نفسي هذا السؤال لأول مرة، ومباشرة بعد ان تلقيت طلبا ثمين المعنى من رفاق لهم في قلبي معزة الاستثناء في بيوت القلب الرقيق، دأبت سلا منذ أقرب من الأربعين سنة على تسميتهم بـ” رفاق سلا”. وأقصد بذلك رفاق التجربة الماوية في الحركة الماركسية المغربية، الذين اختاروا منذ  التأسيس لأنفسهم وعبر قيادتهم التاريخية اسم منظمة “لنخدم الشعب”.

طلب الرفاق هذا، وبالقدر الذي وضعني في البرج العالي من محبتهم وتقديرهم، جعلني من جهة أخرى في وضع يشبه إلى حد كبير، وضع ذلك الضيف الذي سيخضعه أبناء دار الضيافة لجلسة حوارية حميمية، يستوجب موضوعها استدعاء كل ما في الذاكرة عن “الأخ الأكبر” في العائلة! خصوصا إذا كان هذا الرفيق يحمل اسم “عبد الله المسفيوي “، أو كما كان يناديه رفيقه الراحل عبد الله زعزاع بـ“السي عبدو الله”! 

– فما كان مني إلا أن قبلت المقترح مع ما سيستدعيه ذلك من مواجهة مع امتحان الرجوع إلى جل التواءات الذاكرة والزمن، الزمن الذي تعرفت فيه على هذا “القطب الحركي” الذي سبق للراحل “خالد الجامعي ” أن وصفه لي بـ “الراهب الصموت “!! الذي يشتغل في صمته وبصمته أيضا حيث ينسج العلاقات ويربط الروابط، ويطلق المبادرات، ويقرأ على لوحته تطور الوقائع، ويتكهن بجزء من سيروراتها، فيستبق الأحداث، ليفعل فعله الذي يجب فعله، أو الذي سينحو إلى التخلي عنه، أو تأجيله حتى ينطلق قطار العمل في رحلته الأولى على الأقل..!!

– عن ميلاد  رفيق الراحل عبد اللطيف الدرقاوي، تخبرنا الأوراق الإدارية لهذا السجين السياسي زمن سنوات الجمر الحسنية، أنه ازداد بعناد الأقدار في تلك الأرض والمنطقة المتمردة التي ستعرف في الكتابات التاريخية المغربية ببلدة المعارضين والثوار، أي بلدة “مولاي بوعزة”، الأرض التي ستشهد قيام النضال الوطني ضد الاستعمار وحتى قبل مجيئه، وكذا الانخراط في الصراع القاسي ضد استبداد دولة مابعد الاستقلال… 

– وسيخبئ نفس هذا القدر العجيب لرفيقنا عبدالله، بعد أن كبر واشتد عوده، وصار واحدا ممن ارتأى نظر دولة الحسن الثاني أن يقضي جزءا من طراوة عمره الغض داخل سجونه المترامية، أن تقرر سوداوية هذا الزمن المكبوح بأن تجمعه في السجن المركزي بالقنيطرة بوجوه مناضلين من مسقط رأسه، وكانوا من جل الأعمار شبابا وشيوخا، وهم على صلة بما ستسميه التقارير الصحفية الدولية بـ “ثورة مولاي بوعزة” وتفاصيلها الجحيمية…

– الثورة التي وضع لها ابن قائدها الميداني محمد بنونة (ذو الاسم السري محمود) – عنوانا / لقبا – جاء مليئا بالمرارة والمفارقة: (أبطال بلا مجد )، وهو ابن أحد مهندسيها وأبطالها رفيق المهدي بنبركة والفقيه البصري، وهو الكتاب العنوان الذي سينتشر كخبز ساخن يوم صدوره، وكأنه عنوان لتراجيديا تاريخية مغربية تذكر الملمين والمأخوذين بواجبات الذاكرة التحررية المغربية ومعطيات درسها التاريخي وبمآسي مئات الثائرين والمتمردين في بلاد المغرب الأقصى وعلى فترات زمنية لم تتوقف…

– قلت بين تاريخ الميلاد ذاك، وتاريخ الاختطاف والاعتقال والمحاكمة التاريخية الشهيرة التي عرفت في حوليات قضاء مغرب الرصاص – ما بعد الاستقلال – بمحاكمة حركات اليسار الراديكالي المغربي بالدار البيضاء سنة 1977، سيتشكل عقل عبدالله ومزاجه عبر تجارب في النضال التلاميذ وبعلاقة مع أجواء الجامعات المجاورة الساخنة الأجواء والحافلة بالمواجهات مع أجهزة الأمن المتعددة الألوان بمدينتي الرباط وسلا التي لا زالت “تعتقل” أنفاسه المختفية..

ومرة أخرى وأخرى سيصطدم عبدالله بأثر مسقط الرأس منذ انتقاله المرحلي الدراسي لاستكمال تعليمه الثانوي بمدينة سلا عاصمة الجهاد البحري وصولاته الوسيطية ، هناك حيث ستتبعه رائحة تراب مولاي بوعزة لا كمكان فقط لإنجاب “الممانعة الوطنية والثورية”، بل أيضا، وعلى الخصوص، كمنبع للجدل السياسي الصاخب ولقضاياه العملية والنظرية التي بقيت تتدحرج وتأخذ أشكالا بيانية وبلاغية منذ السنوات الأولى للاستقلال الناقص والشكلي، مرورا بهزات الستينيات كلها واستقطاباتها وتقاطباتها العنيفة، إلى انقلابات القمة لسنتي 1971 و1972، وصولا إلى محطة 3 مارس 1973 التي أعادت صياغة حلم”الثورة” من خارج الأسوار التقليدية لأدبيات فصائل الحركة الوطنية، حيث سيطرح بقوة سؤال “الاختيار الثوري” في مقابل الاختيار الإصلاحي، أو بلغة أوضح وأنصع: سؤال التغيير بالعنف والسلاح في لحظة تاريخية موسومة بهذا المنحى جهويا وقوميا وعالمثالتيا …!!

– من العادات التي انتبهت إلى أن الرفيق المسفيوي لا يفارقها قلة انخراطه في أحاديث عامة عن السياسة وفي السياسة من زاوية التاريخ الماضي، لأنه كما يشهد بذلك “رفاقه الحميميون” كان دائما يكون مشغولا بأسئلة “الحاضر” و”الوضع القائم”… وماهي المهام الراهنة وكيفيات إنجازها، ومع من سيعقد الاتفاقات، أو سيرسم الحدود، وذلك كله بالاستعانة بكامل السر الذي يضمن الفعالية وقضاء الحوائج وينتج الأثر السياسي المباشر…

– لكن من جهة أخرى سيعثر كل من يقترب منه كثيرا ويعاشره بل وسيفسح لنفسه فرصا لقنص ما يخفيه هذا الهارب من الأقفاص المنغلقة عن العالم “المفتوح”،،، وحينها سيكتشف أي نوع من العلاقة يقيمها عبدالله مع ما يسميه “سياسة التغيير، تغيير ميزان القوى لصالح المحرومين من الشعب وقواه المنتجة”!!…

– في واحدة من جلسات “المؤمنين التقاة” طرحت سؤالا عليه حول أحد القرارات التي أثرت في حياة العديد من الرفاق وهم لازالوا لم يكملوا دراستهم الثانوية، وهو قرار كان مصيريا صدر كتوجيه من طرف قيادات التنظيمات الماركسية للمناضلين في مختلف مواقعهم، والذي يقضي بالتحاق الأطر الفاعلة والحيوية بما يسمى بالقطاعات الإنتاجية حيث الصفوف الغفيرة للطبقة العاملة صاحبة المصلحة في التغيير… وقد كان هذا التوجه وقتها هو أحد المظاهر الجذرية التي رأت فيه هاته التنظيمات اليسارية أنها ستسرع بعملية بناء أسس الحزب الثوري على مراحل، والذي سيكون من مهامه تخصيب الحل الحاسم… وتهيئ فترة الانتقال إلى نظام جديد… – وكان من عجب العجاب في تلك الجلسة أن رفيقنا “عبدالله ” لم يتكلم عن هذا القرار من زاويته الذاتية الشخصية!! هو الذي عرفت عبر إخباريات أقرب صداقاته أنه انضبط بسرعة واتجه نحو “الموقع المطلوب”، دون تردد في قطاع النقل الحضري لعاصمة الرباط وسلا!! – في تلك الجلسة الودودة أبعد رفيقنا الحديث عن تجربته هو كفرد، ككائن له طبعه، ومزاجه المركب، وثقافته الخلفية التي عبر شبكاتها يقرأ معاني الأشياء، وهويته الميكرو وجودية التي تهبه القدرة على معايشة التجربة النضالية وتوجهاتها بسحنته السيكولوجية الخاصة…

– لكنه في مقابل ذلك أطلق العنان للحكي عن وقائع سياقات هذا القرار على لسان “الغائب” كآلية لتبليغ الأفكار والأسرار على مسافة من ذاتية الحاكي، وهو القرار الذي قالت عنه أدبيات رفاقنا، في الجيل الماركسي اللينيني المؤسس بعد الانفصال عن المدرسة الشيوعية الرسمية والمدرسة الاشتراكية الاتحادية الكلاسيكية، أنه كان يرمي إلى “بلترة” واسعة للأطر اليسارية وتحريرها من عوائق الاتصال الصميم بالواقع الملموس للطبقة والفئات الرئيسية في رحلة الثورة…

– فهل كان عبدالله استثناء

وهو “يستحوذ” هذا النمط من أخلاق التعفف والتقليص الصارم لنزعات الظهور واحتلال خشبة الفعل التنظيمي؟؟

– وهو يعود بذاكرته إلى تلك اللحظات كان يذكر الرفاق “المنتحرين طبقيا” بأسمائهم وكيف صاروا ينحتون في الممارسة تسللهم إلى علاقاتهم وبيئاتهم الجديدة (الاستغلال)، ليفهموا هيئة “الجدل الجديد ” عليهم حسب ما تركه لهم قاموس أنجلز في وصفه لحالة الطبقة العمالية البريطانية في منتصف القرن التاسع عشر ومطلع القرن الذي سيليه، وكيف عاشوا انقلاب وضعهم الخاص دون أن يتخلوا عن مهماتهم التنظيمية في استقطاب الكفاءات المستعدة لمجابهة مهمات بناء الأداة الثورية تحت نيران القمع…

– لكنه بالمقابل، وهو يتحدث دون تسرع، كان يبذل مجهودا غير مرئي لإخفاء دوره ونوعية مساهماته في إنجاز المهمات اليومية والصعبة، على بساطتها، في وضع كان “محروسا ومتابعا” بكل شعب القوات الأمنية الشرسة التي كانت عيونها لا تنام حتى ولو نامت عقولها المتحجرة…!!

– و هو يتابع حكيه على شكل “تلغرافات لاسلكية” كنت كلما حاولت استيعاب هذا المنحى السلوكي وأجد له مبررات منطقية، كانت العديد من آثار الأوراق والمذكرات التي اختطتها أقلام العديد من مناضلي وكوادر الحركات السرية اليسارية العالمية بكل أجنحتها وبجل تياراتها، تعود إلى ذهني… فأستحضر بسلطة المقارنة عناصر ما اشترك وما تفرق واختلف بين هاته الحركات من حيث بناءات الممارسة التنظيمية والسياسية الثورية بواسطة تناوب الخطأ والصواب والنجاح أو الفشل…

– أكيد أن عالم السياسة في أي بلد هو عالم يغلي باللامتوقع وباللامنظور، وأكيد أن السياسة في تعريفها الأكثر وضوحا هي”فيزياء المجتمع” والحقل الذي من خلاله يعرف العلماء طقس المجتمع ودرجات حرارته وبرودته، وكذا توقعات العواصف التي قد تحل به، و كذا تغير حالة ساكنته وأنماط عيشهم المجالية والعلائقية، لكن السياسة مع ذلك قد تخفي عنك بأساليبها المتحولة مع الزمن ما قد يجمع أفرادا محددين في مجتمع معين وفي وضعية تاريخية خاصة ومخصوصة، وما قد يوحد بينهم للتخطيط لمشروع في التغيير، سواء كان إصلاحيا متدرجا أو بلباس ثوري قطعي وجذري، يفكر في إحداث القطيعة مهما كان الثمن ومهما سيكلفهم على إثر ذلك من تضحيات جسام…

-إن نوعا من هاته الأسئلة الشقية، لا يمكنك أن تجابهه بشقاوته المرة وبحلاوته المعرفية الإخبارية إلا مع مناضلين ذو طبائع مركبة وسميكة من عيار رفيقنا “عبدو الله”،، فمعه، وبرفقته الطويلة المسترسلة والمتقطعة، يشدك التحري، ومفاجآت التحقق للانتباه إلى بعض من خصائصه المثيرة…

– فلقد تبين لي بصحبته بعد معاشرات نضالية متعددة (من الدعوة الأولى إلى مشروع بناء الحزب اليساري الكبير وماثلاه من سيرورات كثيفة ومعقدة وملتوية في هذا الاتجاه حتى اليوم..) أن رفيقنا هذا لم يغادر حلبة “النزاع السياسي على خط معارك شعب اليسار”، حتى ولو أن الحصائل في هذا الباب لم تأت على قدر عزائم أهل العزائم، ففي كل منعرج أو توقف يقطع أنفاس التطور ترى عبد الله المسفيوي قد ركب عربته وركب ما في رأسه والتجأ إلى “الطريق” مسافرا… يبحث عن ” رفاق ” على جغرافيات بعيدة، وبعيدة حتى عن الإفراط في الانغلاق والذاتيات النضالية المدينية…

– وبطريقة غريبة وغير مباشرة ستشكل سفرياته ورحلاته الفردية هاته وبرفقة جماعات من الرفاق القدامى منهم والجدد المتعدد والنزوعات والتقديرات، خبرة ميدانية ثمينة التأثير في جدلية التواصل السياسي المفتوح…

حتى صار ما يجمعه، رفيقنا وصديقنا المنفلت، من معطيات واستقصاءات للأمزجة والآراء والأفكار يشكل نوعا من التوثيق، الذي يستحق في آنه ومكانه آنذاك، أن نسميه نوعا خاصا من “أدب الرحلة السياسية”…!! وهو ما نجد مثيله لدى وجوه سياسية وطنية ويسارية محلية وعالمية قد حدث وبدرجات مختلفة، ويكفي أن نعود إلى سير ذاتية لبعض هؤلاء حتى نلمس أهمية هذا المنحى في تشكيل الوعي لدى الفاعلين الحاملين لأطروحات وتصورات وخطابات ترمي بناء حركات مناهضة وتغييرية من أجل قيم سامية…

– هكذا عرفته بل وعرفناه نحن ثلة من مريديه وتابعيه الذين يعشقون كيفياته في إدارة دورات الزمن، بعمق إنساني وبقلق طفولي يكره الأخطاء المجانية، ويميل بكفة اختياراته ورهاناته هناك حيث الصدق والتواضع الثوري الصريح…

__________________________________

* هذا النص الذاتي بامتياز عن “عبدو الله ” هو احتفاء وتحية تقدير صدر  في مؤلف جماعي ستصدره “جمعية سلا المستقبل” تكريما لمجموعة من أبناء سلا الوطنية والنضال والثقافة الجماهيرية…

Visited 82 times, 7 visit(s) today
شارك الموضوع

عبد الرحيم تفنوت

صحفي وناشط سياسي