“الجبهة الاجتماعية” أو الاسم المغربي الفصيح لـ”حركة 20 فبراير”

“الجبهة الاجتماعية” أو الاسم المغربي الفصيح لـ”حركة 20 فبراير”

عبد الرحيم التوراني

في خضم واقع محتقن ومشتعل بالغليان الشعبي، تحل اليوم ذكرى 11 سنة على انطلاقة “حركة 20 فبراير” المغربية. وبالمناسبة دعت “الجبهة الاجتماعية” لإحياء هذه الحدث بكل ما يقتضيه التعبير عن الغضب والاحتجاج ضد السياسة اللاشعبية التي تكرسها حكومة عزيز أخنوش، رافعة الشعار الجذري لثورات الربيع العربي (2011): “أخنوش..ارحل”، وكفى من سياسات “الإجهاز على المرافق العمومية الأساسية وغلاء فاحش للمعيشة، وقمع الحريات”. 

ورغم أن الفعاليات المكونة لـ”لجبهة الاجتماعية” لا تقدم نفسها كبديل عن “حركة 20 فبراير” التي خفتت وبدا أنها باتجاه التلاشي، لأسباب موضوعية وغير موضوعية، فإن بعض المحللين لا يرون في “الجبهة” إلا استمرارا لـ”لحركة” باستراتيجية مختلفة وبأنفاس جديدة. وبأن نضالات “الجبهة” التي تعم اليوم مختلف جهات البلاد، ما هي إلا تأكيد لحقيقة أن جذوة “حركة 20 فبراير” لم تنطفئ.

 في ما يلي سرد ضافٍ عن “حركة 20 فبراير” في مواجهة الاحتواء، والاسثناء المغربي المفترى عليه:

 بعد ثمانية أيام على تنحي حسني مبارك في مصر، وبعد شهر وأيام على هروب زين العابدين بنعلي في تونس، خرج المغاربة إلى الشارع، يوم الأحد المصادف 20 فبراير (شباط) 2011 ليؤكدوا أن شرارة الثورات الشعبية قد بلغت أقصى نقطة في الخريطة العربية على سواحل المحيط الأطلسي.  

بحساب الأيام، استمر الحراك الشعبي في المغرب، المنبثق عن ثورات الربيع العربي، حوالي السنة، تواصلت خلالها المسيرات والوقفات الاحتجاجية والمظاهرات، والنقاشات حول التغيير والإصلاح والمطالب الجذرية التي نادت بها البيانات الأدبية لـ”حركة 20 فبراير”، وسط شد وجذب من طرف السلطات، التي لم تجد من حلول ناجعة أمامها سوى آلية القمع، فسقط شهداء كسرت جماجم أغلبهم بهراوات البوليس المغربي، وفارق الحياة آخرون من المتظاهرين، في ظروف غامضة اتهمت السلطات بارتكابها، ولم تكشف حتى اليوم حقيقتها. 

 لكن بحساب التاريخ الحي، لا يزال الحراك متواصلا ويتجسد يوميا في احتجاجات المعطلين والأساتذة المتعاقدين والأطباء العاطلين عن العمل وجنود حرب الصحراء المتقاعدين وإضرابات العمال واعتصامات الغاضبين، وفي كل زفرة تخرج من صدر المقهورين.  

*** 

 دائماً، تجد في المغرب بعض من يحب الحديث عن “الاستثناء المغربي”، مقارنة بما يجري في الرقعة العربية. وهو ما يحصل لما تُذكَر “حركة 20 فبراير”، التي لا يعتبرها البعض صدى لـ”الربيع العربي”، بل هي حركة متجذرة في عمق الوجدان المغربي. ثم ينتقلون للكلام عن الأسلوب البراغماتي الذي تم به احتواء الحركة، عكس ما وقع في أماكن أخرى. وكيف رعت المؤسسة الملكية هذا “الاستثناء المغربي”، كما وصفه العاهل محمد السادس في خطابه يوم 9 مارس (آذار) 2011 بعد أسبوعين من اندلاع المظاهرات.  

كان أبرز شعار حمله شباب الثورات العربية، هو شعار “ارحل” كتعبير سياسي مشحون، ابتدعه التوانسة من ترجمة اللفظة الفرنسية (Degage)، وسدّدوه إلى الرئيس زين العابدين بنعلي، وتلقفه عنهم المصريون وأشهروه بدورهم في وجه الرئيس حسني مبارك. أما المعنى فهو: أن السيل وصل الزبى. لا مجال للتفاوض أو تقبل الوعود الكاذبة. اقتبس الحراك المغربي القاموس نفسه، واستنسخ منه لغة التجييش والتعبئة الرقمية، ورفع شعار “ارحل” ضد شخصيات بعينها من محيط النظام اتهمت باستغلال السلطة والفساد ونهب المال العام. 

أما المطالبة بـ”إسقاط النظام”، فكان مطلبا عاليا جداً، سرعان ما تم إخماد صيحته، ليتم تعويضه بـ”إسقاط الفساد”، وبالمطالبة بملكية برلمانية يسود فيها الملك ولا يحكم. ما كان يرفضه بشدة الملك الراحل الحسن الثاني، بل إن حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية (قبل تدجينه وتراجعه عن المطلب)، نادى صراحة بـ”الملكية البرلمانية” في مؤتمره الوطني الثالث (ديسمبر ـ أيلول 1978)، فأمر الحسن الثاني بحجز يومية “المحرر” لمدة أسبوع لنشرها البيان السياسي للمؤتمر.  

هو السبب ذاته الذي أدى بالمناضل الاشتراكي البارز محمد نوبير الأموي، الأمين العام للمركزية العمالية الكنفدرالية الديموقراطية للشغل، إلى السجن (1993). 

 *** 

 تم اعتبار وصول حزب إسلامي إلى رئاسة الحكومة بعد “انتفاضات 20 فبراير”، من ضمن “الاستثناء المغربي”، بينما تؤكد الحقائق أن هذا الفصيل الإسلامي هو صناعة “مخزنية” خالصة، جرت رعايتها تحت أعين الأجهزة، ولما حان وقت استعمالها كانت ورقة جاهزة. فأدى الحزب دور فرقة الإطفاء لإخماد نيران الحراك الشعبي، باسم “محاربة الفساد”، المطلب الجماهيري الأساسي والشعار الأبرز لـ”حركة 20 فبراير”. لكن خيبة الأمل كانت بالانتظار، تم التناور على الحراك بجملة من الإصلاحات التجميلية، بدستور جديد أعدته لجنة عينها الملك. وأيضا بالاعتقالات والترهيب، وبالتخويف من مصائر سورية وليبية.  

وخرج الاتحادي السابق الدكتور عبد اللطيف المنوني، مستشار الملك ومن رأس لجنة إعداد الدستور، ليرد على مطلب الملكية البرلمانية بالقول: “نحن على طريق ملكية برلمانية، لكن بطبيعة الحال ما تزال ثمة ربما بعض المقتضيات التي يلزم تجويدها”. 

 من جانبه، صرح الحقوقي السابق، أول رئيس للمنظمة المغربية لحقوق الإنسان، الدكتور عمر عزيمان، مستشار للملك هو الآخر، بأننا “لسنا في إطار نظام يشبه الملكية الإسبانية أو الهولندية، حيث يسود الملك من دون أن يحكم، نحن في ظل نظام ملكية من نوع آخر، لكن سلطات الملك محددة”. 

 ***  

قبل وصوله إلى رئاسة الحكومة، كان عبد الإله بنكيران، الأمين لحزب العدالة والتنمية، ينتقد بشدة السياسة العامة والمظاهر البروتوكولية للقصر، مثل الركوع أمام الملك في الطقوس الاحتفالية السنوية لتجديد البيعة والولاء. وكانت انتقاداته تتقاطع مع مآخذ الحقوقيين واليساريين، كالناشط فؤاد عبد المومني، الذي يجاهر بأنها “طقوس بالية لا معنى لها عدا تكريس عقلية التبعية والمسّ بكرامة الإنسان”. 

 لكن بنكيران، وهو جالس على كرسي رئاسة الحكومة، سيستبدل لسانه بلسان يقول للتلفزيون الرسمي: “تلك عاداتنا كما وجدنا آباءنا وأجدادنا عليها”، ويكرر نفس الفكرة لمراسلة مجلة “باري ماتش” الفرنسية بأن الركوع للملك أثناء حفل البيعة هو “إرث ثمين من الماضي يجب أن نحافظ عليه ونتمسك به”. 

لم يكن مفاجئا تقلب عبد الإله بنكيران، الذي سبق لصحف مغربية فضح تعاونه مع الاستخبارات منذ زمن بعيد، لما كان منتميا لـ”الجماعة الإسلامية” السرية المتهمة باغتيال الزعيم اليساري عمر بنجلون، وتساءل بنكيران يومها حول هذه الجريمة: 

“لماذا يبكون كلبا أجرب؟”.  

وسيظل بنكيران زعيم العدالة والتنمية منسجما مع تقلباته، فبعد أن كان يصرخ داخل قبة البرلمان، أيام المعارضة، بضرورة مكافحة الفساد وإلغاء تقاعد الوزراء والبرلمانيين، لم يتردد في الاستفادة من تقاعد خارج القانون (9 آلاف دولار شهريا). لذلك بقي جاهزا للتبرير وللدفاع عن توقيع المملكة لاتفاقية التطبيع مع إسرائيل، هو من كان ينادي بتحرير كامل تراب فلسطين. 

هي نفس الطريق التي نهجها وأخلص لها محازبوه من الوزراء، ومن خلفه في أمانة الحزب ورئاسة الحكومة سعد الدين العثماني، حين جلس إلى جانب الإسرائيلي مئيير بن شبات ليمضيان على التطبيع ويقفان أمام الكاميرات لتوثيق اللقطة التاريخية.  

*** 

 يتراجع حالياً النقاش حول “الملكية البرلمانية”، كما يتوارى الجدال حول طبيعة النظام السياسي، لتتوجه الانتقادات إلى الفصيل الإسلامي الذي قاد التحالف الحكومي منذ 2012، في ولايتين متتابعتين تصدر فيهما نتائج الانتخابات التشريعية. وليتم إلقاء كل الأخطاء والأثقال على كاهله. من السياسات الفاشلة منذ الاستقلال، إلى تأخر إنجاز المشاريع التنموية المبرمجة، إلى التطبيع مع الكيان الإسرائيلي، بالرغم من أن رئيس الحكومة الأسبق سعد الدين العثماني سيطلب من أعضاء المجلس الوطني لحزبه العدالة والتنمية، أن يجدوا له عذراً، فقد كان آخر من يعلم، وأن الحقيقة كما صرح، هي أنه نودي عليه على عجل في آخر ساعة وطلب منه توقيع وثيقة التطبيع من دون أن يتسنى له حتى قراءة أسطرها. وأردف أمام محازبيه أنه “لو لم نوقع نحن لكان أكثر من حزب جاهزا للتوقيع”. ثم أجهش المسكين باكياً من ظلم ذوي القربى.  

*** 

 يتردد الكلام في بعض الصحف عن “الدولة العميقة” و”حكومة الظل” المتمثلة في مستشاري الملك، الذين تضاعف عددهم مقارنة بعهد الحسن الثاني، وأصبحوا يشكلون كتيبة تتحكم من خلف الستار. وظل الملك ينتقد باستمرار الأحزاب السياسية ويتهمها في خطاباته بالضعف والاختلال. ما يستنتج منه أن المؤسسة الملكية هي وحدها الفاعلة الموفقة، ودونها باقي الفرقاء والفعاليات السياسية في البلاد. وظلت الأحزاب الرسمية تمجد “الاستثناء المغربي” وتشيد بالنموذج التنموي المغربي، قبل أن يعلن الملك بوضوح أنه نموذج فاشل.  ففي الذكرى العشرين لجلوسه على العرش، قال الملك محمد السادس: “لقد أبان نموذجنا التنموي، خلال السنوات الأخيرة، عدم قدرته على تلبية الحاجيات المتزايدة لفئة من المواطنين، وعلى الحد من الفوارق الاجتماعية ومن التفاوتات المجالية، وهو ما دفعنا للدعوة لمراجعته”.  

*** 

 ما خلص إليه الخطاب الملكي، هو ما ظلت قوى اليسار غير الحكومي تؤكد عليه، والنموذج الفاشل الذي انتقدته أكبر سلطة في البلد هو ما خرجت “حركة 20 فبراير” من أجل الإنهاء مع سياسته اللاشعبية. بل إنها هي الخلاصات ذاتها التي جاءت بها دراسات وتقارير منظمات وطنية، سبق لها أن دقت ناقوس الخطر.. ومنها جواب صادم عن سؤال عريض في تقرير أعدته “مؤسسة عبد الرحيم بوعبيد”: هل تتوفر للمغرب إستراتيجية للتنمية الاقتصادية؟.  كان الرد أن المغرب يفتقد إستراتيجية واضحة للتنمية الاقتصادية، وأن النظام السياسي “يقف حاجزاً أمام التنمية والإقلاع الاقتصادي بالبلاد”.

 حدث ذلك في يوليوز (تموز) 2010، أي سنة قبل انتفاضة 20 فبراير 2011.  

***  

إن الأحداث والتطورات الاجتماعية والسياسية في مغرب اليوم تفيد أن جذوة “حركة 20 فبراير” لم تخمد. فالانتفاضات المتفرقة التي تظهر كل فترة وحين في هذه الجهة أو تلك، من أبرزها في الفترة الأخيرة الحركتان الاحتجاجيتان اللتان هزتا منطقة الريف (شمال) ومدينة جرادة (شرق) في 2017 و2018، وحملات المقاطعة الاقتصادية الرافضة للغلاء، والاحتجاجات ضد الفواجع الأليمة المتكررة التي تودي بأرواح أعداد من الضحايا، آخرها موت 28 عاملة غرقا في قبو معمل غير قانوني في طنجة (8 فبراير ـ شباط 2021). 

كما أن القمع ومصادرة الحريات، أو التذرع بتدابير الحجر الصحي  ضد “كوفيد 19″، لا يجدي، بل إن مجراها الطبيعي هو “أنهار الغضب الشعبي ووديان الانفجارات الاجتماعية الواسعة”، كما حذرت منها “فدرالية اليسار الديموقراطي” المعارضة، وهي “تتابع بقلق بالغ ما آلت إليه التطورات بشأن تفاقم الأزمة الاقتصادية والاجتماعية”، والاحتجاجات ضد الأوضاع المزرية، نتيجة انسداد أبواب الرزق في وجههم.

 لقد أصبحت  “حركة 20 فبراير” حالة شعبية، أكبر وأوسع من نشأتها. يقول (منير. ح.) أحد نشطاء الحركة من الدار البيضاء. 

***

ومع وصول رجل الأعمال عزيز أخنوش إلى رئاسة الحكومة، إثر انتخابات لا تختلف عن سابقاتها بطغيان التزوير القبلي، وشراء الأصوات بـ”المال الحرام”، والوعود الكاذبة. يتضح أن الاحتقان الاجتماعي والسياسي ستعلو حدته بوتيرة أكبر وأخطر مما عاشه المغاربة خلال الولايتين الأخيرتين للحزب الإسلامي (العدالة والتننمية). 

لكن أحد الساخرين يحتج على القول بعدم التزام أخنوش بوعوده، قائلا: 

“كيف نسيتم أن عزيز أخنوش وعدكم من قلب عاصمة الفاشيست الطليان، بأنه سيتكلف بـ”إعادة التربية” للمغاربة، وها هو الرجل بنهج سياسة الغلاء وقمع الحريات وخنق الأصوات الحرة… يلتزم بما وعد.

 أهناك التزام ووفاء أكبر من هذا؟!

 إنكم “تستحقون أكثر” كما قال في شعار حملته الانتخابية..

 فاصبروا قليلا… وانتظروا طويلا…

Visited 3 times, 1 visit(s) today
شارك الموضوع

عبد الرحيم التوراني

صحفي وكاتب مغربي، رئيس تحرير موقع السؤال الآن