أزمة أوكرانيا وحرب العقوبات على الاقتصاد الروسي؟

أزمة أوكرانيا وحرب العقوبات على الاقتصاد الروسي؟

د. زياد منصور

تتوجه الأنظار إلى احتمالات تطور الصراع بين أوكرانيا وروسيا، ويترقب العالم الغربي بالتحديد مآلات هذا الصراع، حيث زادت الاجتهادات بشأن ما سيكون عليه موقف الدول الغربية والاتحاد الأوروبي وبعض دول أوروبا الشرقية التي كانت في السابق جزءاً من حلف وراسو، وفي دائرة مصالح الاتحاد السوفييتي السابق. 

كل المعطيات تشير إلى أن العاصفة الإعلامية التي تقودها مؤسسات إعلامية غربية ضخمة، تشعرك وكأنها هي التي تقود هذه الحرب، وهي التي تضع لها سيناريوهاتها وتحدد مساراتها ونتائجها، والتي تستند إلى مجموعة معطيات تقول بأنَّ الموقف الغربي سيكون صلباً وجاداً هذه المرة، فيما لو قامت روسيا بأية خطوة غير محسوبة، وأعظم الرد سيكون اعتماد سياسة العقوبات القاسية التي تعتقد أوساط أنها ستجبر روسيا على التفكير الجاد بعد القيام بأية “حماقة” حسب التوصيف الغربي، دون دراسة أثر هذه العقوبات على شركاء روسيا في الغرب والشرق. 

 فيما لم تعالج هذه التحليلات ما إذا كان لهذه العقوبات تأثيرها المضخّم الذي يجري الحديث عنه. وما إذا كان للعقوبات السابقة أثرها أيضاً في تغيير الموقف الروسي؟

 لطالما كان الجانب الأوكراني يطالب الغرب والولايات المتحدة بتطبيق هذه العقوبات الاقتصادية والسياسية ضد روسيا، تحت شعار أن مثل هذه العقوبات ستمنع روسيا من القيام بمغامرة طائشة. 

لكن إلى الآن لم تتلق كييف أي رد إيجابي على دعواتها لفرض عقوبات وقائية من قبل العديد من دول أوروبا، حيث يظهر وكأن هناك قناعة لدى غالبيتها من أن إعداد مثل هذه العقوبات لن يكون عنصر من عناصر الردع ضد الروس، فيما يظهر الآن فقط أن الولايات المتحدة هي الأكثر حزماً بشأن العقوبات ضد روسيا، وأن العقوبات هذه المرة ستكون مختلفة بشكل كبير عن تلك التي ذهب إليها الغرب بعد ضم شبه جزيرة القرم وبداية الصراع في دونباس. 

فهي “عقوبات غير مسبوقة” و”عواقبها كارثية” على روسيا، كما لم يستبعد رئيس الولايات المتحدة جو بايدن حتى استخدام العقوبات الشخصية ضد الرئيس الروسي إذا غزت روسيا أوكرانيا. في المقابل، فإن الطرف الروسي يحاول الإيحاء بأن مثل هذه العقوبات سواء الشخصية بحق الرئيس فلاديمير بوتين أو أي من إدارته، سواء في وزارة الخارجية أو الدفاع وفي المجمع العسكري الروسي، لن يكون لها أية تبعات، وأنها مجرد فقاعات سترتد فيما لو انفجرت على حلفاء واشنطن في أنحاء شتى من العالم، وأنّ الرئيس الروسي لا يخاف من العقوبات الشخصية، فهو يقبض راتبه من البنك الوطني الروسي، حيث عمد بوتين تحديداً إلى فتح حساب له بعد إدراج هذا البنك في قائمة العقوبات للدول الغربية في عام 2014. 

كما أن القانون الروسي يحظر على المسؤولين الروس امتلاك أصول أجنبية، لذا فإن العقوبات الأمريكية لن تكون منطقية وغير فعالة. 

مخارج العقوبات عند الصين  دعونا ننظر بالعين المجردة إلى تلك العقوبات التي طالت روسيا في العام 2014. منذ فرض العقوبات في عام 2014، ظهر أن الاقتصاد الروسي لم يتأثر بشكل كبير بها، بحيث ورغم أن التأثير المباشر امتد لفترة قصيرة، بسبب أن هناك قطاعات من الاقتصاد تعتمد بشكل كبير على رأس المال والمعدات والتكنولوجيا الغربية، إلا أن التوجه نحو الصين في هذا المجال، سدّ هذه الثغرة، على الرغم من ان الوضع في الأسواق الروسية بعد هذه العقوبات وتكلفة الاقتراض، وقيمة العملة الروسية، وخطر التخلف عن السداد، عكس بعض العواقب الاقتصادية التي فرضتها الولايات المتحدة على الاقتصاد الروسي، وإن كان هذا التأثير استمر حتى النصف الثاني من عام 2021، عندما بدأت أسعار الطاقة العالمية في تحطيم الأرقام القياسية، وحصلت الميزانية الروسية، التي تعتمد حصة الأسد منها على صادرات النفط والغاز، على موارد إضافية ضخم، فمنذ شهر كانون الأول 2020 إلى تشرين الثاني 2021، وفقا لمؤسسة إحصاءات الدولة الروسية، صدّرت روسيا المعادن والوقود،بما يفوق 200 مليار دولار.

 هذا هو أكثر من 43 % من جميع الصادرات الروسية. إذن المخارج الروسية من تأثير العقوبات متوفرة من خلال جمهورية الصين الشعبية في قطاعات عدة، إذ توصلت روسيا والصين لتطوير العلاقات في إطار معاهدة حسن الجوار والصداقة والتعاون لعام 2001. وهي تغطي مجالات عديدة، بما في ذلك التعاون العسكري. واكتسبت هذه العلاقات تطورا في عام 2014، عندما بدأ الغرب في فرض العقوبات الأولى على روسيا بسبب ضم شبه جزيرة القرم وتصاعد الصراع في جنوب شرق أوكرانيا. في ذلك الوقت، لم تقف القيود الغربية المفروضة على موسكو في وجه بكين، ولكن منذ ذلك الحين أصبحت العلاقات الاقتصادية أعمق كثيراً، ويتعاون البلدان في مجالات تكنولوجيا الفضاء الجوي والنفط والغاز والكيمياء والطيران. وتستثمر الشركات الصينية المملوكة للدولة في أصول الطاقة الروسية. وفي الوقت نفسه، يتطور التعاون الصيني ــ الروسي في التجارة الإلكترونية بصورة دينامية. فقد نمت التجارة بين روسيا والصين بنسبة 35.8% في عام 2021، حتى بلغت رقماً قياسياً بلغ 146.88 مليار دولار أميركي. وزادت الصادرات إلى الاتحاد الروسي بنسبة 33.8% في غضون 12 شهراً (إلى 67.56 مليار دولار أميركي)، وتدفق السلع في الاتجاه المعاكس ــ هوبنسبة 37.5%، إلى 79.32 مليار دولار أميركي. وعلى الرغم من ذلك، فإن هذا لا يعني أن العقوبات الجديدة المحتملة ضد روسيا قد تسبب الكثير من الإزعاج لبكين، على عكس ما حدث في عام 2014. فمع قيام روسيا باستيراد وتصدير المزيد من السلع من الصين مقارنة بأي دولة أخرى، فإن القيود المحتملة المفروضة على النظام المصرفي والمالي الروسي (وخاصة إغلاق سويفت ـــ كودات التحويلات المصرفية) سوف تضرب التجارة الثنائية. ولذلك سيتعين على الصين أن تقرر ما إذا كانت ستمتثل للعقوبات الجديدة من حسابها الخاص أو أن تبحث عن سبل بديلة للعمل مع الشركاء الروس. على ان إحدى السبل لمواجهة هذه التداعيات هو التحول المفاجئ للتجارة الروسية الصينية إلى نظم الدفع البديلة كتدبير وقائي ضد العقوبات. وأعلنت الولايات المتحدة أيضا عن إمكانية تقييد إمدادات القطع الالكترونية الخاصة بالأجهزة الإلكترونية والهواتف الذكية إلى روسيا. وهذا قد يمنع وصول الروس إلى بعض النماذج المتقدمة من الهواتف الذكية والأقراص التي تحتوي على مكونات أمريكية. ومعظم هذه الأجهزة يتم تجميعها في الصين أو تصنعها شركات صينية. 

كما أن فرض ضوابط على صادرات الولايات المتحدة على هذه النماذج من شأنه أن يضع الصين على حافة الالتزام بالقيود المفروضة على صادرات الولايات المتحدة أو إيجاد طريقة للتغلب عليها. وبوسع الصين هنا أن تساعد في إنشاء شركات تصدير والتي سوف تستمر في تزويد روسيا بالهواتف الذكية.

 وبهذه الطريقة، ستحمي جمهورية الصين الشعبية مصنعي وهواة جمع الهواتف الذكية من العقوبات الأمريكية. رغم أن الطرف الروسي يدرك تماماً أن هناك قيوداً تتعلق بالقطاعات المصرفية والمالية، وتحويل الدولار، مما قد يؤدي إلى انخفاض في سوق الأوراق المالية في الاتحاد الروسي، وستظهر تأثيراته بسبب الحظر المفروض على تصدير المواد الخام والأسلحة، وفي حال اعتماد هذه العقوبات التي قد تطال تصدير منتجات التكنولوجيا الفائقة الأمريكية إلى روسيا ستترك مواطني روسيا حتى بدون بعض طرازات الهواتف الذكية والأجهزة اللوحية الالكترونية وأجهزة التلفزيون. وغيرها.

 ويحذر الخبراء أيضاً من أن كل هذا يهدد بعواقب مختلفة – من خلال ارتفاع أسعار المواد الغذائية والملابس إلى انقطاع مدفوعات المعاشات التقاعدية بسبب انهيار الروبل والأسواق الروسية. 

ماذا عن الاتحاد الأوروبي؟ 

بالنسبة لروسيا، فإن الاتحاد الأوروبي هو أكبر شريك تجاري، فبين قائمة الدول التي تعتبر مستوردة ومصدرة بينها وبين روسيا، تتمتع هولندا وألمانيا بالموقع الأول للصادرات الروسية. كما ان إيطاليا وبولندا وفرنسا وفنلندا في قائمة 20 دولة بين الدول التي تستورد من روسيا، وبالتالي، ليس من الواضح نوع العقوبات التي يمكن أن يفرضها الاتحاد الأوروبي، ولا تأثير ذلك على الوحدة بين أعضاء الاتحاد الأوروبي.ومن ناحية أخرى، فإن المعلومات محدودة لأن نشر خطوات محددة قبل الأوان يمكن أن يقوض فعاليتها. في كل الأحوال، في أوروبا هناك ك حديث عن عقوبات اقتصادية وشخصية على حد سواء .”أي حزمة جديدة من العقوبات ينبغي أن تشمل الضباط الروس المشاركين في التخطيط لغزو محتمل، فضلا عن المرافقين المباشرين ورجال الأعمال” العاملين في محيط الرئيس الروسي وأسرهم “. 

ومن المتوقع أن تطال العقوبات تجميد الأصول المالية والمادية في الاتحاد الأوروبي، وحظر السفر، وفصل روسيا عن نظام الدفع SWIFT، وقطاعات هامة للاقتصاد الروسي، وتعطيل تمويل أجهزة الاستخبارات في البلد”. 

لماذا الحديث عن السويفت، بالتحديد؟

 إن نظام الدفع هذا ينظم التعاون بين المصارف والمؤسسات المالية، ومقره في بروكسل ويعمل بموجب القانون البلجيكي.بحلول نهاية عام 2021،عالج هذا النظام حوالي 30 مليون اتصالا ماليا دفعة واحدة يوميا، أي ما يعادل تريليونات الدولارات، أو حوالي 10 بلايين دولار سنويا. وهو متاح ليس فقط للمؤسسات والمصارف، بل أيضا للأفراد. على سبيل المثال، يمكنك إرسال أو تلقي تحويل عبر سويفت حتى في أوكرانيا. 

لذلك من الصعب هنا أن نتخيل أن إغلاق هذا النظام لن يؤثر على الاقتصاد الروسي والروس، كما يقولون في موسكو. حيث اعتبر وزير المالية الروسي السابق أليكسي كودرين في عام 2014 إن فقدان الوصول إلى سويفت سيسبب ضررا للبلاد يساوي 5 % من الحجم السنوي لاقتصادها. عندما ناقشت الدول الغربية في عام 2014 إمكانية إبعاد روسيا عنSWIFT، على الرغم من أنها لم تكن نشطة وجدية كما هي الآن، أنشأت روسيا نظام الدفع الداخلي، نظام التحويل المالي، وبوسع روسيا أيضاً أن تنضم إلى نظام دفع مماثل أنشأته الصين (نظام الدفع بين البنوك عبر الحدود) باعتبارها أكبر شريك تجاري لها.

 والجدير بالذكر أن الصين رفضت حتى الآن الانضمام إلى النظام الروسي إلى الآن الروسي. إن توفر البدائل يدفع المحللين الروس إلى القول إنه بعد إغلاق روسيا عن سويفت، لن تكون هناك نهاية للعالم ــ على الأقل ليس بالنسبة للروس العاديين. وسوف تعاني البلدان الغربية وشركاتها التي تتعامل مع روسيا. وهذا يعني خطوات مماثلة مثل اغلاق خطوط النفط والغاز باتجاه أوروبا. تجدر الإشارة على أنَّ الاتحاد الأوروبي لا يزال أهم شريك تجاري لروسيا ومن غير المرجح أن يتغير الوضع بسرعة.نعم، تعتمد روسيا على واردات المعدات والمنتجات الكيماوية والتقنيات وحتى المنتجات من أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية. في إحصاءات الدولة الروسية، هناك حتى “قسم مخفي” لأكثر من 11 مليار دولار، أو 4 % من جميع الواردات. لكن أوروبا تتلقى أيضا أكثر ثلث النفط والغاز من روسيا. وإذا أوقفت روسيا الإمدادات ردا على العقوبات الغربية، خاصة بحلول نهاية فصل الشتاء، فسيكون من الصعب على الحكومات الأوروبية أن تشرح للسكان سبب عدم وجود كهرباء أو دفء في منازلهم.

Visited 3 times, 1 visit(s) today
شارك الموضوع

د. زياد منصور

أستاذ جامعي وباحث في التاريخ الروسي