كيف أصبحت أوديسا أوكرانية ومتى؟ (1-2)

كيف أصبحت أوديسا أوكرانية ومتى؟ (1-2)

د. زياد منصور

يبدو العودة إلى التاريخ أمراً لا بد منه لتصويب بعض القضايا والتي تحمل بعض الشكوك، ويتم تشويهها أو تزويرها لأهداف سياسية، بحيث ينقاد وراء هذا التشويه مجموعة من المثقفين أو المؤرخين دون علمهم بطبيعة ما جرى وكيف جرى ذلك.     

عمليا تم بناء أوديسا من الصفر، وذلك في عهد كاترين الثانية من قبل العمال الروس والمهندسين الأجانب، وعاشت شعوب مختلفة من أوروبا هناك، فلماذا يتم القول الآن على أن تكون أوكرانية؟ إذا كنا نتحدث عن الوضع الرسمي، ففي آذار- مارس 1918، عندما أصبحت أوديسا جزءًا من ولاية سكوروبادسكي Skoropadsky الأوكرانية، لم يعترض البلاشفة، الذين وصلوا إلى السلطة في أوديسا في عام 1920، على هذا الاصطفاف، هذا جانب من القضية.

أما القضية العرقية فهي قصة مختلفة تمامًا. كما نرى، بدأ كل شيء في وقت أبكر بكثير من ولادة أوديسا، ومدن أخرى على البحر الأسود التي تأسست في نهاية القرن الثامن عشر. كانت أراضي منطقة أوديسا الحديثة معروفة جيدًا للقوزاق الأوكران، الذين مروا من هنا عدة مرات، ويعرفون هذه الأماكن جيدًا، بل وكان لديهم نية لإنشاء جمهورية القوزاق هنا. كان طريق ستاروكيفسكايا Starokievskaya السريع الحديث جزءًا مهمًا من الطريق التجاري المسمى طريق شوماتسكي”، وهو معروف في السجلات التاريخية في القرن الخامس عشر – وحتى في عهد حاجي بيه خلال حكم التتار الأتراك، كانت هذه المنطقة أحد أهم نقاط استخراج الملح. في هذه المناطق كان الرجال الأسطوريين أمثال إيفان سيركو، سيميون بالي، إيفان مازيبا، بيوتر كالنيشفسكي هنا في “مهمة” عسكرية. 

وكان السكرتير السابق لمازيبا، بيتريك إيفانينكو، أتمان خان أوكرانيا في الفترة من 1696 إلى 1712.  فيما سميت حينها هذه المنطقة بمطقة تتار بيلغورود، وتقع في المنطقة الواقعة بين نهري البوك والدنيستر. وبعد تصفية زابورجيا سيتش (إمارة القوزاق في زابوروجيه) في عام 1775، وهربًا من الحكم الاستبدادي لروسيا، فرّ جزء من القوزاق إلى الأراضي التركية في هذه الأوقات سمح العثمانيون للقوزاق بإقامة مستوطنات على أراضيهم، ولكن بشرط أن يعيشوا حياة سلمية و أنهم “لنيشاركزا في أي أعمال قتالية -هكذا ظهرت قرى القوزاق على أراضي منطقة أوديسا الحديثة (اليوم -في المناطق المجاورة مباشرة لحدود المدينة) وهي مناطق نيروبايسكوي ويوساتوفو، وكذلك مستوطنة في بيريسيب. أجبرت الحرب الروسية التركية الثانية (1787 -1791) الحكومة الروسية باللجوء إلى القوزاق للمساعدة في إنشاء تشكيلات قوزاق جديدة. 

وكما هو معلوم، كان القوزاق تحت رعاية الأمير غريغوري بوتيمكين. خلال فترة حكمهم في منطقة شمال البحر الأسود، لم يقم العثمانيون بتعزيز هذه الممتلكات -كان هناك العديد من القلاع الكبيرة في أماكن ذات أهمية استراتيجية. على سبيل المثال، مدينة إسماعيل عند مصب نهر الدانوب، بينما كانت المدن الباقية صغيرة جدًا. قرر القائد العام الروسي أ.ف. سوفوروف عدم تبديد القوات الرئيسية لجيشه والامساك بهذه الحصون، ولكن كان يركز على القلاع الكبيرة.  قال سوفوروف نفسه: “يجب سحق القمل”.  

لذلك، تم سحق هذا “القمل” من قبل مفارز من قوزاق زابوروجييه. وهناك عامل مهم آخر، لعب دورًا مهمًا في الانتصار على الأتراك هو أن القوزاق كان لديهم أسطول. في 14 أيلول-سبتمبر 1789، اقتحم فوج مشاة الثالوث (قائد الفوج العقيد خفوستوف)، وكتيبة نيكولاييف غرينادير (قائد اللواء الثاني فويكوف)، قلعة يني دنيا التركية، بثلاثة من أفواج سلاح الفرسان والمشاة التابعة لقوزاق جيش البحر الأسود تحت قيادة أتامان الجيش ز.شيبيغا، وقاضي الجيش أ.غولوفانوف مزودين بستة مدافع، وبمساندة من الجيش النظامي الروسي، التي كانت تقع في الموقع الذي يسمى اليوم شارع بريمورسكي في أوديسا.  

كان هذا الجيش الموحد بقيادة الجنرال جوزيف دي ريباس.بعد 5 سنوات -في عام 1794، تأسست أوديسا. في 1794-1797، تم تشكيل “فريق قوزاق البحر الأسود” من القوزاق الذين تقاعدوا جراء انتهاء الحرب، وهم الذين شاركوا في بناء المدينة والميناء.  بعد وفاة كاترين الثانية، تم حل هذا الفريق، واستقر القوزاق الذين بقوا في أوديسا في بيريسيب، بجانب طريق خيرسون -منطقة كومينترنوفسكي الحالية.واليوم، هناك شوارع لقوزاق البحر الأسود ا، باسم الأتامانات أنطون غولوفونوف وزخاري (زكريا) تشيبيغا. كان معظم سكان أوديسا الأوائل من الفلاحين الهاربين الذين استقروا هنا دون أي إذن من السلطات، وكذلك من المشردين الفارين من العدالة والقانون، إضافة إلى أجانب -باحثين عن الثروة في أرض أجنبية، وتجار فقراء يحلمون بالثراء في مكان جديد. وساهم الدوق ريشيلييه، الذي طور أوديسا عمليًا من الصفر، بنشاط في إعادة توطين الحرفيين وأصحاب المهن المختلفة في أوديسا. 

هكذا بدأ تدفق الناس الى هنا بأعداد كبيرة، فقط بوجود بعض الحرفيين الألمان في أوديسا، ظهر شارع واسع سمي بشارع الحرفيين (ريميسلينيكايا). كما تدفق عمال البناء والنجارون إلى هنا من نوفوروسيا، أو وصلوا على متن سفن من الأناضول.  بعد تشييد هم ليوتهم ومنازلهم، ظل هؤلاء السادة في الغالب في أوديسا إلى الأبد.  وفي القرن التاسع عشر، كانت أوديسا مدينة سريعة التطور، وبالتالي بات الطلب على العمالة أكثر من العرض. حلَّ الكونت فورونتسوف مشكلة نقص العمالة بالطريقة التالية، إذ أصدر مرسومًا لجميع الأقنان الهاربين، نص على عدم تسليمهم إلى أسيداهم السابقين ومنحهم وضع الأشخاص الأحرار.  

وبما أن أراضي روسيا الصغيرة (أوكرانيا)، ناهيك عن نوفوروسيا نفسها، كانت أقرب بكثير إلى أوديسا من أراضي روسيا العظمى، فقد كان عدد الأوكران في أوديسا أكثر من الروس. كان الأثنيون الروس هم المهيمنون في الطبقات العليا من مجتمع أوديسا، والتي، مثل أي مجتمع راق، تشكل دائمًا نسبة صغيرة من إجمالي السكان. وفقًا لآخر تعداد سكاني، فإن 61.6٪ من سكان أوديسا هم من الأوكران، وهناك أناس من جنسيات أخرى، بالطبع، هناك أيضاً مواطنون أفراد يعتبرون روسيا أقرب إلى قلوبهم، ولكن هذه هي فئة من سكان أوديسا الذين ليسوا من مواطني أوديسا الأصليين، لكنهم انتقلوا، منذ وقت ليس ببعيد، من مناطق أخرى من الاتحاد السوفيتي وما بعده أي من الفضاء السوفيتي ولم يفهموا أو يعرفوا حقًا ما هي أوديسا وما هو تاريخها! يذكر أنه بعد انتهاء الحرب الروسية التركية وبعد وفاة بوتيمكين، دخلت الأراضي التي أنتزعت من الأتراك، والتي منحها الأمير بوتيمكين لشعب البحر الأسود، ضمن أراضي الدولة الروسية. كما طورت الحكومة مشاريع للاستعمار العسكري للقوزاق لأراضي الضفة اليمنى لكوبان.  

في 30 حزيران- يونيو 1792، صدر مرسوم “بمنح جيش البحر الأسود جزيرة فاناغوريا والأراضي الواقعة بين كوبان وبحر آزوف”.  وتلقى أنطون جولوفاتي من الإمبراطورة ميثاقًا بالأراضي الممنوحة. في 1792-1794، أعيد توطين أكثر من 17 ألف قوزاقي أوكراني، سواء من عائلات أو دون كأفراد في الكوبان على 6 مراحل. وكان رئيس هؤلاء المستوطنين الأتامان زخاري شيبيغا وأنطون جولوفونوف، مؤسسي مدينة يكاتريندار. 

على هذا فإن التاريخ القديم يظهر وجود مستعمرة يونانية قديمة منتشرة في موقع المدينة، لكنها سقطت بالفعل بين القرنين الثالث والرابع.  ثم تغيرت السيطرة على هذه الأراضي عدة مرات: كانت أولا تحت سيطرة الليتوانيين، ثم تتار القرم والأتراك، حتى عام 1789، أثناء الحرب الروسية التركية، قامت كاترين بضمها إلى إمبراطورتيها.  

في عام 1794، حصلت أوديسا على وضعية رسمية لتصبح قلعة بحرية روسية. وفي القرن الثالث عشر، سيطرت جحافل المغول التتار على المكان الذي يعتبر اليوم أوديسا الحديثة.  في وقت لاحق، في القرن الرابع عشر، استولت دوقية ليتوانيا الكبرى على السلطة في منطقة شمال غرب البحر الأسود.  لقد كان نوعًا من تكوين الدولة، والذي شمل العديد من الشعوب.  

في وقت لاحق، انتقل الدور القيادي من إمارة ليتوانيا إلى الكومنولث الليتواني البولوني (ريتزبوسبوليتايا). هنا نشأ في موقع أوديسا، ميناء كاتشيبي.  وفي نهاية القرن الخامس عشر، جاء الأتراك إلى هنا واستولوا على الميناء. منذ الاستيلاء على الميناء من قبل تركيا، غالبًا ما يشار إلى الميناء باسم خاجيبي، والتي كان يعيش فيها الإغريق والأرمن وأسلاف الأوكرانيين المعاصرين والعديد من ممثلي الشعوب الآخرين.  وفقًا لبعض التقارير، بعد مرسوم كاترين الثانية بشأن تصفية زابوروجيه سيش، استقر عدد معين من القوزاق بالقرب من خاجيبي (بيريسيب). 

لكن هذه التسوية لم تدم طويلا. في 27 أيار- ماي 1794، وقعت الإمبراطورة الروسية كاثرين الثانية مرسوماً بشأن بناء ميناء في خليج خادجيبي. تحت قيادة الكونت أ. سوفوروف في خاجيبي عام 1793، بدأ بناء القلعة.  تميز عام 1794 ببناء المدينة الجديدة. وليس بعيدًا عن أوديسا الحديثة في العصور القديمة، كانت هناك قرية يونانية قديمة تسمى أوديسوس Odessos.  وفقًا لهذا الاسم، تم تغيير اسم خاجيبي إلى أوديسا في عام 1795. 

تقول إحدى الأساطير أن أول عمدة لمدينة أوديسا، كان الدوق دي ريشيلييه، وهو في الأصل من فرنسا، ولكنه كان يخدم العرش الروسي بإخلاص، فقرر إنشاء مدينة جديدة، أفضل بكثير وأجمل من باريس وسانت بطرسبرغ.  ثم سميت سانت بطرسبرغ تلك المنطقة في شمال تدمر، بدأت أوديسا تسمى جنوب تدمر. في عام 1805 أصبحت أوديسا مركز حكومة نوفوروسيسك.  ضمت الحكومة لنوفوروسيسك أراضي جزء من السهوب في أوكرانيا الحالية، وبحر آزوف، والقرم. منذ عام 1818، أصبحت بيسارابيا جزءًا من هذه المقاطعة الكبرى. و تدريجيا، أصبحت أوديسا البوابة الجنوبية للدولة الروسية لدخول الأسواق الخارجية.

Visited 1 times, 1 visit(s) today
شارك الموضوع

د. زياد منصور

أستاذ جامعي وباحث في التاريخ الروسي