لبنان: “الكابيتال كونترول” نصب واحتيال على المودعين أم خطة للإنقاذ؟!
حسين عطايا
كما العادة في لبنان، تجري الأمور بخلاف كل ماهو يخدُم المصلحة الوطنية، لا بل أي أمر يطيف ويتمذهب ليبتعد عن الهدف الحقيقي، ويدخِل في غابة السياسة اللبنانية من دون ضوابط أو رسم إستراتيجيات ملحة ومفيدة لكل اللبنانيين. ولا يختلف مشروع قانون “الكابيتال كونترول”، أي وضع إجراءات مراقبة وضبط المال العام المنهبوب والمسروق من قبل السلطة الحاكمة دون رقيب أو حسيب، الذي كان من الضروري أن يبدأ النقاش في حيثياته منذ أواخر العام 2019، وكان من المفترض إقراره في مجلس النواب عند بدء انتفاضة الشعب اللبناني، التي يُطلق عليها “ثورة 17 تشرين”، إذ بدأت المصارف بالمماطلة في وصول المواطنين اللبنانيين إلى حساباتهم المصرفية، كما أن التضييق على المواطنين كان مفتوحاً لبعض المحظيين الذين استفادوا من علاقاتهم مع مدراء المصارف وبعض السياسيين، في تحويل أموالهم إلى خارج لبنان، مما وفر لهم حرية التحرك بمالهم وإخراجه من دائرة الخطر التي تعرضت لها أموال بقية المودعين اللبنانيين.
وبدل أن تتحرك الحكومة اللبنانية، التي استقالت تحت ضربات اللبنانيين المنتفضين، برئاسة الرئيس سعد الحريري ومن ثم خلفتها حكومة الرئيس حسان دياب، التي بقيت تتحرك في الوقت الضائع، من دون أن تُقدِم على إعداد أي مسودة مشروع لـ “الكبيتول كونترول”، مما دفع ببعض النواب إلى القيام ببعض الاتصالات، وعلى إثر ما قاموا به من صولات وجولات، بدأت رواية إعداد مشروع قانون “الكابيتول كونترول” بصفة مُعجل مكرر، وتم التوقيع عليه من قِبل كل من النواب: رئيس لجنة المال والموازنة ابراهيم كنعان، ألان عون، سيمون أبو رميا وياسين جابر. وهذا الأمر كان رداً فعلياً على تقاعس العمل الحكومي عن إعداد مشروع قانون كان من المفترض أن تقوم به الحكومة أو حاكمية مصرف لبنان للإبقاء على الرساميل في لبنان والحيلولة دون تهريبها للخارج، وهذا ما تقوم به عادة كل الدول التي تتعرض لأزمات كالازمة اللبنانية، وكان لمصر تجربة في هذا الموضوع عالجته بالسرعة المطلوبة تفادياً لتهريب الأموال.
بدأت مسيرة “الكابيتل كونترول”، في أوائل شهر حزيران- يونيو من العام 2019، ولكن أثناء مناقشة المشروع في الجلسة العامة لمجلس النواب وتحويله إلى لجنة المال والموازنة، بعد نزع صفة المعجل المكرر عنه، وتمت مناقشته مباشرة، وكان قاب قوسين أو أدنى من إقراره، حين حصل تفجير مرفأ بيروت، الذي دمر جزءا كبيرا من أحياء العاصمة، وكذلك جانبا من مبنى مجلس النواب، فتوقفت أعمال المجلس لفترة طويلة، كما وجاءت استقالة حكومة الرئيس دياب، لتزيد في صعوبة الأمر. ومن هنا، بدأت مسيرة الصعاب، إذ إنه بعد ما يزيد عن عامين ونيف لم يتم إقرار ذلك القانون نتيجة تقاذف المسؤوليات مابين الحكومة والمجلس النيابي. ومنذ أسبوعين وعلى أثر توقيع اتفاق الإطار ما بين الحكومة اللبنانية وصندوق النقد الدولي، الذي تضمن شروطاً يجب إقرارها قبل الوصول إلى التوقيع النهائي للاتفاق، منها إقرار “الكابيتال كونترول” مع عدد من مشاريع القوانين الإصلاحية المتعلقة بهيكلية المصارف، والسرية المصرفية.
وبعد الأخذ والرد وتبادل الاتهامات ما بين الحكومة والمجلس النيابي، والتي على أساسها تم إعداد مشروع قانون من قبل الحكومة وإرساله الى المجلس النيابي، ومن ثم إعادته للحكومة لتعديل بعض الفقرات في الشكل والجوهر لإعادته من جديد للمجلس النيابي، ولكن دخول البلاد في الشهر الأخير الذي يفصل عن الانتخابات النيابية، زاد من صعوبات إقراره نتيجة اهتمام النواب وكتلهم النيابية في الإعداد للانتخابات، وجرى تغليب المصالح الانتخابية وما تقتضيه من التهرب من إعداد أو إقرار أي قانون لا يلبي طموح المواطنين، وعلى هذا الأساس حصلت تصريحات ومواقف شعبوية من النواب بإعادة جلسة اللجان التي تناقش مشروع القانون، وتم ربط مناقشة مسودة القانون مع خطة التعافي الاقتصادية التي تُعدها الحكومة لعرضها على إدارة صندوق النقد، بعد مناقشة خطوطها العامة مع موظفي الصندوق والتي كانت جزءاً من اتفاق الإطار، وهو ما خلق حالة إرباك للحكومة التي كانت تُعول على إقرار القانون قبل دخول الحكومة في حالة تصريف الأعمال بعد الانتخابات النيابية.
وبات معروفاً أن الحكومة في مسودة مشروعها وضعت مواداً ضبابية ولم تدخل في عمق القانون والذي طال انتظاره، وعلى وجه الخصوص في مجال اللجنة التي ستُشكل لاحقاً الهيئة التي ستُشرف على تطبيق مسارات “الكابيتول كونترول” في المستقبل، خصوصاً وأن هناك الكثير يتم إخفائه عن حقائق الأمور، فيما يتعلق بكيفية توزيع الخسائر وتحميل المودعين جزءا كبيراً من الخسائر، إذ يٌحكى عن القيام بشطب ما يُقارب الستين مليار دولار، غالبيتها من حسابات المودعين، والمعروف أن المودعين تعرضوا لسرقة موصوفة من قبل المصارف التي قامت بعمليات “هيركات” وصلت إلى ما يُقارب السبعين في المئة من قيمة الحسابات المصرفية، وذلك من خلال تعاميم خاصة مصرفية ووضع سقوف لعمليات السحب، كما غيرها من عمليات متعلقة بتعاميم مصرف لبنان، والتي ساعدت المصارف في الحؤول دون وصول المودعين إلى حساباتهم المصرفية، ولم تُشكل حلاً للإفراج عن ودائعهم.
وما جرى هو عملية نصب واحتيال تُمارسها الحكومة اللبنانية بكامل أعضائها، وهي التي بددت الأموال العامة تحت مسميات كثيرة وكبيرة، منها دعم بعض المواد الغذائية ومشتقات البترول، والتي كانت تُهرب تحت أعين الحكومات المتعاقبة وأجهزتها إلى سوريا، بما قيمته حوالي الأربعة عشر مليار دولار، وتسعى اليوم لاستدانة ثلاثة مليارات دولار على مدى أربع سنوات من صندوق النقد .
كل هذه الأمور كانت على حساب المودعين، بينما من المفترض أن تتوزع الخسائر بين الدولة اللبنانية ومصرف لبنان والمصارف، وليس على حساب المودع اللبناني، هذا الأمر دفع بالنواب إلى إعلاء سقف تصريحاتهم الشعبوية لنيل تعاطف اللبنانيين في الانتخابات المقبلة، مما يجعل إقرار قانون “الكابيتال كونترول” مؤجلا كما غيره من القوانين الإصلاحية المطلوبة من قِبل صندوق النقد إلى ما بعد الانتخابات النيابية في الخامس عشر من ماي ــ أيار المقبل، وحتما ستطول إلى فترة ما بعد الانتخابات، نتيجة دخول الحكومة الحالية في حالة تصريف الأعمال، والكل يعلم كيف تُدار عملية تشكيل الحكومات في لبنان، والتي تأخذ وقتاً طويلا، خصوصاً في هذه الظروف، وقد تطول إلى ما بعد موعد انتخابات رئيس للجمهورية في أواخر شهر تشرين الأول ــ أكتوبر من العام الحالي.
باختصار، فإن إقرار مشروع قانون “الكابيتال كونترول” أصبح مؤجلا إلى وقت طويل، مما يُعطي المصارف فترة أطول للتخفيف من خسائرها على حساب الودائع والمودعين، كما يمنح الفرصة للحكومة والسلطة الحاكمة في تبديد ما تبقى من ودائع اللبنانيين في المصارف، والمودعة في مصرف لبنان تحت بند الاحتياط الإلزامي للمصارف. كل “كابيتال كونترول” واللبنانيين بخير، خصوصاً أنه لم يبق في لبنان “كابيتال” حتى يصدر قانون مراقبته.