قوارب الموت في لبنان بغطاء سياسي..
أحمد ترو
“ماتوا جميعا.. نسيتهم عالقين تحت القارب عاجزين عن الصعود”..
بهذه الكلمات وصف أحد الأطفال الناجين الذي لا يتجاوز عمره 13 ربيعا، خسارته لأمه وأبيه وإخوته الذين لاقوا حتفهم في قعر البحر، أثناء رحلتهم للبحث عن وطن آخر لا يشبه جهنم لبنان.
لا تخفى عن الجميع الحادثة المأساوية التي فجع بها اللبنانيون، وبخاصة أبناء منطقة طرابلس، ليل السبت الماضي. إنها حادثة من حوادث قوارب الموت، التي تكاثرت خلال الأعوام الأخيرة لأسباب عدة، وأهمها الفقر المدقع الذي ألقى بظلاله على المواطن اللبناني، إذ أصبح المواطن اللبناني يرى ببلاد أوروبا ملاذا هنيئا للعيش الكريم.
حوالي الستّين شخصا كانوا على متن المركب، وفي بيان للجيش اللبناني يقول إن قواته أنقذت 47 شخصا، بينما ينفي أحد الناجين ذلك، بقوله لموقع “العربية نت”: “ساعدنا الجيش بإنقاذ 28 راكبا من أصل 60، وليس 47 كما جاء في بيان الجيش، والبقية أصبحوا في عداد المفقودين”. حوالي الستين شخصا من أبناء منطقة طرابلس، ومن بينهم مواطنين فلسطينيين وسوريين، فضّلوا الموت السريع غرقا على الموت البطيء، في بلد لم تعد تتوافر فيه أدنى مقومات العيش.
عندما نتحدث عن عدم توافر هذه المقومات، يعني أن الأزمة تخطت رغيف العيش، فمقتدري الحال صاروا يقدمون نحو الهجرة بطريقة غير نظامية أكثر من الفقراء، وهذا ما شهدناه في هذه الحادثة، حيث قال أحد الناجين وهو أب لثلاثة أطفال: “كانت الهجرة بطريقة غير نظامية، هي السبيل الوحيد للعيش بكرامة، لأن هذا البلد لم تعد فيه كرامة. نحن لسنا بجائعين.. طرابلس لا تجوع.. عكار لا تجوع..، لكن أهل السلطة من عسكر وجيش، وسياسيين… ذلونا… 40 ألف دولار ثمن المركب الذي كنا فيه، وأنا لست بفقير، لكن الفقير أخي، وابن عمي، وجاري، لكنني لست بفقير وغير محتاج وأبنائي يتعلمون بأفخم المدارس، ومع هذا لا توجد حياة في لبنان، ففي حال مرض طفل من أطفالي سأعجز عن توفير الداواء له…”.
أديب نعمة: عصابات بغطاء سياسي
عن أسباب لجوء اللبنانيين، والطرابلسيين منهم تحديدا للهجرة بطريقة غير نظامية، يقول المستشار في التنمية والسياسات الاجتماعية ومكافحة الفقر، أديب نعمة لــ “السؤال الآن”:
“غالبا ما ينسب موضوع الهجرة بطريقة غير نظامية للفقر فقط، لكن الحقيقة غير ذلك على الرغم من كون طرابلس أكثر المناطق فقرا على المتوسط”.
ويضيف: “في الواقع، الفقر هو مجرد عامل من عدة عوامل متداخلة تؤدي الى ذلك، فطرابلس لا تعاني الفقر فقط، بل من ظاهرة تهميش عمره عقود، لما تشكله من تأثير وفعالية وحضور بالاقتصاد والسياسة اللبنانية، وبالتالي فكرة التهميش هذه ولدت احساس بالمظلومية والتمييز ضد أهالي المنطقة”.
يتابع: “هذا التهميش المستمر مع الفقر ولد ظاهرة جديدة، ألا وهي تفتت سياسي واجتماعي في المدينة، وعند حصول هذا التفتت تصبح فعالية القوى السياسية والحزبية وحتى فعالية المجتمع المدني ضعيفة لصالح الأجهزة والمخابرات، وفي المقابل تقوى فعالية العصابات، وحتى العائلات أكثر من السابق، ليخرج الوضع عن الظبط، إذا كل ما سبق ذكره، يولد حالة مركبة من التهميش والفقر والتشتت الاجتماعي والتفتت السياسي تدفع بطياتها أهالي المنطقة للهجرة بطريقة غير نظامية”.
ويختم أديب نعمة: “في ظل هذه الأوضاع، هناك أطراف عصابات تعمل لاستغلال أوضاع الناس وحسهم على فكرة الهجرة بالطرق اللانظامية، وما يتبين غالبا لأهالي المدينة، أن هناك قسما من هذه التجارة يتم من قبل عصابات منظمة محمية بغطاء سياسي، ويتم استنتاج ذلك من خلال أنّ من يقدمون نحو هذه الافعال هم اشخاص معروفين، يتم اعتقالهم في بعض الأحيان من ثم يطلق سراحهم، واعتقد الأمر نفسه ينطبق على الحالة التي نحن بصددها”.
غيدا فرنجية: للحد من صلاحيات القضاء العسكري
“التناقض يفرض إجراء تحقيق جدّي للتثبّت من أسباب الغرق ومسؤولية الجيش”، هذا ما صرحت به المفكرة القانونية المختصة بقضايا الاتجار بالاشخاص غيدا فرنجية لــ “السؤال الآن”، موضحة إنه “في الحادثة الأخيرة تُجمع روايات الناجين على مسؤولية الجيش اللبناني في غرق زورقهم، في حين ينكر الجيش هذا الأمر. وهذا التناقض يفرض إجراء تحقيق جدّي للتثبّت من أسباب الغرق ومسؤولية الجيش عن هذا الأمر. لكنّ القانون الحالي يعطي صلاحية التحقيق في هذا الأمر إلى القضاء العسكري، على الرغم من أنّه ليس المكان المناسب لإجراء تحقيق حيادي وشفاف. فالقضاء العسكري الذي يشكّل قضاء استثنائي يعطي إمتيازاً كبيراً للجيش وينحاز إليها كما أنهّ يقصي الضحايا من مجمل إجراءات التحقيق والمحاكمة. فالضحايا وأهاليهم يعاملون كالشهود وليس كضحايا، وهذا ما حمل الضحايا للمطالبة بإخراج التحقيق من القضاء العسكري. ويتوّجب على السلطات العمل على الحدّ من صلاحيات هذه القضاء الاستثنائي ونقل التحقيق في هذه القضية إلى القضاء العادي”.
وبلغة القانون تضيف قائلة: “يمنع القانون مغادرة الأراضي اللبنانية الا عن طريق مراكز الأمن العام. ويعاقب المهرّب بالحبس من أسبوع الى ثلاثة أشهر والغرامة سنداً للمادتين 16 و33 من قانون الدخول إلى لبنان والخروج منه والاقامة فيه والمادة 219 من قانون العقوبات”.
لا يعتبر تهريب الأشخاص جرم إلا…
وتتابع فرنجية حديثها: “وفقاً للقانون اللبناني والمعايير الدولية، لا يعتبر تهريب الأشخاص (أي نقلهم عبر الحدود بطرق غير قانونية) جرم الاتجار بالبشر إلا في حال تم استغلالهم خلال نقلهم أو لدى وصولهم إلى بلد المقصد في أعمال غير قانونية كالعمل القسري والدعارة والتسوّل وغيرها من أعمال الاستغلال. فاستغلال حالة ضعفهم وحاجتهم للهجرة تعتبر وسيلة لنقلهم وليست هدفاً بحدّ ذاته لكي تشكّل جريمة الاتجار بالبشر. وقد أكّدت العديد من القرارات القضائية اللبنانية على هذا الأمر ومنها محكمة التمييز في العام 2017”.
وعن نسبة المهاجرين بطرق غير نظامية خلال الأعوام الأخيرة، تقول: “لا أرقام رسمية لدينا حول أعداد المغادرين من لبنان بطرق غير قانونية أو على متن قوارب الهجرة، لكنّ ارتفعت هذه الأعداد منذ عدّة سنوات بشكل خاص بفعل تفاقم الأزمات المتعدّدة في لبنان التي أفقدت الناس مقوّمات العيش الكريم دون أن تتحمّل السلطات مسؤولياتها تجاه شعبها. كذلك ساهم في ارتفاع هذه الأعداد إغلاق الطرق القانونية للوصول إلى اوروبا لا سيّما على أثر أزمة اللجوء من سوريا بعد العام 2011، ومؤخراً فرض شروط تعجيزية على اللبنانيين للحصول على جوازات السفر تمكّنهم من السفر بالطرق القانونية”.
وتختم: “نادراً ما ينقل الإعلام قصص قوارب الهجرة إلا في حال اعتراضها من قبل السلطات اللبنانية المطلوب منها حماية حدود أوروبا ومنع عبور الناس للبحر أو في حال غرقها في عرض البحر كما حصل مؤخراً. فقي أيلول 2020 غرق القارب “إميل” الذي غادر طرابلس متجهاً إلى قبرص وذهب ضحيّته 7 أشخاص بينهم طفلَيْن، فيما لا يزال أربعة شبّان مفقودين. وقد تبيّن حينها للقضاء أنّ منظمو الرحلة كانوا يعلمون بأنّ المسافرين هم عرضة للموت من دون وجود كمّيّة الوقود الكافية ومن دون طعام ولا ماء، ويدركون أنّهم سيلقون حتفهم لا محالة. فتم الإدعاء على أربعة أشخاص بالتسبّب بالقتل عمداً والاستيلاء على أموال الفقراء بالطرق الاحتيالية”.