السيناريو… باعتباره شكلًا أدبيًا جديدًا (1)

السيناريو… باعتباره شكلًا أدبيًا جديدًا (1)

د. برهان شاوي

السيناريو -& scenario – من الناحية الأكاديمية هو مصطلح سينمائي، يُلفظ في اللغات الأوربية : الروسية، الفرنسية، والإيطالية بنفس اللفظ الذي تقدم، أما بالانكليزية فيلفظ (سكريبت – script)، وبالألمانية (دري بوخ Drehbuch )، وهو عمل أدبي، درامي، يتضمن وصفا لأحداث قصة، أو موضوع ما. ووصفا وتجسيدًا لشخصيات ما، مع الحوار إن وجُـد، آخذا بنظر الاعتبار أن هذه المحتويات يجب أن تصور وتمثل وتقدم على الشاشة.  

لكن هل هذا التعريف كاف لكي يوضح ماهية (السيناريو)؟

أعتقد أن هذا التعريف من الإيجاز بحيث لا يوضح القصد. ففي السنوات الأولى لظهور السينما كاختراع تقني، وفي بداية فترة عرض الأشرطة الفيلمية القصيرة، لم يكن هناك (سيناريو) يكتب للأفلام، من حيث إن الأفلام التي كانت تصور  آنذاك لم تكن أفلاما بالمعنى المعروف حاليا لها. وأنما كانت لقطات قصيرة متقطعة، لكن حينما بدأت الشركات السينمائية الناشئة إنتاج أفلام طويلة نسبيا، تستمر لدقائق، اضطر المخرجون لإيجاد (حبكة) للمشهد الفيلمي، فبدأ البحث عن (خطة) يتم فيها تنسيق القصة المعدة للتصوير. وفي أغلب الأحيان كانت خطة الفيلم لا تتعدى الصفحة الواحدة!!. 

 لكن بعد العقد الأول من القرن العشرين بدأت الشركات السينمائية إنتاج أفلام طويلة، فصارت الحاجة أكبر لتنسيق المشاهد والأحداث والحوار، الذي كان حينها يظهر على الشاشة مكتوبا.  

لكن اذا كان الفيلم يتألف من صور متتابعة ومتحركة، فأن السيناريو يتألف من كلمات.. وهنا بداية الإشكال بين السينما والأدب، باعتبار السينما هي (فن الصور المتحركة)، بينما الأدب هو (فن الكلمات). في النصف الثاني من العقد الأول من القرن العشرين دخل (دافيد غريفت) إلى مجال السينما، فاستطاع هذا الفنان الكبير أن ينقل السينما من كونها اكتشاف تقني جديد إلى أن تكون فنا جديدًا. ثم جاء العبقري شارلي شابلن، وشتروهايم، وأبيل غانس، وآخرون… 

ومع بداية العشرينيات كانت السينما قد أصبحت فنًا مهمًا وخطيرًا، لكنها كانت، برغم ذلك، تحت تأثير الفنون الأخرى، وبالتخصيص فن المسرح وتقنياته… وكان على السينما أن تنتظر حتى مجيء منظر السينما الأكبر (سيرجي آيزنشتين) الذي غير الكثير من المفاهيم الجمالية في السينما، إذا لم نقل بأنه أسس لعلم جمال السينما.

 سـنوات التأسيس طوال هذه الفترات ظل (السيناريو ) في الزاوية الحرجة، فلا المخرجون يولونه الاهتمام اللازم وينتبهون لقيمته الحقيقية ولا الأدباء ينظرون إليه بجدية واحترام. 

فها هو الكاتب السوفيتي (إيليا آيرنبورغ) يكتب: 

 (إن الكتاب يكتبون السيناريو لأنه يجب أن يُكتب، ولو إنه كان لا يكتب وأنما يُلفظ ويقال شفويا لكان يمكننا الاعتماد على المحامين والنساء الثرثارات). – (آيرنبورغ – تجسيد الفنتازيا- بالروسية(1927). 

لكن السيناريو وجد من يدافع عنه أيضا، فها هو الناقد والباحث (فالنتين توركين) بدءًا من مقالاته الأولى التي نُشرت خلال الاعوام 1916 – 1918 وانتهاءا ببحثيه المعنونين : (الحبكة الدراميية والبناء الفني في السيناريو) والمنشور في العام 1934، و(البناء الدرامي في السينما) المنشور في العام 1938، نجده يوسع حججه ويثبّت قناعاته حول الطبيعة الأدبية لـ”السيناريو”، مستندا على الأسس الدرامية التي تحدث عنها (أرسطو) و(ليسنج). ثم يأتي (ناتان زارخـي) ليوسع بحوثه النظرية حول (البناء الدرامي للسينما) مدافعا عن(السيناريو)، معتبرا إياه أساس العمل السينمائي. 

لكن أهم صراع نظري في هذه الفترة كان يدور بين (آيزنشتين) و(توركين)، حول أهمية (السيناريو) ودوره في عملية الإبداع السينمائي. وبرغم أنهما، كلاهما، كتبا عن أهمية السيناريو إلّا أن قضية الخلاف كانت تكمن في أن (آيزنشتين) كان ينظر إلى السينما ليس ك(فـن درامي) وأنما ك(فـن ملحمـي)، من حيث البناء الفني.  ومن هنا فأنه كان ينظر للفيلم السينمائي ككل متجانس وبالتالي فأنه كان يسعى للابتعاد ب(الفيلم السينمائي) من ساحة (الأدب) وأشكاله الفنية، واثقا بغنى (اللغة السينمائية)، لذلك فأنه كان ينظر إلى (السيناريو) ليس باعتباره (شكل) الفيلم المقبل وأنما ك(مرحلة) من مراحل بناء الفيلم.  لقد كان (آيزنشتين) يعتقد بأن (النص المسرحي) يمتلك قيمتة الذاتية باعتباره (نصا) مكتوبًا، بينما قيمة (السيناريو) المكتوب تتكامل من خلال مراحل أخرى هي مراحل التجسيد الفني له.  لقد كان يرى مهمة السيناريو تكمن في احتواء (الدفق الشعوري) الذي يتم تجسيده فيما بعد في مشاهد مرئية. 

 بينما ظل (توركين) على حماسه للسيناريو باعتباره(نصا) يكتفي بقيمته الذاتية كنص أيضا. وأن (ملحمية) الفيلم السينمائي ليس لها علاقة ب(درامية) السيناريو.

 في تلك الفترة من العشرينيات كان النقاد والمؤرخون يقفون إلى جانب(توركين)، لكن مع مرور الزمن أعاد (آيزنشتين) النظر بمفاهيمه حول السيناريو، ومارس النقد الذاتي لها. 

 ويعتقد (ستانسلاف. ن. يورنيف) في كتابه (آيزنشتين)، في أنه لم يكن هناك ثمة تناقض في وجهات النظر بين (آيزنشتين) و(توركين)، لكنهما كانا ينظران إلى هذه المسألة من مواقع مختلفة، من حيث إن (توركين) كان ينظر من موقع تأسيس (دراما سينمائية) حقيقية وأصيلة، بينما كان (آيزنشتين) ينظر من موقع تاسيس (فن سينما) له خصائصه التي تميزه عن بقية الفنون الأخرى، لذا فان تحفظه على (السيناريو) لكونه يجد فيه زحفا للأدب والمسرح على السينما.  – (يورنييف- آيزنشتين – المجلد 1 – بالروسية 1985).

(يتبع)

Visited 6 times, 1 visit(s) today
شارك الموضوع

د. برهان شاوي