البصري حي لا يرزق..!

البصري حي لا يرزق..!

 

(كلما ازددت علما زادني علما بأني جاهل..   فاللهم زدني علما بجهلي)

العربي بنتركة

   هل صحيح أن البصري حي ولكنه لا يرزق؟

عن أي واحد من الأباصرة نتحدث؟ الفقيه البصري السياسي الكتوم والخطير؟ أم البصري أحد مؤسسي فرقة التمثيل بالإذاعة الوطنية فجر الاستقلال؟

   الأول من دمنات، والثاني من مكناس، وما أن ماتا حتى ظهر بصري آخر حجبهما عن الذكر.. كان موظفا يسيرا يتميز بعقلية البداوة في تحقيق المآرب. كان وصاحبه المعاون لداخلية الجنرال يحتلان مكتبا به راقنة. صاحبه أكثر دراية بحركات الجنرال، وهو أكثر فضولا لمعرفة تحركات الجنرال، يتربص به من وراء ستار وقناع. وعندما يلتقي به يبدي خوفه منه، فينحني له ويقبل يده.

   الجنرال أوفقير يومها كان وزيرا للداخلية، وكان لا يميل إلى النجمية والظهور. وكأي عسكري بشمال إفريقيا كان أوفقير قد تكون في مدارس الجيش الفرنسي، وفرنسا تريد من جميع الدول التي كانت قد استعمرتها في افريقيا وشمالها، أن تظل تحت سيطرتها واستخدام جنرالاتها لهذه الغاية، كما حدث في “ألخيريا” لاحقا. فالأنظمة العسكرية في افريقيا تسهل مأمورية فرنسا في الهيمنة ما دام هؤلاء الضباط من أبنائها، ومن حقها عليهم تنفيذ أوامرها. ولم يكن الأمر هيِّناً على أوفقير، فهو يحتاج إلى عسكريين أكفاء وجريئين ومتفهمين لوضعية المغرب وغرور ملكه، فيصدقونه ويضعون يدهم في يده.

  أوفقير غير مطمئن، فأغلب جنرالات المغرب منسجمون مع الملك، ويحبونه. ويلزمه وقت لاختراق هذا الجدار وخلق بدائل في المدارس العسكرية بالقنيطرة ومكناس والحاجب وهرمومو.

وحتى يتفرغ لما هو مقبل عليه، أعفي من الداخلية بطلب منه، ولا أحد يعلم بما دار بينه وبين الملك بهذا الخصوص، لكن في نفس الزمان كان الملك يتوصل من البصري بتقارير شبه يومية تطلعه على تحركات أوفقير، الأمر الذي استحسنه الملك فأوصى به خيرا خلف أوفقير في الداخلية محمد بنهيمة. وللحقيقة والتاريخ بنهيمة هذا كان من آخر الصالحين في داخلية المغرب المستقل، بعد محمد بَّاحنيني وإدريس السلاوي وحدُّو الشيكر، ثم أوفقير رغم شوفينيته.

  الدكتور بنهيمة كان رجل أخلاق أكثر منه رجل السياسة، ومع ذلك كان صارما في تدبير شؤون وزارته، وكان يستشير الملك قبل أن يتخذ قراراً يعني هذه الوزارة، وعملاً بإشارة الملك اتخذ البصري مستشاراً، وبذلك صار البصري ملمّاً بجنود الداخلية وجيوبها، ومتدخلا مباشرا في بعض قضاياها، وكان مطيعاً لولي نعمته فيها بنهيمة. وبطريقته البدوية المسلية جلب إليه الكثير من الموظفين أصبحوا أصدقاء له، يثنون على حيويته وسعة صدره. في ذات الوقت أدرك بنهيمة أن إدريس البصري هو من سيخلفه، فشحنه بفيض من المعلومات عن الوزارة، ومكَّنَ له في ملفات العاملين بالوزارة. ولما فشل الحوار السياسي بين الملك والأحزاب عيّنه الملك وزيراً للداخلية ووصيّاً على الحكومة التي يتعين عليه اقتراح بعض عناصرها على جلالته، وأطلق يده في المال والأعمال، ولم يبق في صف الملك من أصدقائه القدامى غير الجنرال عبد الحفيظ العلوي وأحمد رضا اجديرة وعبد الهادي بوطالب وأحمد بنسودة ومحمد عواد. حتى إذا رحلوا خلت الساحة لإدريس وقد ظهر تراجع في الأداء على أنشطة الحسن الثاني، مما يعني أن التعب أصبح يغالب الرجل. ففي ذكرى ميلاده الستينية، كان أوصى بتوسيع نطاق الاحتفال بها، استضاف بقصره في الرباط فريق القناة الفرنسة الأولى، وفي معرض جوابه عن سؤال، قال الملك:

– لقد قدمتُ الكثير، وكما يعلم الجميع بذلت جهدا كبيرا من أجل شعبي ووطني، وتصدَّيت لعدة مشاكل ومحن، وأنا هنا لا أشتكي، فسُنَّة الحياة تقتضي أن نعمل ونكافح. وأظن أنني الآن أستحق بعض الراحة، أو كما (قلت) أستحق بعض التقاعد. مع أنني لن أقعد…

  يومها ازدادت المساحة أمام البصري اتساعاً، وقد أطلق ملك البلاد يد البصري في خزائن الدولة والشعب، وطأطأ له رؤوس بقية وزرائه، وكان (مسيو البصْغي)  يعي أنه قليل الدراية بأمور ترتبط بعمل الوزارة، فأرسل في طلب موظفين أكفاء قضوا بالداخلية أعواما قبل تقاعدهم، فجدَّد عقودهم وقربهم منه حتى يستفيد من خبرتهم وتجاربهم. وحتى يطمئن ويزداد علوا، وظف رصيدا هامّاً من المال لشراء مجالات الحياة، فوظف الكثير منهم في السلم العاشر مباشرة، ووزعهم على المناطق والإدارات التي يريدها إلى جانبه. ولما أصاب فكر بحرفته الأولى التي أوصلته إلى “المجد”، وأراد أن يصبح السواد الأعظم من فقراء العقل والجيب في كفه وكنفه، ينفق عليهم من أموال الشعب فيحبونه ويتنافسون في الولاء له، حتى إن اسمه عند بعضهم أصبح يسبق اسم الملك. وصار المجتمع المغربي مجتمعا  لـ”التبركيك” (الكاف جيم مصرية، واللفظ يعني الوشاية والتجسس التآمري)، اخترق العائلات وباعد بين أفرادها، وتم تهميش ضحايا “التبركيك” البصراوي، الذي قال – وليس لديه ما يقول- (إن الجاسوسية نظام عالمي يستخدم ضد عصاة النظام). ويغلب الظن على أن الحسن الثاني في مرحلة الثمانينيات والتسعينيات كان غاضبا من الشعب الذي لم يبد ردود فعل قوية، كما كان الملك يتوقعها، لنصرته إبان محاولتي الانقلاب (1971- 1972) من القرن الأخير، فوجد في البصري العصا التي “يُربِّي” بها هذا الشعب، ولم يفت البصري ذلك، وهو الذي جنَّد نفسه لعبادة مخلوق فأنساه الخالق نفسه، وأمر سكان بعض البوادي بالنزوح إلى المدن (في المقدمة: الدار البيضاء والرباط وسلا وفاس)، وأمر عماله وقواده ورؤساء المجالس المنتخبة بدعمهم وكفِّ اليد عنهم، ورخّص لهم بالبناء العشوائي والتجارة العشوائية في الساحات والشوارع وداخل الأحياء السكنية، فضاقت الآفاق واتسعت الأنفاق. وكلما حلّت إحدى المناسبات الوطنية أمر البصري ولاته وعماله ووزراءه بزيارته في بيته صباحا لتقديم التهنئة له قبل الذهاب إلى القصر الملكي لتقديم نفس التهنئة للملك. في هذه غضب الملك ووضع حدًّا لهذا السلوك، فركع البصري أمامه وخرَّ ساجدا يقبل حذاءه، فليس ثمة حل آخر له، وليس ثمة حل آخر للملك غير أن يغفر له، ما دام الرجل يتفانى في عبادته للعرش وتطويع الآخرين له، وإن على حساب آخر من يعلم، أي الشعب.

   وفي تحدٍّ خرافي للطبيعة أقسم البصري أن يأتي بالبحر إلى مسقط رأسه بمنطقة سيدي رحال، فوظف لذلك كمّاً هائلا من ملايين الدراهم، وعددا  هائلا من الأيادي العاملة، وطاوعه في ذلك بعض أقرانه من “المهندزين” وحفروا المنطقة لاستدرار مياه البحر إلى مسقط رأس “مسيو البصْغي”. واعتاد البصري وعنده ما يكفي من الرجال، فلا يتوقف العمل، اعتاد أن يتجاوز كل تجربة عاشها، حتى ولو لم تأت بما يأمله، ليخطط لغيرها. فاستدعى إليه رجلين ممن له فضل استوزارهما، فأنبأهما أنه يريد الترشيح لنيل دكتوراه في القانون، والمطلوب منهما المساعدة على إعداد أطروحته لذلك، ومدّهما ببعض الوثائق ترشد إلى خبرته القانونية، فعكف ابن وادزم جلال السعيد، والمراكشي عبد الواحد بلقزيز على الموضوع، وهما يعلمان أن إدريس لن يستطيع تقديم عرض أمام لجنة التحكيم، أو يناقش رسالته، وإن هي إلا إحدى نزواتنه. وشحن البصري طائرة بالهدايا المرسلة إلى فرنسا، واعتذر عن الحضور من باب (لقد صَيْفَطَني صاحب الجلالة)، وكلف بلقزيز لتمثيله. ومثل إعلام البصري قبل الفرنسيون الهدية وخانوا الأمانة العلمية، فلا كانت دكتوراة ولا كان إدريس دكتورا.

   قمة ما بلغه البصري أن ترك في عشيرته وصية يوصيهم فيها بإنشاء ضريح يحمل اسمه، ويكون بيتا له بعد رحيله ومزارا لأهل مدينة سطات وقبائل الشاوية. ولا أحد إلى الآن يعلم بقدر الميزانية المخصومة من مال الدولة والشعب لبناء ضريح البصري الذي ما كان ولا كان ينبغي له أن يكون.

    وإنهم ليقولون إن ثمة أشخاص لا ينتهون بمجرد موتهم، إن وُجد من يرث أسلوبهم ويتفذ طرائقهم في العمل، ويسير على نهجهم.. ولما اعتلى محمد السادس عرش أسلافه، وأُعلِن ملكا للبلاد، أمر بإبعاد إدريس وإقصائه، ونزع أي سلطة بقيت بيده…

   لكن إدريس البصري بعد يومين فقط من قضاء الملك، يقال إنه عاد إلى وزارة الداخلية وأحرق ملفاتها، فأثبث بذلك جرائمه. فمن مكَّن له في هذه الملفات؟ ومن أعدَّها له؟ ومن ساعده على إحراقها؟ وهل فعلا انتهى عهد البصري؟

   الجواب عندكم..

   أما أنا.. أمام الفساد المستشري في المجتمع، والشطط الذي يسود المؤسسات، و”التبركيك” الذي هو وظيفة الأغلبية، فلا زلت أعتقد أن البصري حيّ (لا) يرزق!

Visited 2 times, 1 visit(s) today
شارك الموضوع

العربي بنتركة

كاتب واعلامي مغربي