الإكراه المُقدّس
نجيب علي العطار
تُشكّلُ المناسبة الإسلاميّة موسِمًا حافلًا لـ “رجال الدين” الذين أوكلوا الى أنفسهم مهمّة الناطق الوحيد باسم الإله. ورغم أن القرآن يدعو الى تذكّرِ “أنباء” السابقين تحتَ عنوان “إنّ في ذلكَ لعبرة”، ورغم أنّ القصدَ من إحياء المناسبات الدينيّة يقع تحت عنوانين رئيسين؛ الأوّل هو بناء وعي تاريخي بالذات الإسلاميّة وبالعالم الخارج عنها، والثاني هو تشكيلُ ذاكرةٍ، أو خبرة، جماعيةٍ تؤثّرُ في سلوك الأفراد تجاه أنفسهم من جهة، وتجاه حركةِ الحياة من جهة أخرى، على أنّ هذه الذاكرة الجمعية لا تنفي الفرديّة في فهم وممارسة معاني المناسبة. رغم هذا، يُلاحظ أن الواقع الإسلامي في التعامل مع المناسبة/ الذكرى يسير في خطٍّ مُغاير تمامًا للخطّة القرآنيّة، إذا جاز التعبير. فمرّةً يكون خطًّا جامدًا لا يتعدّى دائرةَ “السَلَفِ” المعرفيّة الأضيق، بالضرورة، من دائرتنا، وهذا يتعارض مع طرح القرآن لنفسِه ككتابٍ يصلُحُ “لكلّ زمانٍ ومكان”. ومرّاتٍ يكون خطُّ الواقع مُعاكِسًا للطرح القرآني لمفهوم المناسبة/ الذكرى.
إنّ بناء وعيٍّ إسلاميٍّ بالذات يلزم عنه، بالضرورة، أن يُعاد طرح المعاني التي تحملُها المناسبة/ الذكرى طرحًا متجدّدًا باستمرار ومتحرّكًا مع الحركة التطوّريّة للمجتمعات وللذهنيّة والمعرفة الإنسانيّتين، وبهذا يكون “الإحياء” ذا أصالةٍ إسلاميّة من جهة، وذا منفعةٍ إنسانيّة من جهة أخرى. فالانطلاق الى العالم المختلف عنّا مطلوبٌ إذا كان إنطلاقًا من قاعدة ما، ومن معرفةٍ علميّة دقيقة للذاتِ المنطلِقة نحو الآخر ليكون الإنطلاقُ والانفتاحُ بابًا للتفاعل الثقافي الموجِب لتطوّر كلا المتفاعِلَين. ويلزم عن “التفاعل” وجود ذاتَينِ مختلفتين كلٌّ منهما تعي ذاتَها من جهة وتعي الآخر من جهة أخرى.
أمّا بناءُ الذاكرة الجماعيّة فيوفّرُ تجربةً حيّةً وغنيّةً للمجتمع الإسلامي لما يحملُه التراثُ وتراكمُ التراث من أهميّة خطيرة في تشكيل ثقافة الافراد التي تؤثّر في سلوكهم الذي، بدوره، يصبغُ المجتمعَ بصَبغةٍ ما تعبّر بصورة غير مباشرة عن ثقافة الأفراد وتجربتهم الجماعية. ومن المهم جدًا أن لا تُلغي الذاكرة الجماعيّة تفرّدَ المتلقّين لها بفَهمهم لمعانيها، لأنّ هذه الفرديّة تُنتجُ تفاعلًا داخليًا، أي بين المذاهب الإسلاميّة، يكون قوّة دافعةً نحو التطوّر الأصيل إن جاز التعبير.
بيدَ أنّ تعاطي المسلمين مع المناسبة الإسلاميّة عامّةً، والمناسبة التراجيديّة على وجه الخصوص، لا يُعتبرُ مِصداقًا لهذه المفاهيم. وتتمتّعُ التراجيديا بقدرة كبيرة على التأثير في الأفراد وتحريكهم لأنّها تعمل في حيّز المشاعر التي يصعبُ السيطرة عليها وعلى الإنطباع الذي تتركه التراجيديا في أنفسنا وتأثيرِ ذلك على سلوكنا.
تلعبُ التراجيديا التاريخيّة، إذا صحَّ الاصطلاح، عند الشيعة الإثني عشريّة دورًا مركزيًا في نسيجهم التاريخي، عبر واقعة كربلاء، بصورةٍ توحي بأنّ التاريخ بدأ في ذلك اليوم ومن تلك الأرض. وفي مقابل المعاني الإنسانيّة العظيمة التي تحملُها واقعة كربلاء، نرى أن الصورة العامة لسلوك الشيعة الإني عشريين في إحياء الذكرى لا يُمكن أن يقع تحت عنوان الاختلاف المبرّر في الفهم والممارسة، وانّما يُعبّر عن أزمة ثقافيّة عند المسلمين عامّة، ولكنّها تتأخذ أشكالًا أكثر تطرّفًا عند الشيعة. يمكننا تعريف هذه الأزمة بأنّها إكراهٌ مقدّس على المقدّس؛ وهي ذاتُ تجليّات كثيرة أبرزُها مكبّرات الصوت التي تتّخذُ صورًا مختلفة تبدأ بمكبرات المساجد مرورًا بتلك التي في السيّارات ووصولًا الى بعض المحلّات التجاريّة والتجمّعات التي تبثُّ، بصوتٍ عالٍ جدًّا، ما يُعرف في البيئة الشيعيّة بالـ “ندبيّات”، حيثُ يُكرَهُ المحيطون بهذه المكبّرات على الاستماع اليها، وهذا يُمثّلُ أحد أوجُه الإعتداء على حرّية الآخرين.
تُعبّرُ ثقافة مكبّرات الصوت عن حالة عامّة عند المسلمين يُمكن تلخيصُها بأنّها الغياب شبه التام للفرديّة والخصوصيّة، حيث تتمُّ قَوْلَبةُ ذهنيّات الأفراد وأفكارهم بقوالبَ تتحوّلُ من ممارسةٍ فرديّة الى “تابو” مجتمعي، بسبب ما يُضاف اليها من التقديس، فيتماهى، بالتالي، الفردُ في المجتمع والمجتمعُ في الفرد، بصورةٍ عبثيّة، وتنتفي بذلك فكرةُ احترام فرديّة الأفراد وخصوصيّتهم. وكنتيجة طبَعيّة لغياب النقد، أو تغييبه، يمّحي الفارقُ بين الطبيعي واللاطبيعي، فيُصبحُ اللاطبيعيُّ طبيعيًا والطبيعيُّ لاطبيعيًا.
المُشكلةُ إذًا ليست في ذاتِ التراث، لأنّ التراث، أو التراث الإسلامي على الأقل، لا يُمكن أن يُشكّل مشكلةً أو عبئًا يُعرقلُ مسيرة التطوّر الثقافي والفكري، إنّما المشكلة في طبيعة تعاطينا مع هذا التراث من جهة، وفي طبيعة المُتعاطين مع التراث من جهة أَولى.