من المقاربة التشاركية إلى استرداد الأنفاس الوطنية: نحو سيادة منفتحة وتكامل مغاربي مسؤول

من المقاربة التشاركية إلى استرداد الأنفاس الوطنية: نحو سيادة منفتحة وتكامل مغاربي مسؤول

 مصطفى المنوزي 

           تشكل قراءة الصحفي علي أنوزلا للصورة الجماعية التي جمعت مستشاري الملك ووزيري السيادة برؤساء الأحزاب السياسية نموذجًا لـــ”السيميائيات السياسية النقدية” التي تحاول تفكيك رموز السلطة عبر العلامات البصرية. وقد لا نختلف مع الزميل علي فيما يخص تحصيل الحاصل من طبيعة النظام السياسي ، ولكن ليس من الضروري أن نعاين دون التفكير في البديل وتفعيل المنشود ، في ظل لحظة وطنية نحن المعنيين أكثر بها ؛ فعلا ،  لقد استطاع أنوزلا، بذكاء بصري لافت، أن يحول الصورة إلى نصٍّ سياسي، يكشف توازنات الحضور والغياب، الضوء والظل، المركز والهامش. غير أن هذه القراءة، رغم قوتها الوصفية، تبقى حبيسة منطق التشخيص المأزوم أكثر من انفتاحها على أفق التحول الممكن الذي تتيحه المقاربة التشاركية، كما تمت الإشارة إليه في نص حررته سالفا “من الاستثناء إلى الاستدراك”.

فقراءة الزميل أنوزلا تنطلق من فرضية أن الصورة تجسد تراتبية السلطة في المشهد السياسي المغربي؛ فالإضاءة المنخفضة توحي بالتحكم، والموقع المكاني يعكس المركزية، وطاولة الاجتماعات تتحول إلى حاجز رمزي بين الفاعل الموجّه والمفعول به. أما تفاصيل مثل الحلوى وكؤوس الشاي، فليست في نظره مجرد مكونات بروتوكولية، بل رموز لضبط الإيقاع وتجميل الصرامة، حيث يتحول الطابع الاحتفالي إلى قناعٍ للسلطوية الناعمة. هذا التحليل السيميائي يلتقط جوهر المشهد، لكنه يغفل بعدًا أعمق يتعلق بطبيعة التحولات السياسية في المغرب، إذ أن السلطة، وإن ظلت مركزية في تدبير اللحظة، فإنها تتحرك داخل سياق تراكمي من الاستدراك التشاركي، حيث يتم الانتقال تدريجيًا من الدعوة إلى الإصغاء، ومن التوجيه إلى التشاور، وإن ظل ذلك نسبيا ومشروطًا بميزان اللحظة.

من هنا يصبح التفكير النقدي التوقعي ضرورة لفهم الصورة لا كمشهد مغلق، بل كعلامة على مرحلة انتقالية في تمثّل الدولة لطبيعة التوافق الوطني حول الصحراء المغربية. فبدل أن تُقرأ الصورة كمشهد تراتبي، يمكن تأويلها كتعبير عن محاولة تدبير تلك المركزية في إطارٍ منظم يزاوج بين الاستقرار والتمثيلية، بين القرار السيادي والشرعية التشاركية. التفكير النقدي التوقعي لا يكتفي بوصف ما هو قائم، بل يسائل ما يمكن أن يصير، أي كيف يمكن تحويل المشهد السلطوي إلى مشهد تشاركي ناضج، يُستبدل فيه منطق الاستدعاء بمنطق الاستماع، وتتحول فيه الهرمية إلى فضاء دائري للحوار.

على هذا الأساس، لا ينبغي أن ينحصر التحليل السيميائي في تشخيص التفاوت بين الدولة والأحزاب، بل أن يُفتح النقاش حول سيميولوجيا جديدة للثقة، تجعل من الرموز أدوات تفاعل لا أدوات تثبيت. فالاختلاف في مواقع الجلوس لا يُقرأ فقط كترتيب سلطوي، بل كإشارة إلى أدوار متفاوتة داخل سيرورة سياسية تتلمس طريقها نحو حوكمة تشاركية. فالصورة، في النهاية، لا تختزل لحظة الحكم المركزي بقدر ما تكشف عن إمكانية إعادة تأويل السلطة ضمن تصور أكثر إدماجًا للمكونات الحزبية والمدنية، في انسجام مع ما دعت إليه المقاربة التشاركية بوصفها انتقالًا من القاعدة إلى القمة، ومن القرار الأحادي إلى القرار المشترك.

إن قراءة أنوزلا، وإن بدت دقيقة ومتماسكة، تصلح لأن تُدرّس في مناهج العلوم السياسية، ليس بوصفها إدانة بل بوصفها تمرينًا على تربية النظر النقدي في السياسة البصرية. فالمطلوب اليوم ليس فقط تفكيك الصورة السلطوية، بل إعادة إنتاج الصورة التشاركية عبر وعي جمعي يجعل من الفضاء العام منصة للتفاعل والمساءلة، لا مسرحًا للولاء والانضباط.

ونحن في مقاربتنا لا نؤمن بقطعية المسلمات، فكل نظام سياسي، مهما بدا متماسكًا، قابل للتغيير النسبي بحكم التنازلات الموسمية التي تفرضها عليه بعض القضايا المصيرية لفك الحصار الخارجي أو إعادة ترتيب الأولويات، في ظل هشاشة المشهد الحزبي وقواه المنخورة ، وليس أمامنا سوى البحث عن خيوط الأمل ؛  ولهذا فدورنا، كسلالة للحركة الوطنية وامتداد للصف الديمقراطي، أن نستثمر اللحظة الوطنية الراهنة للتوافق مع الدولة على إتاحة هامش من الانفتاح يخدم استرداد أنفاس العمل السياسي والمدني. وليس الأمر، في تقديرنا، مجرد لقاء لتزكية موقف جاهز، بل هو فرصة للدولة نفسها كي تُعيد شرعنة وشرعة التفكير في تفعيل مقترح الحكم الذاتي، الذي كان في لحظة ما ورقة ظرفية لتدبير التوتر، قبل أن يتحول اليوم إلى مدخل لبناء سيادة منفتحة وتوافقية.

فلنكن إيجابيين، ولتُوسّع الأحزاب، رغم علّاتها، دائرة الضوء بدل أن تبقى حبيسة ظل الطاولة الطويلة. فـما لا يُدرك كله لا يُترك جله، وما يُمكن التقاطه من إشارات الانفتاح، ولو جزئية أو رمزية، يمكن أن يُراكم في اتجاه تحولٍ أوسع نحو مشاركة مسؤولة. وبين قراءة أنوزلا التي تفضح المفارقة، والمقاربة التشاركية التي تبني الجسر، يمكن أن نؤسس لتفكير نقدي توقعي يعيد وصل الصورة بالسياسة، والسياسة بالمعنى، في أفق يربط بين الذاكرة الوطنية والسيادة التشاركية والمغاربية المتكاملة.

شارك هذا الموضوع

مصطفى المنوزي

منسق ضمير الذاكرة وحوكمة السرديات الأمنية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: المحتوى محمي !!