“الأم فامة”.. “لاباسيوناريا” المغربية
عبد الرحيم التوراني
إنها امرأة مناضلة استثنائية، بكل ما يحمله اللفظ من معنى. امرأة من طينة مغايرة نادرة، ومن زمن مختلف، يبدو أنه ابتعد عنا ابتعاد المجرات عن كوكبنا الأرض…
عاشت متجولة بين بيوت المناضلين وأسرهم. وبعد عقود من التعب، نودي عليها لاستلام مبلغ مالي محترم، قيل لها إنه لجبر الضرر لضحايا سنوات الرصاص، في إطار “هيأة الإنصاف والمصالحة”، تعويضا عن سجنها المتكرر والتعذيب الذي عانت منه في المعتقلات خلال سنوات الرصاص.
فكرت في الرفض، لأنها كما تؤمن، لم تكن تناضل للاستفادة من مقابل مالي، لكنها استدركت واستلمت “الشيك” لتقوم بصرفه كاملا على يتامى وفقراء هي على صله مستمرة بهم، من أسر المقاومة وأبناء المناضلين ضحايا آلة القمع الجهنمية، رافضة فكرة من اقترح عليها امتلاك بيت خاص.
عملت “فامة” على مساعدة أسر المقاومين المغاربة الذين استشهدوا في سبيل الاستقلال، كما أنها وقفت إلى جانب نساء المعتقلين واللاجئين السياسيين، اللواتي عانين من أوضاع صعبة، وقدمت إعانات مادية لهن، وسعت لتدبير فرص عمل أو مصدر عيش لأولاد وبنات تلك الأسر.
وعندما اجتمعت لجنة من المناضلين ارتبطوا بشكل كبير ب”الأم فاما” في سنواتها الأخيرة (آسيا رضا وفاطمة سعدون مع الدكتور عمر جبيهة والدكتور عبد الكريم المنوزي)، تداولوا في موضوع القيام بعملية اكتتاب لشراء شقة صغيرة لـ”فامة” تستريح بها من تجوالها الذي طال ولم يتوقف، وراح تفكيرهم في البداية لاقتناء منزل من الشقق المصنفة في خانة “السكن الاقتصادي”، لكن التجاوب لم يحصل بالشكل المنتظر ممن طرقوا أبوابهم. فتلقوا الإشارة بالتوجه إلى المحامي محمد الطيب الناصري (رحمه الله)، ليطلبوا منه المساهمة في الاكتتاب. لكنهم فوجئوا بالاتحادي القديم يسألهم أن يفتشوا عن الشقة المناسبة وهو سيدفع ثمنها كاملا. فلا يليق بهم التجول بـ”صينية” لجمع تبرعات باسم “فامة”. ثم قام بتأثيث الشقة التي سكنت بها في حي مرس السلطان غير بعيد عن ليسي الخنساء، وزاد ووظف مساعدة ترعى شؤون المرأة المسنة. إلا أن الناصري لم يفلح في إقناعها بتسجيل ملكية الشقة باسمها. فبقيت “فامة” تتمتع بالسكن في البيت مدة عامين حتى وفاتها.
الاسم الحركي
اشتهرت بلقب “فامة” أو”الأم فامة”، وهو اسم نتج عن خطإ لموظف سلطات الإدارة الاستعمارية، الذي أهمل كتابة حرف “T” في اسمها الأول (Fatma)، فتحول الخطأ إلى اسم حركي، ثم التصق بها العمر كله كلقب دائم، حتى أن كثيرين لا يعرفون اسمها الحقيقي وهو “فاطمة اعْزاير”.
ومن أعجبهم الوصف الذي كانت تقوله عن فسها: “ساكنة جلبابها”، لم يعرفوا أن الوطن هو من سكن قلبها وجوارحها وكيانها كل سنوات عمرها.
لم يتن تتجاوز السادسة عشرة حين انخرطت صغيرة في صفوف المقاومة، وقد شهدت مقتل أحد أشقائها على يد المستعمر، فتركت بيت العائلة، هاربة من زواج الإكراه، لتعتنق الكفاح ضد المستعمر، متجاوزة المهام البسيطة والأدوار الثانوية الموكولة لنساء في المقاومة، وهي التموين بالطعام وإخفاء السلاح والملاحقين، لتقتفي مواكب الفداء وتمشي في أثر مجاهدات ثورة الريف المسلحات. وقد ظل جسدها يحمل ندوبا تؤرخ قساوة ما عانته في أقبية التعذيب الذي لقيته على يد أزلام البوليس الاستعماري. كما ظلت آثار الرصاص واضحة على ساقها.
وفي عهد الاستقلال سيضيف جلادو “سنوات الرصاص” علامات أخرى إلى جسدها، وقد تكرر اعتقالها التعسفي مرات.
الطارد والمطرود
انتقلت “فامة” من خلايا المقاومة المسلحة إلى العمل السياسي بحزب الاستقلال، وبعد الانشقاق الذي حصل في 1959 بزعامة المهدي بنبركة، كانت “فامة” ضمن الرعيل المؤسس لحزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، وفي يناير 1975 كانت عضوا بالمؤتمر الاستثنائي الذي تم فيه تغيير اسم الحزب إلى الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية. وظلت دائما مخلصة لقيم الوطنية واليسار الحق والأصيل.
وبعدما اتخذ فيها عضو المكتب السياسي محمد اليازغي ومن معه قرار الطرد في حقها من الحزب عام 1979، ضحكت وتساءلت بسخرية مريرة:
– من الطارد ومن المطرود؟
ونشرت صورتها على الصفحة الأولى بأحد أعداد مجلة “الاختيار الثوري” التي كانت تصدر من باريس، وكان طردها موضوع افتتاحية في العدد رقم: 44.
[طالع موضوع: “الأم فامة في الاختيار الثوري” على هذا الموقع]
ظلت فاطمة اعزاير وفية لمبادئ وقيم وأهداف الاتحاد، وصارت محسوبة على حزب الطليعة الديمقراطي الاشتراكي، ومرتبطة بالمناضلين أحمد بنجلون وعبد الرحمان بنعمرو. لتبقى مناضلة طليعية دائما في الطليعة.
فجر يوم الجمعة 19 مارس 2004 فاضت روح “الأم فامة” ولفظت آخر أنفاسها الزكية بمصحة “لاسورس” بالدار البيضاء.
وكان الدكتور المهدي أمزيان صاحب المصحة قد تنازل عن تكاليف تطبيبها وعلاجها لأكثر من أسبوعين بمصحته “المنبع”، مفضلا عدم ذكر اسمه. كفاعل خير مجهول، ولأول مرة يثار اسمه من ذون اسئذان بهذا الشأن.
أذكر أن “فامة” كانت دائما تسبق لفظة “خويا” عندما تتكلم عن المناضلين، خصوصا الفقيه محمد البصري، ونفس الأمر بالنسبة لعبد الرحمان اليوسفي. الذي غاب بعد اعتزاله العمل السياسي عن المشهد، إلى أن أخرجته وفاة “فامة”، فمشى في تشييع جنازتها، إلى جانب المناضل أحمد بن جلون (الأمين العام لحزب الطليعة)، ومحمد بنسعيد أيت إيدر (الأمين العام لحزب اليسار الاشتراكي الموحد)، والأخير هو من ألقى كلمة تأبينية على قبرها ورثاها.
أكبر من مناضلة نسائية
سميت باسمها الثانوية الإعدادية المجاورة لسوق درب غلف (الجوطية)، وقبلها في حياتها حمل اسمها مركزا لمناهضة تعنيف النساء والدفاع عن حقوقهن. وحمل المركز التابع للجمعية المغربية للدفاع عن حقوق الإنسان أيضا اسم “فامة”. وعندما احتضنت مدينة مراكش المنتدى العالمي لحقوق الإنسان تصدر اسمها إحدى قاعاتها الكبرى المخصصة للندوات إلى جانب أسماء أبراهام السرفاتي وإدريس بنزكري و إدموند عمران المالح وآسيا الوديع ومحمد البردوزي.
بعد شهر تحل الذكرى الثامنة عشرة لرحيلها.
فمن يتذكر هذا الاسم لامرأة مناضلة حرة جسدت نموذج امرأة وهبت حياتها للكفاح والالتزام والتضامن والوفاء والصمود؟
عاشقة الوطن
من سيرة “مّي فامة” تعود الذاكرة بالأستاذة فاطمة الزهراء ازرويل، إلى الزمن التي تعرفت فيه على “فامة”، التي تحب تسميتها ب”عاشقة الوطن”، حدث ذلك ما قبل اندلاع أحداث مارس 1965 بفترة قصيرة، “حين استقطبتني زميلتي خديجة فجري إلى “ودادية التلاميذ”. اقتحمنا عالم السياسة في وقت مبكّر جدا ونضجنا قبل الأوان. كنا نلتقي لنتناقش ولنحضر حلقات تكوينية يؤطرها بعض القادة الاتحاديين، وكانت ” فامة”، التي لم يكن أحد يناديها آنذاك سوى بـ”مّي فامة”، لا تتغيب عن تلك اللقاءات…
امرأة بسيطة ترتدي جلبابا وتغطي شعرها بمنديل، تتحدّث لهجة يغلب عليها طابع اللهجة السائدة في شرق المغرب. لم أعرف لها مسكنا قارا، وكانت دائما تتحدث عن القادة الاتحاديين بصيغة الإخوة، إلى حدّ قد يبعث مَن لا يعرفها على الاعتقاد بأن الأمر يتعلق بإخوة تربطها بهم صلات الدم، حين يسمعها تقول: “بَت فْدار خويا، أو كنتْ عندّ مراتْ خويا”. كم أحببتك فاما، أحطتني منذ البداية بعطفك، وكنت تحضنينني وتشجعينني وتبدين إعجابك بما أقول… لا شكّ أنّك تلمّست في تلك التلميذة التي كنتها بعض معالم هذا المسار الذي عشتُه، والذي التزمت فيه قدر المستطاع بالمبادئ التي تعلمتها منك… تحية إلى روحك أيتها الخالدة فينا ومن حولنا”.
لم تكن “مّي فامة” كما يريد بعضهم اختزال سيرتها النضالية في مجرد امرأة تدافع عن حقوق النساء، وقد تولت في حياتها منصب رئيسة شرفية للرابطة الديمقراطية لحقوق المرأة ، وأطلق اسمها على مراكز النجدة والاستماع للنساء، بل كانت تحرص دائما على التأكيد أنها مناضلة تدافع عن حقوق الشعب بأكمله، بنسائه ورجاله وأطفاله، خاصة وقد تبنت قضايا الاعتقال السياسي وحرية الرأي والتعبير، وكانت أما لكل المعتقلين السياسيين، لا تتردد في زيارتهم في السجون، ومساعدة عائلاتهم، متضامنة مع جميع الضحايا من المضطهدين والمظلومين.
لذلك يلقبها البعض بـ“لاباسيوناريا” المغربية، ويشبهون صمودها بصمود المناضلة الشيوعية الاسبانية دولوريس إيباروري، التي شاركت في الحرب الأهلية ضد الفاشية ودافعت عن الجمهورية وعرفت السجون والمنافي. وكانت توقع مقالاتها بـ“لاباسيوناريا”، وهي لفظة تعني “إكليل النصر”، وكانت أيقونة النضال لشعبها، وهي صاحبة الشعار الثوري الشهير الذي تجاوز الحدود:
– “لن يمروا”، و”الأفضل أن نموت واقفين على أن نحيا راكعين”.
“الأم فامة” لم تهدأ طيلة سنوات وعيها بالحياة، ولم تتوقف عن النضال بما آمنت به. ماتت واقفة..
“الأم فامة” لم تركع.