زفزاف ومارادونا و”طْلامَطْ” إدريس الخوري وبن لادن في بارات “مرس السلطان”
عبد الرحيم التوراني
في يوم أحد من آحاد بداية الثمانينيات، صادف الثامن والعشرين من شهر شعبان. كنا ننتظر أول رمضان في الغد. جلس أغلب رواد مقاهي ساحة “مرس السلطان” صباحا إلى موائد الرصيف، ومنهم رواد “المقهى الكبير مرس السلطان”، أو حانة “مدام غيران” كما نسميها. كانوا يتسلون بقراءة الجرائد وبالدردشة، وهم يحتسون فناجين القهوة وكؤوس الشاي والمشروبات الغازية.
عند منتصف النهار ظهرت السيدة “غيران”، لاحظت صاحبة البار أن الزبائن لا يستهلكون سوى “الحلال”. سألت كبير البارمانات “جانوم”، فأجابها أن أحدا لم يطلب…! وقفت المرأة بقامتها القصيرة وسط الكونتوار، وصفقت بيديها صائحة بأعلى صوتها في الزبائن بفرنسية متغنجة أن يتقدموا.. من يرغب في الشرب فهو متاح ومباح. إذ لم تتوصل إدارة المقهى بأي قرار من السلطات الوصية يمنع تقديم الكحول للمسلمين بمناسبة دخول “سيدنا رمضان”. وأمرت النادل ابرهيم بإدخال الناس…
لا يمكن لكم تصور مشهد الهجوم الذي شنه شاربو القهوة والشاي، من كانوا قبل لحظات جالسين بهدوء برصيف المقهى. ظلت الكؤوس وزجاجات النبيذ والبيرة والكؤوس “تتطاير” حتى ساعة الإقفال. تَسَحَّر شعب مرس السلطان ليلة دخول رمضان ب”فلاغ سْبِسْيالْ” و”فْيوبَّاب”، بدل رغائف “البطبوط المدهون”.
في مساء الغد بعد الإفطار، في نفس المكان (مقهى مرس السلطان) تساءل الساخر حميد “كسيكسو”:
– الآن علينا أن نسأل “ركن المفتي” (اسم برنامج تلفزيوني قديم)، هل يجوز صوم المتسحر بالروج والبيرة؟
ثم تقمص حميد حداين، وهذا اسمه الحقيقي، عباءة فقيه وأفتى بإعادة السحور كاملا بعد خروج رمضان بدل إعادة يوم الصيام.
***
مرة في حانة بشارع باريس شاهدت مواطنا سكر وشرع في تلاوة آيات من الذكر الحكيم، والسكارى من حواليه يصغون بتخشع. قيل لي إنها عادته كلما انتشى وثمل.
وكان الكاتب محمد خير الدين، عندما كنا نسهر بشقة “ممر سوميكا” عند أحمد السنوسي، يقرأ بعض آيات القرآن التي يحفظها، مع أبيات من الشعر الجاهلي، وأحيانا يغني مقطعا من أغاني المطرب الأمازيغي الرايس بلعيد، كان صاحب “هذا المغرب” يترجم لنا ما يغنيه ويعلق:
– “الرايس بلعيد هو محمد عبد الوهاب ديال الشلوح”.
ودخلت مرة نهارا رفقة الصديق فريموس إلى ملهى “الرانش” (غيّر اسمه اليوم)، المواجه لـ”فندق باريس”، فشاهدنا مجموعة من “بنات الرانش” تقرأ عليهن واحدة من كتاب ديني من تلك الكتب الصفراء، ثم ترفع رأسها لتشرح لهن بالدارجة ما قرأته بالفصحى.
أما أحد الفقهاء من الأسماء المعروفة بتجويد القرآن في الإذاعة المغربية، فكان يتردد بين الحين والآخر على حي المعاريف، ضيفا على بيت صديق لنا من الأساتذة المدرسين. أخبرنا الصديق أن فقيه الإذاعة يأتي من الرباط ليسكر معه في السر. مطبقا الآية: (وإذا بليتم فاستتروا…). وحكى لنا صديقنا، نديم الفقيه، أن مجود القرآن من متلذذي النبيذ الخفيف “الروزي”. كما كان الأستاذ أحمد الريسوني من منظري ومؤسسي حزب العدالة والتنمية في المغرب، من يتولى اليوم رئاسة الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين خلفا للشيخ يوسف القرضاوي، من شرِّيبي نبيذ “الروزي”، كما أكد لي صديق قصراوي (من مدينة القصر الكبير)، وكانا معا صديقين قبل أن تفرقهما المشارب والسبل.
***
مع السنوات تحول الكاتب محمد زفزاف إلى ناسك، يكثر من ترديد كلمة “الله كبير”، يتكلم عن العالم الآخر، ومنشغل أكثر بمسألة الخلود.
مرة قال لي، وأنا أطلعه على موضوع طريف نشرته جريدة “انوال”، يخص أسطورة كرة القدم اللاعب الأرجنتيني دييغو مارادونا، أن مارادونا مجرد لاعب كرة فقط، أما الكُتاب (مثله) فمنذورون للخلود.
بعد سنوات من طلاقه من أم وحيدته، تزوج محمد زفزاف من امرأة عاملة بسيطة، كانت تشتغل بأحد مصانع المعاريف، جارته فاطنة، المراة الضحوك، هي التي دبرت ذلك الزواج، وكنت قريبا من الموضوع.
عبثا حاولت الزوجة الجديدة إلباس الكاتب الكبير جلبابا أبيض بمناسبة زفافهما. ولم يلبس زفزاف الجلابة التقليدية منذ مغادرته كلية الآداب، حيث تتذكر إحدى زميلاته بشعبة الفلسفة بكلية الآداب في الرباط، أن زفزاف كان يأتي أحيانا بالجلباب وتحته سروال قصير (شورط). لكن صاحب “المرأة والوردة” لم يعترض حضور مجموعة من الفقهاء جاؤوا لقراءة ما تيسر من القرآن لمباركة قرانه مع العاملة.
زرته بعد زواجه الجديد فوجدت الزوجة قد غيرت أثاث الصالة الأوروبي، بأرائك مغربية (السدادر والمخاد مع الطْلامَطْ). رغم أن زفزاف كان قد سخر من صديقه إدريس الخوري، وسماه سرًّا ب”الكاتب الطلاميطي”، عندما أخبرنا “بَّادْريس” أنه سيوفر المكافأة المالية التي حصل عليها من مساهمته في منبر عربي، لشراء “طلاميط” (أغطية أرائك تقليدية)، ولم يكن إدريس يعرف هذا اللقب الساخر الذي أطلقه عليه صاحب “الغيلم”.
كان زفزاف مدمنا، لم يفت عليه يوم لم يشرب فيه، حتى في أيام رمضان كان يشرب. ويطلب الغفران من الخالق.
وقد سألت الصديق محمد باها، عن ذكرياته مع زفزاف فحكى لي أن زفزاف أسرَّ له بسِّر طلب منه أن يظل بينهما، عندما جاءه الكاتب الكبير يوما وأخبره أنه رأى في منامه رسول الله. محمد باها المرابط، كان من قدماء عمال المطابع، اشتغل بعدة مؤسسات، منها مطبعة “الأمبريجيما” التابعة للاتحاد المغربي للشغل، ومطابع “ميثاق المغرب” لحزب التجمع الوطني للأحرار، و”مطابع الليمون” التي أنشأها الاتحاد الدستوري. لكنه بقي من المخلصين الأوفياء للزعيم عبد الله إبراهيم الأمين العام للاتحاد الوطني للقوات الشعبية. كان محمد باها يقف معنا في البار يدخن سجائر من ماركة اختفت، سجائر “المغرب”، ويشرب “كوكاكولا” أو الماء المعدني “والماس”..
سألت باها:
– إلى أين انتهى كلامك مع زفزاف حول رؤيته للرسول في منامه؟
رد علي المطبعي المتحدر من مدينة تطوان بالشمال:
– لقد هنأته. قلت له هنيئا لك برضى النبي الكريم. وقلت له إن رؤية الرسول في المنام دليل خير وبشرى لصاحبها، حسب علماء الإسلام وفقهاء السنة. وأضفت ان الرسول صلى الله عليه وسلم أكد: “من رآني في المنام فقد رآني”.
عندما ظهرت الطبعة الأولى من “الأفعى والبحر” (1979) بغلاف لصديقنا التشكيلي فؤاد بلامين، كنت أنا من تكلف بمتابعة تصحيحها والإشراف على طبعها بمطبعة صغيرة في حي “لاجيروند”، ولم أنتبه لتلافي بعض الأخطاء المطبعية، ومنها كلمة كان يجب أن تكون “المسلحون”، فطلعت الحاء ميما لتصبح “المسلمون”. انزعج زفزاف من الخطأ المطبعي، وقال لي: “الله يحفظنا من المسلمين”، وكان قصده المتطرفين من الإخوان المسلمين.
***
بعد فترة طالت لم ألتق فيها بالكاتب الكبير، ذهبت ذات ليلة أفتش عنه في فضاءات شارع ابراهيم الروداني، ولما لم أجده رحت إلى زنقة ليستلير (ابن منير حاليا)، طرقت باب شقته بالطابق الأول من عمارة مهترئة، فتح لي زفزاف مرحبا، كان عنده الصديق فؤاد ناوير، أحد تلامذته بثانوية النجد، سميت الثانوية اليوم باسم المناضلة اليسارية “فاما” (فاطمة اعزاير). ولما حاولت أن أمزح مع الكاتب الكبير انزعج، لم يتجاوب مع سخرية لاذعة “من الدرجة الثالثة”، قام وجلب مصحفا غلافه من جلد غامق، وضعه فوق رأسي وأخذ يتمتم بكلمات لم أسمع منها إلا العبارة الأخيرة، “أجوادك يشدوك” (الجن الذي يسكنك يبعدك عنا).
في السنوات الأخيرة التقيت بفؤاد ناوير وحكينا هذه الواقعة التي لا يزال هو أيضا يتذكرها. الصديق ناوير عمل فترة بالصحافة قبل أن يطلقها، وأعتقد دائما أن النقد السينمائي في المغرب ضاع فيه كأحد الأقلام الجادة.
لكن القاص والروائي صديقنا محمد الهرادي سيحكي لي قصة أخرى، لما التقينا بأحد بارات حي حسان في العاصمة (2012)، قصة كان شاهدا على تفاصيلها، وطلب منه زفزاف إبقاءها سرا بينهما.
كان الهرادي وزفزاف يتبادلان الابتسام وهما بالبار، عندما تحضر الذكرى – السر. عندما مات زفزاف أفشى الكاتب محمد الهرادي القصة في نص عنوانه “السحار”. يحكي عن ممارسة صاحب “الشجرة المقدسة” للشعوذة. وقد أتيت على هذا في كتابي “صديقي زفزاف: الغيلم والطاووس”.
ومن الأصدقاء الذين كنا نلتقي بهم في فضاءات المعاريف وفي بيت زفزاف أحد القضاة، من أبناء الحي المحمدي، كان في السابق معلما. نسيت اسمه الأول، لكن لقبه كان “كثير”، وإحدى بناته كانت من صحفيات التلفزيون.
كان كثير يأتي من مدينة سطات التي عين وكيلا للملك بمحكمتها. يحب الجلوس إلى زفزاف والشاعر أحمد الجوماري. أحيانا كان يرافقه الأستاذ الميلودي بلحديوي، ناقد أدبي باللغة الفرنسية ومترجم. لما كان القاضي ينتشي كان يتلو الآية:
” وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ”. مع الضغط على مخارج أحرف لفظة “كثير” وتكرارها.
أما بلحديوي فقد أحزنني خبر موته، ولم أعلم بنعيه إلا بعد أن رثاه صديقنا الكاتب والمترجم المصطفى الجماهيري.
***
مرة كنت بحانة “لاكونكورد” بساحة “مرس السلطان”، مع الصديق رؤوف فلاح، لما انتبهت إلى شخص غريب يقف على الكونتوار. يلبس “جاكيت عسكري مرقط”، مثل الذي يلبسه المظليون، وتحته جلباب رمادي، مع لحية كثة وشارب محفوف، ويضع طاقية فوق الرأس. لم تنقصه إلا بندقية كلاشينكوف ليكمل شبهه بأسامة بن لادن.
كان الشخص الغريب عن المكان يستعرض نفسه من خلال حركاته وصوته المرتفع. يتلفت حواليه ويردد:
– اشربوا الكاس.. كل شي دايز.. ما تدِّي معاك إلا ما اشربت وأكلت. (اشربوا الخمر، كل شيء جائز (بمعنى يمر)، لن تأخذ معك إلا ما شربتَ وأكلتَ).
لم أرتح لهذا المشهد غير المألوف في مثل هذا الفضاء، وكانت صدمة التفجيرات الإرهابية بالدار البيضاء (16 ماي 2003) لم تجف دماء ضحاياها الستة والأربعين بعد، جلهم قتلوا غدرا ببار “دار اسبانيا”.
ارتبت كثيرا في “ابن لادن مرس السلطان”، واقترحت على صديقي رؤوف مغادرة المكان فورا. هوَّن الصديق علي من الأمر بأن لا داعي للخوف.
قلت له:
– بلى علينا أن نخاف. أنا أشك في هيئة وسلوك الرجل ونظراته العدوانية.
تذكرت أن من ينسب إليهم تفجير “توين سنتر” بنيويورك (11 سبتمبر 2001)، كانوا يرتادون البارات للتمويه، ويشترون صناديق البيرة من السوبير مركيت.
وغادرنا “لاكونكورد”.
حانة “لاكونكورد” تتقابل مع حانة “مرس السلطان”، تفرقهما خطوات بشارع محمد الراشيدي. مرة، بمناسبة عيد المولد النبوي الكريم، حيث اعتادت مصالح الولاية والبلدية تعليق لافتات من القماش بشوارع المدينة، كتبت عليها آيات وأحاديث نبوية احتفاء بالمناسبة الدينية. وفي أحد الأعوام، كان من حظ ساحة “مرس السلطان”، عند الإشارة المرورية الحمراء التي تتواجه فيها الحانتان المشار إليهما، أن تم تعليق لافتة كتبت عليها الآية:
“وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين”.
لم ينتبه عمال البلدية إلى لافتة أخرى كبيرة موضوعة من قديم فوق مبنى حانة “مدام غيران” للدعاية لماركة ويسكي “جوني والكير”، وطبعا كانت صورة الرجل المشهورة بطربوشه وعصاه تتصدر اللافتة الدعائية.
“يوحنا المشاء” كما عرَّبَ اسمه الصديق الصحفي حسن عمر العلوي (فريموس)، يطل بوقاحة الكفار على لافتة دينية للبلدية!