مِيدِي1: يَرحَمُ اللهُ “كازَالْطَا”!
5 يناير 1981، بدأتُ بطَنجةَ العَملَ في إذاعة “ميدي1” الدّولية، وكان يُديرُها الفَرنسِي “بْيِير كازَالْطَا” الذي غادرَنا إلى دار البقاء.. وأَطلُبُ اللهَ له الرّحمةَ والمَغفِرة.. – ولا أفضَلَ منَ التّسامُح!
إنّ هذا المُديرَ العامّ، له إيجابيّات.. وهو مَشكُورٌ عليها.. وفي نفسِ الوَقت، له سُلُوكِيّاتٌ تَطبَعُها الصّرامةُ الإداريّةُ المُبالَغُ فيها.. وفي بعضِ الحالات، تقُودُ إلى قَساوةٍ ومُنزَلقات.. ومِن جِهَتِي، “عَفَا اللهُ عمّا سَلَف”.. أُسامِحُ كلَّ مَن أساء، ومَنِ افتَرَى.. وأَشْكُر كُلّ مَن فَعلَ خيرًا..
▪︎ وفي “إذاعةِ ميدي1″، كانت انطِلاقَتِي جيّدة.. وبإيجاز: لهذه الإذاعةِ فَضلٌ عليّ.. تعَلّمتُ فيها ما لم أتَعَلّم في غَيرِها.. وبِفضلِها انفَتَحَت لي أبوابُ المَعرفةِ العِلميّة، بتَنَوُّعاتِها.. وأدرَكتُ – أكثَر – أهَمّيةَ المُحافظةِ على السِّلمِ الاجتِماعِي، والتّعايُش، والاستِقرارِ التّنمَوي، واحتِضانِ “حُبِّ الوَطن”… كلُّ هذه وغيرُه كنزٌ ثَمِين.. قِيّمٌ قد استَوعَبتُ أهمّيتَها من أخبارِ الحُروب، والهجرة الجماعية، والتّطاحُنِ بين أبناءِ الوطنِ الواحِد، وغيرِ هذه من الإساءاتِ التي تُنبّهُنا اليومَ إلى عِشقِ أرضِنا وزَمانِنا، والتّمَسُّكِ أكثَر بحُقوقِ الإنسانيةِ جَمعاء…
▪︎ ونَبقَى في طنجة: العَمَلُ في “إذاعة ميدي1” الفَتِيّة جذّابٌ مُشجِّعٌ مُمتَاز.. وبصَراحَة، لم أَفقِدْ عِشقَ هذه المَحَطّة.. ولا أؤاخذها على ما رُبّما اقتَرَفَهُ بعضُ البَشَر، بدِرايةٍ أو سُوءِ تَقدِير.. – ولا مؤاخذة! وهذه الإذاعةُ مَكسَبٌ لبِلادِنا.. ورِعايتُها واجِبَة..
▪︎ ولا أنسَى الأجواءَ الحمِيميّةَ المُشجّعَةَ التي كانت تَسُودُ قِسمَيْ التّحرير: العرَبِي والفرَنسي.. وتِلكَ كانَت مَرحلةَ التّأسِيس.. وفرانكو”، وهو أحدُ أبناءِ المُعمّرين الفرنسيّين في ضيعاتِ “سُوس”، ويَتكلّمُ العربيةَ والدارِجَةَ والأمازيغيّة، عُيّنَ مُديرًا للتّحرِير.. يُعلّمُنا كِيفيةَ انتِقاءِ الأخبار، وكيفيةَ تنظِيمِها وإعادةِ صِياغتِها، وِفْقَ “الخَطّ التّحريرِيّ” للإذاعَة، والمُدّةِ الزّمَنيّةِ المطلُوبة..
▪︎ والتَحقَ بالإذاعةِ صَحافيٌّ فرنسيّ اسمُه “باترِيس زِيرْ”، وهذا علّمَنا كِيفيّةَ إعدادِ وتقديمِ نشراتِ الأخبار، وكذا أنواعَ النّشَرات.. ونشَأت بين الصّحافيّين المغاربة والفَرنسِيّين علاقات طيّبة.. وصِرْنا نَشتَغلُ في إطارِ “فريقِ عمَلٍ” إيجابِيّ مُتَعاوِنٍ مُتَكامِل.. وعَلاقاتُنا المُستمِرّة، هي علَى العُمُوم مفتُوحةٌ مُنفتِحة، مع كل الصّحافيين، نساء ورجالا، مغاربةً وفَرنسيين.. والمُديرُ العامّ الفرنسي “كازالطا”، كان على العُمومِ غائبا، في تِرحالاتٍ بين المَغرب وفرنسا.. وعِندَما يعُودُ إلى الإذاعةِ مِن سفَرِه الأسبُوعِي، يُحَيّي الصحافيّينَ واحدًا واحِدًا.. ونَشعُرُ أنهُ يَبنِي علاقاتٍ مُشجّعةً لاستِمراريةِ العملِ المُنتِج، في إذاعةٍ هي في تألّقٍ دَوليّ مُتَواصِل..
▪︎ ثُمّ قَدّمَ لنا المُديرُ العامُّ صحافيّا كبيرًا: Jean Robert Cherfils.. وهذا بدَأ عَمَلَه مُدِيرًا للأخبار.. إنه نمُوذجٌ للمَسؤولِ الذي لا يُغادِرُ مَكتبَهُ بقِسمِ التّحرير.. يتَتبّعُ الأخبارَ طيلةَ النّهار، يُنظّمُها بشكلٍ مُوجَزٍ في دَفترٍ كبِير.. ويحضُرُ نَدوَتَيْ التّحرير الفرنسي والعربي كلّ يومٍ في تمامِ 10 صباحا، وفي 4 بعد الزّوَال.. ويَستَقبِلُ كلَّ يومٍ أفرادًا مِن قِسمِ التّحريرِ العَربي..
▪︎ ونادَانِي إلى مَكتَبِه، وصارَ يَسألُنِي عَن الحَساسيةِ المِهنية التي قد تكُونُ ناجِمةً عن علاقاتٍ غيرِ سَوِيّةٍ مع (فُلانA) و(فُلانB) في التّحريرِ العَربِي.. هل فيهِما مَن يُزعِجُك؟ ولماذا؟ وكيف؟
واستَنتَجْتُ أنهُ يَحصُلُ من هذه اللقاءاتِ الثُّنائيّة على مَعلُوماتٍ تَخُصُّ الخِلافاتِ والصّراعاتِ بين صَحافيّين مغاربة.. وبعدَ جَلسةِ حواليْ نِصفِ ساعة، أعُودُ لاستئناف عَمَلِي.. وعَمَلِي يَقتَصرُ على إعدادِ وتقديمِ النّشراتِ الرّئيسيّة والأخبارِ المُوجَزة، وفي أوقاتٍ أخرى أُعِدُّ وأُقدّمُ برامِجَ خاصّة، وفي حالةِ وُقُوعِ حَدَثٍ خطِير، لي صَلاحِيّةُ تقديمِ “الخَبرِ العاجِل”، حتى خارجَ التّوقِيتاتِ الإخبارية..
▪︎ ومرةً أُخرى، ناداني إلى مَكتَبِه.. وسَألَنِي: “فُلانX” أَخبَرَنِي أنّ الإلقاءَ الإخبارِي العَرَبِي يَستَحِيلُ أن يكُونَ مِثلَ الإلقاءِ الفَرَنسِي.. ما رأيُك؟”.. أجبتُه: “لا أدرِي كيف تكُونُ هذه المُقارنَةُ صحيحة.. ومِنْ جِهتِي، أستطيعُ أن أقرأَ الأخبارَ العربيةَ بنَفسِ الطريقةِ الفرنسية، شرطَ أن أكُونَ كاتِبَ تلك الأخبار”..
نظرَ إليّ باستِغراب، وسألتُه: “ألاَ تتَكرّمُ عليّ بتَدريب؟ المَقصُودُ أنْ تُدَرّبَنِي على الإلقاءِ بالطريقةِ الفرنسية، حتى وأنا أُقدّمُها بالعربيّة”.. ابتسَمَ وأجاب: “نَعَم.. بكُلّ سرُور”.. وصِرتُ أدخلُ إلى “استُوديو” مُغلَق، وأُلقِي على السيد “Cherfils” أخبارِي العَربيّة، بالطريقة الفَرَنسية.. ولاحَظتُ أنّ إذاعيّين فَرنسِيّين يَقفُون إلى جانِبِهِ وراءَ الزّجاج، في القِمَطرِ الفنّي، ويُشاهِدُون ويَسمعُون معهُ إلقائِي.. وعِندَما أُكمِلُ الإلقاء، يُصحّحُ مُستَوَياتِي الإلقائيةَ الصّوتية.. وبِفَضلِه، أصبحَت لي طرِيقتِي الخاصّة في الإلقاءِ العَربي.. وأقومُ مِن جِهتِي بتَدرِيبِ مُرشّحِينَ للعَمل، وطَلَبَةٍ يأتُون منَ “المَعهد العالي للصّحافة”.. وما زال “Cherfils” – وكالعادة – إذاعيّا كبيرًا.. وفي أوقاتٍ نادِرة، يَتدَخّلُ بتعليقٍ مُباشِرٍ على أمواجِ الإذاعة، فتكُونُ هذه فرصةً للاستِمتَاعِ بصوتٍ إذاعيّ منَ الطرازِ الرّفيع..
▪︎ ولكنّ شيئًا ما قد تَغيّر.. تعامُلاتُ “المُديرِ العامّ”، تَغيّرَت بشكلٍ واضِحٍ بعد 1985.. “فاطمة التّواتِي” استَقبَلَتْنِي لتَسجِيلِ حَلقَةٍ للقناةِ التلفزيةِ الأولى في الرباط.. وكانت الأسئلةُ حولَ الخيالِ العِلمِي، كما هو في مَجمُوعتِي القَصَصيّة “غدًا”.. ولدَى عَودتِي إلى طنجة، جاءَ المُديرُ العام، وألقيتُ كلمةً أمام الصّحافيّين، نساء ورجالاً، حول هذا الكتاب.. وأحسَستُ بعدَئذٍ أنّ المُديرَ العامّ قد تَغيّر.. لقد أصبحَ شَخصًا آخَر..
وسألنِي “Cherfils” عن أداءِ (فُلانY)، هل هو في المُستَوى المَطلُوب؟ إنهُ في التّحريرِ العرَبي، وأنا – آنذاك – أقومُ بمُهمةِ “سكرتير تحرير” إداري.. أجبتُه: إنّهُ يقُومُ بعمَلِه..
وكان هذا قد زارَني بمَنزِلي، وباستِعجال، واشتَكَى لي قائلا:
“المُديرُ العام يَبحثُ عن مُبرّرٍ لطردِي مِن الإذاعة”..
وهذا أمرٌ غريب.. أنا لا أعرفُ ما يدُورُ في الخفاء: “ألا يكُونُ المُديرُ العامّ يَستَدرِجُني كي أكُونَ “دَركِيًّا” لهُ في قسمِ “التّحريرِ العَرَبي”؟ وإلاّ لماذا يَسألُني مُديرُ الأخبار عن فُلانٍ وعِلاّن؟ المُؤكّدُ حتى الآن أنّ المُديرَ العامّ قد تَغيّر.. وأنهُ يبحثُ في أمرٍ ما..
وهذه الاستِفهاماتُ قد أزعَجَتنِي، وخلقَت جوّا مُكَهرَبًا في قِسمِ التّحرير..
وبدَأت “سلسِلَةُ” الطّردِ التّعَسُّفِي.. لقد أقدَمَ المُديرُ العامّ على طُرِدِ صحافيّيْنِ حتى الآن، وها هو الثالِثُ يَنتَظرُ دَورَه.. وأنا طَلبتُ عُطلةً مَرَضيّة.. وهذهِ وَعكةٌ صحّيةٌ ألزَمَتنِي الفِراش.. وبعدَ أيّام، طرقَ البابَ مَبعُوثٌ من الإذاعة:
– “عليكَ بالقُدُومِ غدًا في ساعةِ (كذا) إلى الإذاعة، لحُضور اجتِماعٍ مُغلَقٍ للمُديرِ العامّ مع قِسمِ التحريرِ العَربي”..
هذا أمرٌ غريب.. الإذاعةُ تَدعُوني لاجتماعٍ عاجلٍ غدّا، حتى وأنا طرِيحُ الفِرَاش..
▪︎ وفي الغَد، في الساعَة المُحدّدة، كنتُ بالإذاعة.. وبَدأ الاجتِماعُ المُغلَقُ للتّحريرِ العَربي.. افتَتَحَهُ المُديرُ العامّ بكلمةٍ تَحدّثَ فيها عمّا يجبُ عَملُه لتَطويرِ مَنتُوجِنا الإذاعي.. وصار الصحافيون يتدَخّلُون واحدًا بعد الآخَر.. ووَصلَ دَوري للإدلاءِ برأيِي..
وقلتُ للمُدير “إنّنِي أقتَرِحُ ما يلِي: أنْ نَتنَاوَبَ على أيامِ الأعيادِ وعُطْلةِ نهايةِ الأسبوع.. إذا تَناوَبْنا على أيامِ العُطَل، سيكُونُ هذا مُفيدًا للإذاعة، بفَضلِ تَنوُّعِ الأصوات.. وبالنسبةِ للمُستَمِع، يَحدُثُ شُعورٌ بتنوّعِ الأفراد.. وبالنسبةِ لنا، نحن قِسمُ التّحريرِ العَرَبي، لا تكُونُ العُطَلُ نوعا من العِقاب للبَعض.. أرجُو التّناوُب”..
وبَدلَ الإجابَةِ على الاقتِراح، غَضَبَ المُديرُ العامّ، وقال:
“أنا أصنَعُ القانُونَ هُنا…”..
وكان هذا الجوابُ استِفزازًا.. ورَدَدتُ عليه: “…إنكَ تُضْجِرُنا…”..
واعتَبرَ هذه الكلمةَ سَبًّا مُوجّهًا إليه.. وقُلتُ له:
“أعتَذِرُ إذا كُنتَ قد فهِمتَ ما قُلتُه شَتمًا.. أنا لم أقصِد هذا”..
وأجابَنِي: “لا قبُولَ لاعتِذارِك.. وسَأتّخِذُ إجراءًا صارِمًا”..
■ ما معنى “أنا أَصنَعُ القانُون”؟!
ما زِلتُ إلى الآنَ أتساءل:
“هل يَستطيعُ المُديرُ العامُّ أن يُعلِنَ لِصَحافيّ في فرنسا، وحتى في جَلسةٍ مُغلَقَة، أنهُ هو يَصنَعُ القانُون؟”..
وعلى كلّ حال، وبالنّسبةِ لي، عَليَّ أنْ أَنسَى.. وعفَا اللهُ عمّا سَلَف.. وما فاتَ قد انتهَى.. والأرزَاقُ بيَدِ الله..
▪︎ وفي وقتٍ لاحِقٍ بطنجة، وأنا في الشارعِ مع ابنِي “عزيز”، رَأيتُ “كازالطا” مُتّكِئًا على عَصَا، بِبَوّابةِ مُؤسّسةٍ بَنكيّة.. فذَهبتُ إليه.. وسَلّمتُ عليه.. وقُلتُ لهُ:
– “أنا فُلان”..
أجاب:
“أعرِفُك!”..
لقد آلَمَنِي ألاّ يَمشِيّ إلاّ بعُكّاز.. وحَيّيْتُهُ من جدِيد.. وهذه من أخلاقِيّاتِ التّسامُح..
ثُمّ انصَرَفتُ لحالِ سبِيلِي..
أحمد إفزارن – كاتب وإعلامي مغربي