فاطمة المرنيسي قالت لي: “سأذهب في رحلة طويلة” ولم تعد

فاطمة المرنيسي قالت لي: “سأذهب في رحلة طويلة” ولم تعد

المصطفى اجماهري* 

 يعود أول اتصال مباشر لي بالباحثة فاطمة المرنيسي إلى صيف 1990 بمدينة الجديدة، حينما جاءت للمشاركة في ندوة “قراءات في فكر عبد الكبير الخطيبي”، التي نظمها المجلس البلدي للمدينة آنذاك، برئاسة المرحوم الدكتور الطاهر المصمودي، تكريما للمفكر المعروف عبد الكبير الخطيبي. 

كان ذلك اللقاء الأول عابرا وبسيطا، لا يعدو تبادل التحية وبعض الكلمات حول ما صرحت به، في الجلسة، من تقدير للمجلس البلدي الذي اهتم بتكريم ابن المدينة، الخطيبي.   

 ومن الصدف الجميلة أنه في نفس السنة شاركت في ورشة “الكتابة والجهة”، التي أطرها المرحوم عبد الكبير الخطيبي بمقر جمعية دكالة صحبة الروائي الفرنسي كلود أوليي. بعدها انخرطت تدريجيا في الكتابة المحلية بالاعتماد على آليات البحث الميداني ومساءلة الفعاليات المعنية، وهو ما قربني من الراحلة باعتبار تخصصها السوسيولوجي واهتمامها بهذا النوع من البحوث. 

 وبالرغم من مشاغلها الجامعية والعلمية داخل المغرب وخارجه، كانت الراحلة تتابع المجهود الذي كنت أنجزه في إطار مشروع “دفاتر الجديدة”. بل إنها اهتمت بدفاتر معينة من السلسلة، وخاصة منها ذلك المخصص للفلاحين الأجانب بدكالة، الذي قدم له الكاتب فؤاد العروي. وفي عام 2014، حين صدور كتابي “الجديدة، مصائر متقاطعة” الذي قدم له السوسيولوجي محمد الناجي، وصلتني منها رسالة، عبر البريد الإلكتروني، تستفسرني فيها عن المكتبة الرباطية التي يمكن أن تقتني منها نسختين. وهذا ما يظهر احترام الراحلة لأخلاقيات البحث العلمي من جهة، وتقديرها لمجهودات الباحثين المتطوعين، لأنها لم تطلب مني نسخة، الشيء الذي كنت سألبيه فورا، بل طلبت فقط تعريفها على المكتبة التي تبيع الكتاب لكي تقتنيه. 

 وبما أنني كنت قد خصصت ثلاثة كتب سابقة للمكونات البشرية لمدينة الجديدة خلال القرن الماضي، وهي المكون المسلم، والمكون اليهودي، والمكون المسيحي، فقد فكرت، استكمالا للصورة، في إنجاز عمل بحثي يقارب النوع. فكان إعداد كتاب حول نساء الجديدة ممن عايشن الفترة الانتقالية بين نهاية الحماية وبداية الاستقلال، هذا الموضوع جعلني أقترب أكثر من الراحلة.

 حدث التواصل الأخير بيننا حين وضعت، بمساعدة بعض العارفين، لائحة أولية للنساء اللواتي ينبغي محاورتهن، وعلى رأسها الصحفية الجديدية ثريا السراج، صديقة الراحلة. 

كانت ثريا السراج، خريجة مركز تكوين الصحفيين في باريس، اسما معروفا في الحقل الإعلامي والفني. وهي التي نوه بموقفها الشجاع خالد الجامعي حين اعتقاله سنة 1973. حيث يقول عنها في كتابه “متهم حتى تثبت براءته” الصادر بالفرنسية سنة 2003، بأن ثريا السراج من بين أصدقائه القلائل والمخلصين، التي لم تتخل عنه في محنته بالرغم من كونها، كما يقول، كانت تحت مراقبة أمنية ورئيسة مصلحة بوزارة الإعلام.

 تضمنت العينة أيضا مثقفات مرموقات مثل الباحثة الأثرية نعمة الله الخطيب، والجامعية ليلى بنعلال- المسعودي، والسفيرة حليمة امبارك الجديدي وأخريات. 

حين أطلعت الراحلة فاطمة المرنيسي على القائمة الكاملة للعينة، نصحتني بعدم الاقتصار على المتعلمات، بل إغناء القائمة باسمين أو ثلاثة لنساء نساجات أو بائعات بضائع بسيطة على الرصيف. كما عبرت لي عن استعدادها لكتابة تقديم للعمل. والأكثر من ذلك أنها اقترحت علي عنوانا له هو “شهرزادات الجديدة: نساء أبهرن العالم”، وبصيغته الفرنسية : Les Shahrazade d’El Jadida, ces femmes qui ont séduit le monde  

مرت أشهر قليلة على مكالمتنا الهاتفية وفي رابع نونبر 2015 ستصلني من الراحلة رسالة قصيرة باللغة الفرنسية على عنواني الإلكتروني، تخبرني فيها بأنها ستقوم برحلة طويلة في إطار اهتماماتها العلمية، هذا نصها:

 “العزيز اجماهري، أذكرك بأنني ذهبت في رحلة عمل طويلة أضيفت إلى مواعيدي. وعليه سأكون منشغلة طيلة نونبر. هذا وإني معجبة بعملك كمواطن يساعد النساء على الظهور”.

 Cher Jmahri, je vous rappelle que je suis partie pour un long voyage de travail qui s’est ajouté à mon agenda. Durant tout le mois de novembre je serais indisponible. J’admire votre travail comme citoyen qui aide les femmes à être visibles 

 انتظرت عودة فاطمة طيلة شهر نونبر لاطلاعها على آخر مراحل الإنجاز، لكن الخبر الصادم جاء يوم الثلاثين من نفس الشهر، لأتأكد بأنها ذهبت فعلا في “رحلة طويلة”، كما قالت هي نفسها، طويلة ولكن بدون عودة. وبذلك فقدنا باحثة قديرة من عيار نادر، نذرت نفسها للبحث العلمي بشكل كامل، وكونت أجيالا من الباحثات والباحثين الذين يواصلون حمل الرسالة.

 ولما كانت المناضلة والوزيرة نزهة الصقلي من صديقات الراحلة المرنيسي، وأيضا من مواليد الجديدة وعلى معرفة بالعينة ووسط الدراسة، فقد اقترحت عليها تقديم الكتاب وهو ما قبلته بصدر رحب. 

مرت سبع سنوات تقريبا على وفاة فاطمة المرنيسي، وأعيد الآن قراءة رسالتها القصيرة ليوم رابع نونبر 2015، فأقف متأثرا عند كلمتها لي “أنا معجبة بعملك”. أعتز كثيرا بتقديرها لعملي المتواضع، وأعتبر أن هذا الإعجاب منها أكبر من أي تكريم.

   شكرا لفاطمة، الغائبة الحاضرة.

* كاتب وناشر “دفاتر الجديدة”

Visited 1 times, 1 visit(s) today
شارك الموضوع

السؤال الآن

منصة إلكترونية مستقلة