عن الحب في زمن الحرب
فاطمة حوحو
حتى ذلك التاريخ، 13 نيسان- أبريل 1975، كنت مجرد طالبة “بريفيه” في ثانوية فخر الدين الرسمية للبنات، تحلم بمستقبل جميل. كان يوم أحد، نهار عطلة. لم أشارك صديقاتي رحلتهن إلى الأرز. في اليوم التالي، روين لي حكاية، إن البوسطة التي أقلتهن للرحلة عادت بهن من عين الرمانة. كانت الساعة الخامسة بعد الظهر حين شاهدن انقلاب حياة ذلك الحي، نتيجة دماء سالت وانتشار أمني كثيف، بعد إطلاق النار على حافلة للفلسطينيين، سبقها كما تردد محاولة اغتيال الشيخ بيار الجميل صباحا، وقد عانى السائق للخروج من طوق مسلحين بـ”فال” و”ام سكتين”، وبأقنعة سوداء، إلى المنطقة التي أصبحت فيما بعد “غربية”.
شاع الاضطراب في المدرسة، عقدت الرابطة الطلابية جمعية عمومية في قاعة المسرح، تحدثت الفتيات عما حصل ووصفنه بمحاولة لإشعال الحرب، كنا ننتظر شيئا ما يجعل حياتنا قابلة للتغيير، شيئا يشعرنا بأننا نستطيع تحقيق العدالة والمساواة بين اللبنانيين، بعيدا عن الطائفية والكراهية التي تعصف لتشعل رياح الخوف من الآخر. لم أكن أفهم خلفية الخلاف بين اللبنانيين حول “اتفاق القاهرة”، كنت بالفطرة منحازة لصورة “الفدائي” الذي يقاتل للعودة إلى وطنه المسلوب.
هكذا وجدت نفسي في خضم الحدث الذي قلب حياتي، وعبأ في داخلي تلك الفراغات المملة، ومسح كسل الساعات، فباتت السياسة تحشر أنفها في عقلي. كنت أنسحب تدريجيا من ساحة الاهتمام بالعلم إلى ساحة الواقع الذي فرض نفسه، فتخليت عن قراءة الروايات العاطفية والقصص ومراجعة الدروس، لصالح قراءة الصحف والمجلات السياسية ومتابعة نشرات الأخبار والاستماع إلى الراديو، عن “طريق سالكة وآمنة” وقذيفة وقعت هنا أو هناك، أو قنص على شارع، أو ارتفاع حاجز ترابي في هذا الزاروب أو ذاك، والأهم انتشار حاجز مسلح، وعمليات خطف على الهوية في وسط العاصمة، لكن ما كان مرعبا أن رغيف الخبز كان يمتزج بدماء من يسعون إليه فجرا، في الأحياء التي تقع عند خطوط تماس جعلت الوطن وطنَيْن، والتي كانت تتوسع يوما بعد يوم وتقسم حدود بيروت وضواحيها، ولاحقا مناطق أخرى.
تعرفت على أبعاد شخصيات لم تكن صورها تغيب عن الشاشة الصغيرة، ولم تكن تعني لي شيئا. لكنها تصنع الأحداث المتواترة، ما كنت أفهمه من السياسة فقط أن أهل أمي “جُنبلاطيون”، وأهل أبي “شمعونيون”. اختلف اليوم، صرت أتابع تصريحات ومواقف سليمان فرنجية، ورشيد الصلح، وكمال جنبلاط، وياسر عرفات، وكميل شمعون، وبيار الجميل.. وغيرهم من صناع الحدث والموقف.
انقطعتُ عن سماع الأغنيات الفرنسية التي كنت أحبها وتنقلني إلى خيالات حب موعود، لصالح أغنيات أسموها “ثورية”، كان يطلقها فنانون غير معروفين، وكان للكلمات فعل سحر في نفوسنا نحن مراهقي الحرب، الحالمون بالجديد، كانت صور الشهداء في حيّنا الواقع عند خطوط التماس في منطقة “رأس النبع” الجميلة، تزداد انتشارا مع رعب ينشره القناصة، صور فتيان يرتدون بيريه غيفارا ويلفون أعناقهم بالكوفية، ويربطون رؤوسهم بشارات حمراء، كانت ملامح وجوههم برئية كما موتهم، الذي سمي شهادة وطاب للكثيرين.
انتقلت صور بعض هؤلاء من الشهداء إلى داخل غرفتي، استبدلت صور عبد الحليم ونجوم السينما العالمية ومغنين أجانب ومقتطفات من أشعار الحب لنزار قباني والثورة لمحمود درويش، وصورة ما زلت أذكرها لشاب يقدم زهرة لفتاة ماخوذة من مجلة “المدار” السوفياتية، التي كان يحضرها أخي من المركز الثقافي الروسي، تحقيق عن الأسباب التي تدفع شباب الاتحاد السوفياتي للزواج، والجواب كان: “جميعا أجابوا: الحب” وأنا أردت تصديق ذلك. لربما كان الحب هو ما جعلني أنحاز إلى فئة ما سمي بـ”الوطنيين” ضد “الانعزاليين”، وأرسم وطنا في خيالي وأحاول أن أساهم في صنعه على الأرض، قبل أن أكتشف خيبات خيارات كانت أكبر منا ومنهم.
ارتدى حيُّنا شيئا فشيئا حلة الحرب، متاريس رملية وأزقة تغلقها سواتر “الإترنيت” والأقمشة المدلاة بعرض الشارع بين بنايتين للحماية، وإشارات “هنا مقطوع” و”انتبه قناص”.
المدراس صارت ملك الأحزاب السياسية، واللجان الشعبية تصبح بديلا للدولة، ومستوصفات تنتشر لتعالج المقاتلين و”الصامدين”، الذين رفضوا ترك منازلهم فارغة وإن دمرت فوق رؤوسهم.
اختفت أصوات بائعي عربات الخضار، وارتفعت أصوات الرصاص وانفجارات قذائف الهاون، التي بدأت بقياس 60 حتى وصلت إلى 160، وصراخ الجرحى، وكم من جثة بقيت في الشارع أياما بسبب القنص، قبل أن يتم سحبها.
تغير درب منزلنا، صرنا ندخل إليه متسللين من فجوات فتحت في جدران بنايات وأزقة للوصول سالمين، نقضي ليالي خوف، نحتمي في زوايا غرفة محاطة بغرف أو في المدخل، وأحيانا في الحمام الصغير إن لم يكن من بد، اتقاء من القصف العشوائي القاتل والمدمر.
لم نعد نشعر بغربة عن جيراننا، كنا نسكن في حي متعدد الانتماءات السياسية والطائفية، وكنا نعمل معا على زيادة إمكانيات الصمود، صرنا جسما واحدا، نتعاون لتأمين حاجيات العيش، ونتبادل المواد الغذائية التي كانت تفقد أحيانا، لم نكن نعرف ماذا يدور في الجهة المواجهة، هل كانت حياتهم اليومية تتحول إلى جهنم كما هنا، كانت أعداد المهجرين تكثر، في المنطقة القريبة يتجمع المهجرون، يفترشون الطرق في ساحة “البربير”، وتفتح المزيد من الشقق على يد المسلحين ليتم إيواء هؤلاء، أو تأتي تنظيمات لتنقلهم إلى أماكن أخرى، مثل احياء “الحمرا” أو “الروشة”، أو “طريق الجديدة”.
بدأت الدراسة تتعطل، مع “سالكة وآمنة” صارت الحرب كابوسا ووحشا يأكل الأحلام ويلتهم الذكريات الحلوة، في وطن يحترق ويحرق معه “لوثة” الأمل بالتغيير. كنت فتاة مراهقة، أستمع إلى موسيقى الأوكارديون التي يعزفها ابن الجيران ليعطيني الإشارة إلى أنه ذاهب إلى النادي، وأنا كنت أعرف أن هناك نشاطا ما سيحصل وعلي الحضور.
لم تكن نخب النادي لتنظر إلى دور الفتيات في الحرب بشكل مختلف عن النظرة الاجتماعية التقليدية لهن، فوضعتهن الأحزاب في المطبخ ليطبخن للمقاتلين. أنا التي لا تفقه شيئا من هذا الأمر والمتمردة على دور الكنس والجلي والكي، والتي تفتعل ألف مشكلة في البيت حتى لا تقوم بأي من هذه المهام، فوجئت بمظهر نساء متعلمات متخرجات من الجامعات وأستاذات يقبلن هذا الدور تحت عنوان “النضال”، الذي نقلهن من مطبخ البيت إلى مطبخ الحزب، مع أن بعضهن كن يتعامل بفظاظة ظاهرة مع الشبان لإثبات الذات. ومع الوقت تطورت مهامهن إلى مساعدات اجتماعيات وفي التمريض، ومن ثم إلى الحراسة، وأحيانا القتال الشرس، كما هي حال “أبو الجماجم” و”أبو الرعب” و”ستالين” الخ…
لم أكن اميل لصورة المرأة التقليدية، ولا إلى تلك المحاربة. كنت أبحث عن ذات مختلفة. وقد عشت هذا التحدي طوال الوقت، حاولت بناء الذات بقوة الداخل. كنت أبحث عن الحقيقة الشفافة، بعيدا عن البروباغندا الظاهرة، طبعا الخيبات كبيرة، لكن أيضا التجربة مهمة تعيد ترميم العقل وتجدد الأفكار، وهو أمر نادر في ظل استلاب الأحزاب لعقول الشباب لشحن حربهم بوقود قابلة للاشتعال في كل جولة قتال. لم أدع عقلي يستسلم أو يفرغ من الأسئلة أو التشكيك بالمسلمات، لكن الأجوبة الجاهزة كانت تتكرر وأنا لا أبالي بالكلام “المقدس”.
كانت الحرب تطحن المنازل والأرواح، والنساء يخترعن وسائل الصمود العائلي في منازلهن، أو في أماكن التهجير، يبتكرن مقومات البقاء في أرض تحترق، وكانت هناك نساء يدعين إلى اللاعنف ويعجن أرغفة الخبز والسلام رغم ينابيع الدماء، يحاولن أن يخترقن المتاريس ويهدئن النفوس الهائمة التي لا تعرف استقرارا في السماء قبل أن تجد جثثها ملجأ لها في التراب.
كانت الحرب، وكان هناك من يطمح إلى استعمال أحلامنا للوصول إلى سلطة القرار، ويتصرف كسلطان يمتلك شبابنا ويتاجر بأحلامنا وقوتنا، ويقضي على طموحنا الذاتي، لذلك قالوا عنا إننا كنا وقودا للحرب الأهلية التي دارت على مدى 15 عاما وقضت على كل شيء.
نحن أبناء ذلك الجيل تمردنا عليهم أيضا ولكن… كان ما دفعناه في الحرب أكبر بكثير مما كسبناه في السلم الذي يتوعدنا البعض بأنه لن يدوم، فسلاحه جاهز ويده على الزناد. اليوم بعد مرور 47 عاما على الحرب تنتابني مشاعر الشفقة على هؤلاء الذين قادوا الحرب، وها هم يشيخون ويعيشون في عزلة وأحلامهم لا ترى الشمس، فيما أملنا لا يغفو.