خلفيات الصراع في أوكرانيا.. هل من حل؟
د. زياد منصور
تواصل السلطات الأوكرانية سياستها المتمثلة في إنشاء دولة ذات القومية الأحادية من خلال فرض “الأكرنة” القسرية ومراجعة التاريخ. هذا على الرغم من حقيقة أن مثل هذه السياسة قد أثارت بالفعل الصراع في دونباس وفاقمت من نمو التوجهات الانفصالية في غرب البلاد.
وفيما تقف الأطراف المنخرطة في الصراع في حالة تأهب واستعداد لاحتمال ذهابه إلى مرحلة الغزو الروسي لأوكرانيا، حيث نجد هناك من يعمل على تأجيج مكامن هذا الصراع ويبدي رغبة شديدة في حصوله لغايات واهداف مختلفة، ولذلك لعلنا وأمام كل هذه المشهدية نرى كيف يتصارع المراقبون، حيث يحاول كل منهم وفقاً لرغباته واهوائه إبراز كل طرف باعتباره ضحية.
فتارة يعتبر البعض أوكرانيا ضحية ذئب متوحش يحاول ابتلاعها، وتارة أخرى نرى هناك من يؤكد أن من حق روسيا الدفاع عن مصالحها خاصة وأن التهديد المباشر بات يطرق أبوابها، ولا مجال أمامها إلا الدفاع عن مصالحها، كما تدافع أية دولة أخرى عن هذه المصالح. لن نستفيض في ابراز هذه التصورات وابعادها، إلا ان اللافت تماماً أن الغالبية التي يتفتق ذهنها عن منطق غريب، تبدو غير مطّلعة عن جملة من الحقائق التاريخية حول خلفيات الصراع، وحول بروز ما يمكن أن نسميه محاولة روسيا “روسنة” جزء من أوكرانيا، ومحاولة أوكرانيا “أكرنة” هذا الجزء الهام والاستراتيجي في الدون باسولو غانسكودونيتسك دون شك فإن طبيعة الفكرة الوطنية الأوكرانية لها أصلها وهي فكرة راديكالية، وتطبيقها ضمن النسق الذي تسعى إليه السلطات الأوكرانية سيكون له تبعاته، وبالتالي فإنَّ فهم جوهر هذه الفكرة ستُظهر لنا الكثير مما يخبئه مستقبل العلاقات الروسية الأوكرانية. ودون العودة إلى العمق التاريخي لهذه العلاقات، فإن تشكل هذه الفكرة كانت نتاج ذاكرة الحرب الوطنية العظمى، والتي كانت لها ارهاصاتها بالتحديد في أوكرانيا، حيث لم تستطع السلطات التغلب على الانقسام في المجتمع، ومكافحة مدى خطورة الأشكال الراديكالية للقومية الأوكرانية على روسيا.
في أوكرانيا، بالطبع، هناك صراع حاد حول مسألة الذاكرة التاريخية. إذ ليسفي هذا الصراع مسار أو بعد واحد، بل هناك الكثير من المسارات. هناك، على سبيل المثال، صراع داخل المعسكر الأوكراني بالكامل. ففي أوكرانيا هناك ثلاث مجموعات كبيرة من الناس تتناطح وتختلف رؤاها. عندما حصلت البلاد على الاستقلال لأول مرة (1991)، كانت الاختلافات بين هذه المجموعات او الأثنيات ملحوظة بشكل حاد، على الرغم من أن تأثيراتها في الجيل الأصغر سنا، ربما، خفّت قليلا. تتكون المجموعة الأولى،نسبيا، من الأوكرانيين الذين يتحدثون الأوكرانية، ويتركزون بشكل رئيسي في غرب البلاد ويعتنقون رواية عرقية بحتة. هم يعرفون من هو” الغريب “أو حتى” العدو ” بالنسبة لهم. ومن المؤكد أن من بين ” الأعداء “الروس.
وهناك أيضاً الأوكرانيين ثنائيي اللغة أو الناطقين بالروسية والأوكرانية، الذين يعيشون في الغالب في وسط وشرق وجنوب البلاد. فلم يكن الروس “غرباء” على الإطلاق بل وأكثر من ذلك “أعداء”. وبالطبع، يعيش الروس أنفسهم في أوكرانيا،ويوحدهم مع الأوكرانيين الناطقين بالروسية فكرة أنهم قاتلوا سوية في الحرب الوطنية العظمى (الحرب العالمية الثانية).
في الوقت نفسه، يعتقد الأشخاص الذين يعتنقون رواية تاريخية مختلفة أنهم كانوا يقاتلون على الجانب الأصح عندما قاتلوا مع هتلر ضد الجيش السوفييتي. هؤلاء يعتقدون أنهم قاتلوا ليس من أجل هتلر والنازية، ولا يعتبرون الاحتلال الألماني احتلالا، ولكنهم كانوا يقاتلون من أجل أوكرانيا المستقلة. أما مسألة ما يستحق أن يبقى في مخزون الذاكرة الشعبية،وما يجب أن يُمسح من هذه الذاكرة، فلكل طرف رؤيته التاريخية وتبريراته. يمكن وصف التاريخ السياسي لأوكرانيا في مرحلة ما بعد الاتحاد السوفيتي، بأنه انتقال للسلطة من مجموعة أوليغارشيةإلى أخرى. حتى وقت قريب، لم تكن هناك حكومة في البلاد تمثل في وقت واحد غرب وشرق البلاد. تبعاً لذلك، تغيرت السياسة بشأن الذاكرة الوطنية دائما مع تغيير السلطة.
وفي عام 2014، قرر المنتصرون في الانتخابات أنه يجب عليهم التصرف وفقا لمنطق الأمر الواقع. أي أنهم لم يعودوا يبحثون عن أي حل وسط مع ذاكرة بديلة أخرى. لقد فرضوا ببساطة نموذجهم الخاص، في مكان ما -حتىباستخدام الأساليب العنفية. فقد اعتبر مثلا إن تفكيك اللوحة التذكارية الأخيرة لمارشال الاتحاد السوفييتي جيورجيجوكوف في أوديسا هو، كما يقال، آخر أصداء حملتهم المكثفة للغاية، والتي كانت نشطة منذ عام 2014. تبين أن طبقة كبيرة جدا من التراث التاريخي باتت غير ضرورية، بل غريبة على أولئك الذين حكموا أوكرانيا بعد عام 2014، ودمروها عمدا.
وهناك طبقة أخرى، على العكس من ذلك، تعتبر هذا التراث قيمة بالنسبة لهم. يمكننا أن ننظر إلى 2014-2017 وما بعدها، عندما تم تدمير عدة مئات من تماثيل لينين وغيرها من المعالم الأثرية للنظام الشيوعي. في نفس الوقت مقابل هذا التدمير وهذه الإزالة، ظهر نفس العدد من الآثار لأبطال (جيش المتمردين الأوكراني، المحظور في روسيا).
إذن نلاحظ هنا محاولة تدمير قِيَم تعني الكثير لمجموعة، فيما تعتبرها الأخرى خطلاً تاريخياً، وهذا يرافق في العادة تغييرالنظام السياسي وتغيير الأفكار حول من نحن، ولماذا نحن، ومن أين نحن وإلى أين نحن ذاهبون. انطلاقاً مما تقدم يبدو أن هذا يولِّد وولد وضعانفسياصعبا للغاية. فالمجتمع الأوكراني اليوم في أزمة نفسية عميقة. ليس فقط بسبب سياسة الذاكرة هذه — بل لجملة من الأسباب، ولكن هذه الأزمة واضحة تماما. وهي أزمة هوية وانتماء.
لقد دفع سكان أوكرانيا الكثير في محاولة بناء أمّة. لقد فقدوا شبه جزيرة القرم،ولديهم صراع خطير للغاية في شرق البلاد وليس هذا فقط، فمستوى الكراهية تجاه بعضهم البعض قوي جدا. ويرتبط كل هذا على وجه التحديد مع محاولة الحكام الجدد إملاء شروطهم. فلديهم منطق مختلف: من الجيد بالنسبة لهم أن أوكرانيا فقدت شبه جزيرة القرم وفقدت مؤقتا جزءا من دونباس. “إنه لأمر جيد بمعنى أنه في هذه الحالة يتحول مركز الثقل السياسي إلى الغرب بدل الشرق”.
إذا نظرنا إلى نتائج التصويت في سنوات مختلفة في أوكرانيا، فسوف نرى أن الغرب هو المنتصر، لكن بطريقة أو بأخرى، هذا بلد تقاتل فيه نهجان، وهويتان، وتوجهان مع بعضهما البعض وبنسب متفاوتة. فبعد التخلص من أكثر من مليوني صوت في القرم وأربعة ملايين صوت من الدونباس، يمكن أن تتجه البلاد في اتجاه واحد.
لا شك أنَّ الأسطورة التاريخية حاضرة دائمًا بطريقة أو بأخرى. وهي موجودة بالتأكيد في الدول الفتية. السؤال هو ما إذا كانت أوكرانيا قد فقدت ما يكفي من الأراضي والشعب لبناء دولة قومية. حتى الان لم تصبح أوكرانيا متجانسة ثقافيًا ولغويًا لدرجة أن سياسات الذاكرة الحالية يمكن أن تؤدي إلى النجاح. فعندما تتحدث السلطات عن تنازلات للغات الاتحاد الأوروبي، فهذه عملية احتيال ومحاولة لاقتراح معيار يمكن بموجبه التعامل مع اللغة الروسية بقسوة أكبر من اللغة الهنغارية على سبيل المثال.
لكن هذه الخدع ليست كافية: هنغاريا تمنع أي تحرك للناتو للتعاون مع أوكرانيا حتى يتم تغيير القوانين المتعلقة باللغة. في الواقع، فإن محاولة بناء دولة قومية هو امر مدمر لأوكرانيا، فهي بالفعل تدمر البلاد إلى حد كبير وستستمر في تدميرها. يبدو أن الاستخدام السياسي للماضي لا يزال عنصرا مساعدا. أولا، يتم اتخاذ قرار سياسي، ثم يحاولون تنفيذه، بما في ذلك التعامل مع الماضي. من الواضح أن كلا من كييف ودونباس قد اتخذا بالفعل خطوات كافية في هذا المجال في اتجاهات مختلفة، مما يجعل من الصعب التغلب على التناقضات القائمة. لكن هذا ليس هو الشيء الرئيسي لحل الصراع. إذا كانت هناك إرادة سياسية، فستكون هناك أغاني أخرى وروايات أخرى، فعلى سبيل المثال هناك جبال من الجثث بين الألمان والروس، لكنهم تصالحوا.
وفقا لذلك، فالتصالح بين شرق وغرب أوكرانيا ممكن إلى درجة بعيدة، إلا إذا لم تدرك السلطات الأوكرانية مخاطر الانزلاق إلى توتير الوضاع وتسعير الذاكرة التاريخية المليئة بالكثير من الروايات المتناقضة.
ماذا عن البعد الديني والحضاري للصراع؟ يمر أحد خطوط التصدع بين الحضارات عبر أراضي أوكرانيا، أي على طول الحدود بين غرب أوكرانيا ووسط شرق أوكرانيا. ويرجع ذلك إلى حقيقة أن أراضي غرب أوكرانيا أصبحت جزءا من الاتحاد السوفياتي فقط في عام 1939، وقبل ذلك كانت جزءا من بولندا والنمسا والمجر لفترة طويلة.
علاوة على ذلك، تمكنت بولندا على مدى هذه القرون من زرع منظومتها وفلسفتها الخاصة هنا، والأهم من ذلك الديانة الكاثوليكية. ينتشر الإيمان الكاثوليكي اليوناني بشكل خاص على أراضي ثلاث مناطق: إيفانوفرانكيفسك،ترنوبل ولفيف، التي تشكل غاليسيا. لقرون عديدة من الحكم البولندي، عندما كان الأوكرانيون يُعتبرون أشخاصا من الدرجة الثانية، كان استخدام اللغة الأوكرانية، والحصول على التعليم، والعمل المرموق محدودا،ما أدى إلى تكوين عقدة النقص والذهنية الخاصة بين سكان غاليسيا، عندما كان ينظر إلى أي وافد جديد على أنه غريب وعدو. حدث ذلك بعد ضم غرب أوكرانيا إلى الاتحاد السوفيتي (1939)، وعمل القمع ضد بعض ممثلي السكان المحليين في صب الزيت على النار. نتيجة لذلك، تم تشكيل حالة رفض لأسلوب الحياة السوفيتي، وظهور مقاومة أساسية لجميع الإصلاحات الجارية.
كل هذا أدى إلى تشكيل على أراضي غرب أوكرانيا، وفي المقام الأول في غاليسيا، تشكيلات مسلحة وهي (منظمة القوميين الأوكران، وجيش المتمردينالأوكران) (OUN-UPA) وفرقة الأس أس “SS “Galicia”، وكتائب (SS) التي قاتلت خلال الحرب الوطنية العظمى ضد الجيش الأحمر. في سنوات ما بعد الحرب، على الرغم من حقيقة أن اللغة الأوكرانية لم تتعرض للاضطهاد في أي مكان، كان إنتاج الأدب باللغة الأوكرانية ضخمًا، وحصل السكان على أحدث تعليم، وكان بإمكانهم شغل أي مناصب، واحتفظ جزء من السكان موقف سلبي تجاه الروس وسكان جنوب شرق أوكرانيا. ويرجع ذلك إلى حقيقة أن العديد من السكان الأصليين في هذه المنطقة، بطريقة أو بأخرى، عانوا أثناء الحرب، أو بعدها، من المشاركة في تشكيلات(UPA)، أو وحدات(SS) الألمانية، وانتقلت الكراهية “للموسكوبيين” من الجيل الأكبر سنًا إلى الجيل الأصغر. مع نيل الاستقلال في عام 1991، كل هذا الحقد والعداء المخفي ظهر إلى السطح، فحدث انقسام واضح بشكل خاص بين المنطقتين خلال حكم يوشينكو، عندما اكتسب الخطاب المعادي لروسيا طابع سياسة الدولة. بدأ أبطال غرب أوكرانيا س. بانديرا و ر. شوخيفيتش بفرض أنفسهم على جميع سكان البلاد. تلقت الكنيسة الكاثوليكية اليونانية الرعاية في أعلى المناصب، وتم نقل مقر إقامتها من لفيف إلى كييف، بهدف آخر يكمن في زيادة نفوذها في المناطق الشرقية. وهكذا، فإن الصراع القائم بين الحضارات، الذي يمثل فيه سكان غاليسيا الحضارة الغربية، وسكان بقية أوكرانيا الأرثوذوكس السلافيين، وصل إلى توترهائل.
مع انتخاب الرئيس يانوكوفيتش، الذي كان مرشحا من الجزء الأرثوذكسي السلافي من السكان، تفاقم الصراع. بالإضافة إلى ذلك، فقد أصبح يغذيها السياسيون الذين فقدوا السلطة وحلموابعودتها، في المقام الأول يوليا تيموشينكو وعدد من شركائها من المعسكر القومي.
في هذا الصدد، يتم سماع الأصوات بشكل متزايد في غرب أوكرانيا حول الحاجة إلى هيكل فيدرالي لأوكرانيا مع منح الحكم الذاتي لغاليسيا.
من غير المحتمل أن ينظر سكان هذه المنطقة بشكل إيجابي إلى السياسة التي يتبعها الرئيس الجديدزيلينسكيوالحكومة في المستقبل. بشكل عام، سكان غاليسيا هم أناس عاديون،ومعظمهم لائقون تماما، لديهم فقط عقلية مختلفة وقيم حياة مختلفة.
باختصار، يمكن التعبير عن أيديولوجية سكان غرب أوكرانيا في كلمات النشيد الوطني لأوكرانيا والتي تقول:
“لم تمت بعد اوكرانيا ولا مجدها ولا حريتها هذا نحن الاخوة الاوكران، سيبتسم لنا القدر سيفنى أعدائنا مثل الندى في الشمس وسنحكم كإخوة في ارضنا”.