البروباغاندا الروسية ضد أوكرانيا أو الحرب الناعمة (2-2)
د. خالد العزي
إن تعريف الحرب النفسية ومقاربتها مقاربة علمية، هو أمر شائك، وبالغ التعقيد. فهناك من رأى أنها “الحرب التي تستخدم في الدعاية من أجل التأثير على أشخاص بين أوساط العدو”، وثمة من اعتبرها “عمليات تستخدم فيها وسائل الإقناع على نحو غير عنفي، لتحقيق أهداف الحرب العسكرية”، وثمة من وصفها بـ “العمليات العدائية” وهدفها تحقيق الغايات المطلوبة عسكرياً في زمن السلم. في حين هناك من قال بأنها “عملية منظمة شاملة، يُستخدم فيها من الأدوات والوسائل ما يؤثر على عقول ونفوس واتجاهات الخصم”.
مميزات صنّاع الحرب النفسية
حدد “بول لينبرغر” مميزات صانع الحرب النفسية: باطلاع جيد على مختلف الفنون العسكرية وتقنيات العمليات الحربية، وعلى سياسة الحكومة وخططها وأهدافها. واطلاع نظري ومهني على مختلف وسائل الاعلام وتقنياتها الحديثة وعلى نظريات العلوم الحديثة، خاصة المتعلقة بعلم النفس الحديث وتجاربه، وعلوم السياسة والتاريخ والاجتماع والبيئة والأعراف والرأي العام والدعاية وما يتفرع عنها، واطلاع دقيق على العادات الاجتماعية، ونمط التفكير والسلوك.
نظرية الرصاصة السحرية
تعمل روسيا حاليا على نظرية الرصاص السحري كما سائر الدول، ومنهم من يطلق عليها (نظرية الرصاصة، الطلقة السحرية، الحقنة أو الإبرة تحت الجلد والطلقة السحرية) بمعنى أن الرسالة الإعلامية قوية جدا في تأثيرها وقد شبهت بالطلقة النارية التي لا تخطئ الهدف. والسوفيات سابقا والروس حاليا يعلمون بأن العملية الاتصالية من خلال الرسائل التي هي رصاصات سحرية تصل فورا إلى عقول المتلقين. وتعني هذه النظرية أن الفرد يتأثر بمضمون الوسيلة الإعلامية مباشرة، فوسائل الإعـلام لها تأثير قوي على الفـرد والمجتمع يكاد يبلغ حد الهيمنة، وهو قوي وفعَّال مثل الرصاصة، ولا يفلت منه أحد.
وقد ظهرت هذه النظرية في مطلع القرن 20 بعد أن عرف علم النفس عدة كشوف عملاقة بخصوص الشخصية السوية، تمثلت أهمها في نظرية التعلم التي توصل إليها كل من واطسون الأمريكي وبافلوف الروسي، أي إمكانية تهذيب وتدريب النفس وترويضها. من هنا بدأت عملية إشراك جميع طاقات الشعب وثرواته وإمكاناته في الحرب كوسائل للإعلام الجماهيري، كونها الطريقة الوحيدة لتوجيه الرسائل في الحرب. وقد ظهرت نظرية القذيفة أو الطلقة السحرية لتعبر عن هذا التأثير على الجمهور الذي يتعرض لها.
من هنا نستنتج شروط نجاح هذه النظرية، إذ تفترض أن يتحكم المرسل بكل شيء في العملية الاتصالية، أما استقبال الرسالة فهي تجربة فردية وليست تجربة جماعية، فالرسالة تصل إلى كل فرد بشكل مستقل وهو منعزل عن الأخرين. وهي تفترض أن الرسالة تصل إلى أفراد المجتمع بطريقة متشابهة، وأن المتلقي يستجيب دائما بشكل قوي لها، كما يتلقى الأفراد المعلومات من وسائل الإعلام مباشرة دون وجود وسائط.
الدعاية الروسية الموجهة بشكل عام وتعامله مع الأزمة الأوكرانية بشكل خاص ومع دور الناتو العدائي لروسيا الذي يهدد الأمن القومي الروسي، تستخدم نظرية “سكب الرصاص” الذي يعني الضخ الكمي من المعلومات للجمهور والتي تسبب حالة من الفوضى والتشويش في معرفة واضحة للمعلومة التي يراد ترويجها. وتقوم هذه الحرب على الدعاية والدعاية المضادة، وتتبنى استراتيجية التأثير لتغيير السلوك ونمط التفكير، وغايتها إجهاد العدو وتفكيك عناصر وحدته بتغييرات نفسية وتقوم أدواتها على عناصر جديدة غير القوة العسكرية لكي تجنبه أهوال التدخل المباشر والروح العدائية التي تقابل بها قواته الغازية. وأبرز أسلوبها حروب الجيل الرابع، بإستخدام نظرية، قوامها تكسير النظام بالفوضى وخلق نظام جديد يخرج من رحم تلك الفوضى.
مؤدى هذه العملية تأمين انسياق الجماهير وتبعيتها المطلقة بدعاية الاستقطاب أحيانا ودعاية التدمير أحيانا أخرى، بحيث تصنف الجماهير مجرد أرقام. وهذا ما كانت وسائل الاعلام الروسية تركز عليه في حربها النفسية للتأثير على الجمهور الداخلي الروسي ودب الخوف في الجمهور الأوكراني والغربي.
يقوم تصنيف عمل وسائل الاعلام بحسب العاطفة والجذب باللعب على الغرائز والعاطفة والإثارة، فمنها من يجذبه الخوف، ومنها من تجذبه صورة الشجاعة، ومنها من تستفزه صور الحرمان، ومنها من تجذبه مظاهر الثراء والقوة، ومن ثم تنهال المعلومات والأخبار والصور والوشايات التي تخاطب عاطفته ومشاعره، بفعل تلك الهندسة الغرائزية لكي يقع في حضنها أسيرا لا يمكن أن يفك طلاسمها أو يسبح في بحر أمواجها.
إن فلسفة حروب الجيل الرابع تقوم على تحقيق الانتصار في المعارك ليس هو النجاح التام في المعارك التي تخوضها، من هنا شهدنا تركيز الاعلام الروسي على الانتصارات التي حققتها روسيا في استعادة قوتها حيث نشرت مديرة تحرير محطة “روسيا اليوم” مارغاريتا سيمونيان، بلغاتها الاربعة والتابعة والممولة من الكرملين، باستعادة المانيا 2008 واستعادة أوسيتيا وأبخازيا من جورجيا بقوة السلاح في أولمبياد 2014 وإستعادة جزيرة القرم من أوكرانيا بدون قتال في أولمبياد 2022؟؟؟
ثلاثة علامات استفهام هنا المقصود بهم استعادة لوغانسك ودونيتسك من أوكرانيا حتى لو بقوة السلاح، قبل اعلان بوتين ب 21 شباط الحالي عن ضمهما الى روسيا الاتحادية، مما يعني بأن التوجهات الإعلامية الروسية كانت تشير الى هذا السيناريو دون توسيع بيكار المعارك، فالنجاح التام هو أن تكسر مقاومة العدو من دون أن تخوض قتالا.
الحرب بنظر “فون كلاوزفيتز “استمرارا للسياسة بوسائل أخرى”، لكن حال الحروب اليوم في تغير دائم، فإذا كانت حرب الجيل الأول تعتمد على قوة الرجل وما يحمله من عدة وعتاد، وحرب الجيل الثاني تعتمد على قوة الحديد والنار لإحكام القبضة، فإن حرب الجيل الثالث قامت على حصار القوة العسكرية ذاتها من أجل عزلها ومحاصرتها، بحيث تشترك حروب الأجيال الثلاثة في كونها تريد تدمير قوة الخصم، وفرض الهزيمة عليه بتجريده من قوته العسكرية واحتلال الأرض وتكبيده الخسائر.
لكن حروب الجيل الرابع تستخدم النظرية الفوضوية لتأمين إنسياق الجماهير وتبعيتها المطلقة وذلك بدعاية الاستقطاب أحيانا ودعاية التدمير أحيانا أخرى، بحيث تصنف الجماهير كأرقام باللعب على الغرائز والعاطفة والإثارة، من هنا نرى ان الاعلام الروسي ارتكز الى بيئة الجماهير الموالية في أغلبها للدولة الروسية التي تتبنى أطروحاته بشأن الصراع مع اوكرانيا والدفاع عنها، أو على الأقل الامتناع عن معارضتها بشكل واضح حيث أظهرت تغطية الشأن الاوكراني في الإعلام الروسي بأن السياسات الروسية نادرا ما يتم نقدها، حتى في اجتماع مجلس الأمن القومي الروسي في 21 شباط الحالي حيث أظهر الولاء للرئيس قبل الولاء للدولة والمصالح الوطنية. لقد أثمرت الدعاية السياسية الروسية في الداخل أفواجاً من الجنود يحملون توجهات واضحة بموالاة النظام الروسي ويدافعون عنه وجنود يقاتلون في الخنادق حتى آخر طلقة. وصنعت دعاية غوبلز منهم جنوداً من لحم ودم، ولكن بعزيمة الفولاذ، وبعيداً عن النظرية السياسية والمشروع الجيوبوليتيكي الذي يخدموه، لمصلحة التقديس للشخص او للقيصر الجديد. فإن الدعاية الروسية المضادة تستمر لتضخم الانتصار بعد ضم الدونباس، وتكسبه أبعاداً لم يعرفها خلال المعركة، وتضيف إلى الخاسر موبقات أكبر من التي فعلها.
لا يختلف اثنان اليوم بعد 22 عاماً من حكم “البوتينية” لروسيا الاتحادية على أن هذا النهج أعاد للدولة بريقها، وجزءاً من موقعها العالمي السابق، ونفوذها الإقليمي الذي عهدته دائماً. ولكن هذه الانجازات وضعت أيضاً في قالبٍ مناسب من الدعاية، كانت اليد الخفية ترسم صورة الرجل القوي التي يحبها الروس، فوجدت في رجل المخابرات وبطل الجودو القيصر الذي لا يقهر ويحافظ على تراب بلاده واصدقائه.
لقد صُور بوتين على أنه الرجل الذي يجيد كل شيء، فكانت الكاميرا تلاحقه لتلتقط له صورة يلاعب فيها الدببة، وأخرى يصطاد فيها النمور، وثالثة يجوب فيها السماء مع طيور اللقلاق مستخدماً أجنحة صناعية. يغوص مع الدلافين، ويركض في الغابة عاري الصدر، يمتطي الأحصنة، يفعل كل شيء تقريباً. كما أن إحدى الكاميرات رصدته وهو يملأ خزان سيارته الروسية “لادا” بنفسه، وتبعته أخرى إلى ملعب الهوكي حيث كان ينازل أصحاب البنية الضخمة.
لكن القوة الشخصية والاستعراضات العسكرية التي يتباهى بها الاعلام الروسية ورجال الدبلوماسية في وزارة الخارجية، لا تسمن من جوع بظل الحصار الذي يفرض على روسيا ويدفعها للعزلة التدريجية عن المحيط الجيوسياسي للعالم، حيث باتت روسيا في نظر العالم وحش كاسر يجب عزله وإبعاده عن المجتمع، لقد اصبح خطيرا جدا وربما كلمة بوتين بتاريخ 21 شباط الموجهة للشعب الروسي لإخباره عن قراره النهائي بضم الجمهوريتين الى صفوف روسيا، كان يخرج عن التوافق العالمي، الذي إتبع في تأسيس العالم الجديد بعد الحرب العالمية الثانية، حيث خاف ستالين على استقلالية أوكرانيا وبيلاروسيا لكن بوتين اعتبر اوكرانيا غير موجودة وهو بذلك ضرب أسس النظام العالمي الجديد دون تقديم البديل.
بالنهاية لا بد من القول بان الحرب النفسية التي تمارسها روسيا ضد أوكرانيا لاتزال مستمرة وستبقى في أجندة الاعلام الدعائي، طالما أ، النظام الروسي لا يقر بوجود دولة اوكرانية لها سيادة ويجب إدارة العلاقة الدبلوماسية معها بحسب المصالح الاقتصادية وليس بحسب ربح المعارك السياسية والعسكرية.