افتتاحُ قنصليتين أمريكيتين في الداخلة والقدس الشرقية.. حقٌّ مُستحقٌّ أم صدقةٌ؟
عبد السلام بنعيسي
كشفت صحيفة نيويورك تايمز الأميركية أن افتتاح قنصلية أمريكية في الداخلة في الصحراء المغربية، كان على جدول أعمال قمة النقب، فلقد دعا وزراء خارجية كل من مصر، والامارات العربية المتحدة، والبحرين، والمغرب، وزير الخارجية الأميركي، إلى فتح قنصلية في مدينة الداخلة بالصحراء الغربية، وذلك “احتراما لما تعهدت به إدارة الرئيس السابق دونالد ترامب…”، كما دعا الوزراء، إلى فتح قنصلية أمريكية، في القدس الشرقية.
يؤكد ما ورد في صحيفة نيويورك تايمز التقارير الإعلامية التي أشارت إلى أن الإدارة الأمريكية في عهد ترامب تعهدت بفتح قنصلية أمريكية بمدينة الداخلة، ويفيد التقرير كذلك، أن إدارة بايدن لم تحترم، لحد الساعة، ما تعهدت به سابقتُها تجاه الدولة المغربية بخصوص فتح القنصلية، وأن المغرب لم يفلح، لوحده، في إقناع الأمريكيين باحترام تعهُّدِهم له، وأنه متضايق من تصرفهم معه، فلجأ إلى أشقائه المصريين، والإماراتيين، والبحرانيين ليساعدوه، في دفع الأمريكان لفتح القنصلية الموعودة.
لكن، لماذا لم تتقيد الدولة الأمريكية بما وقع الاتفاق حوله مع نظيرتها المغربية؟ ما هي أسباب عدم التقيُّد هذا؟ وماذا يمكن استخلاصه من ذلك؟؟ فحين تتمنَّعُ واشنطن عن تنفيذ ما جرى الاتفاق حوله، في الشقِّ المتعلق بفتح القنصلية المذكورة، فهذا تصرُّفٌ يُرخي بظلالٍ من الشك حول مجمل ما جرى كلُّه.
فمن جانبها، أوفت الرباط، بكل ما هو منصوص عليه في الصفقة، فبادرت إلى تطبيع علاقاتها بتل أبيب، وأبرمت اتفاقيات عدة معها، في مختلف المجالات، السياحية، والمالية، والفلاحية، والأمنية، والعسكرية، ونالت بموجبها إسرائيل، ما كانت تريده من المغرب عبر الصفقة الثلاثية… لكن بالمقابل، لا تزال الإدارة الأمريكية الحالية تتلكأ في فتح القنصلية بالداخلة، وها هي إسرائيل بدورها، وفقا لما جاء في تقرير نيويورك تايمز، لم تطالب، في قمة النقب، بفتح القنصلية المذكورة، على غرار ما فعله وزراء خارجية مصر، والإمارات، والبحرين، والمغرب…
اتخاذُ نفس الموقف من طرف الولايات المتحدة الأمريكية والدولة العبرية حول موضوع قنصلية الداخلة، من الصعب أن يكون الأمرُ عبارةً عن صُدفةٍ عابرة، فلا شيء في السياسة يُترك للصدف العابرة، ولا نظن أن عدم فتح القنصلية قرارٌ سقط سهوا من ذهن الفاعل السياسي في البيت الأبيض، لكي يتمَّ تذكيره به من طرف الوزراء العرب في قمة النقب، فيبادر الأمريكي لاتخاذه على الفور، نزولا عند رغبتهم.
جميع المواقف السياسية المتخذة، يقع التفكير فيها بتأنٍّ وتركيز، ويتم الركون إليها، بعد دراسة معمقة، وذلك من أجل الوصول إلى غايات من ورائها، فماذا تنتظر واشنطن وتل أبيب من الرباط؟ وما هو المقابل الإضافي الذي قد تطلبانه منها؟ ما هي نوعيته وحجمه، لفتح القنصلية العتيدة؟؟؟
لا أحد يملك أجوبة شافية عن الأسئلة السالفة، إنما الأكيد هو أن لا معنى لتصريح وزير خارجية المغرب ناصر بوريطه في المؤتمر الصحفي الذي عُقد بشكل مشترك بالرباط مع وزير خارجية أمريكا، أنطوني بلينكن، حين قال: افتتاح القنصلية بالداخلة “ليس سوى مسألة وقت”، إذ الأسئلة التي تفرض نفسها في هذا السياق هي: متى سيأتي هذا الوقت؟ هل بعد شهر؟ أو شهرين؟ أو خمسة أشهر؟ أو ماذا؟؟ لقد مرت أكثر من سنة على توقيع الصفقة الثلاثية، فما الذي يمنع الإدارة الأمريكية من فتح القنصلية في الداخلة في هذا الوقت، والمغرب قد أوفى بالتزاماته كافّةً في الاتفاق الثلاثي، علما بأنه اتفاق مرفوضٌ شعبيا، ووقع اتخاذُه ضدا في إرادة الغالبية العظمى من المغاربة الذين يعتبرون فلسطين بمثابة قضيتهم الوطنية؟؟؟
لم يحدِّد لنا وزراء خارجية النقب، ماذا هم فاعلون إذا رفضت الإدارة الأمريكية التجاوب مع دعوتهم؟ كيف سيلزمونها باحترام تعهدها؟ لا نظن أن في إمكانهم ممارسة الضغط عليها لإجبارها على فتح القنصلية سواء في الداخلة، أو القدس الشرقية، فبالإضافة لإسرائيل وأمريكا، فإن مصر، بدورها، ليست لديها قنصلية في أي مدينة من مدن الأقاليم الصحراوية المغربية، فكيف سيكون الضغط المصري على أمريكا فاعلا في اتخاذ قرارٍ لم تتخذه القاهرةُ أصلا؟؟
كما أن فتح الإدارة الأمريكية لقنصليتها بالداخلة أو القدس الشرقية لا يمكن أن يتحقق، من خلال مناشدة ودعوة في قمة من قبيل القمة التي جرت في النقب. لكي يَكْتَسِبَ فتحُ القنصلية، شأنا وقيمةً، يتعين أن يكون قرارا أمريكيا صادرا، بكل قناعة، من قلب صانع القرار السياسي الأمريكي، وبمبادرة صادقة من جانبه، ومن منطلق الحرص على مصالحه التي قد تُهَدّدُ إن لم يتخذ القرار المطلوب، وأن يتم ذلك بتلقائية وجدية، وحماس، وأن تصاحبه قرارات مرافقة له، تؤدي إلى تكريس الوحدة الترابية المغربية، وطي ملفها بشكل نهائي، وأن يكون، بالنسبة لقنصلية القدس الشرقية، مدخلا لإلزام الكيان الصهيوني بالامتثال لقرارات الشرعية الدولية…
مثلُ هذه الحقوق المشروعة لا تُقدَّمُ في صينية من فضة، لمن يطالب بها، إنها تُنتزع نزعا، بالنضال وبالتضحية، وهذا ما أضحى غائبا لدى أقطاب النظام الرسمي العربي الحاكم، سواء منهم المعتدلون، أو الذين يزعمون أنهم ممانعون، أضحى غائبا في الخطاب وفي الممارسة.
فإذا كانت بعض دول الاعتدال تكتفي بمناشدة أمريكا في النقب، فتح القنصليتين في الداخلة والقدس الشرقية، فإن لغة، نحن مع فلسطين ظالمة أو مظلومة غابت في زيارة بلينكن الأخيرة للجزائر، وهي الدولة التي تقول عن نفسها إنها ممانعة، وطار من المداولات بين الجانبين الحديث عن التهديدات الإسرائيلية الصادرة من المغرب ضد الجزائر، ولم يكن هناك احتجاجٌ على تأييد واشنطن لمبادرة الحكم الذاتي، وحضرت لغة التشكي من الجيران، وساد معها خطاب ادعاء المظلومية الزائفة، وراج منطق التذكير، في التقارب في التاريخ، بين مناسبتي عيدي الاستقلال، في الجزائر وفي أمريكا…
تجري تحولات كبيرة ومتسارعة في الخريطة الجيوستراتيجية العالمية، وبدل أن يتجاوز العرب خلافاتهم البينية، ويتوحدوا بينهم لتكون لديهم كلمتهم المسموعة والمؤثرة في سياق القطبية المتعددة التي تتبلور راهنا، ويصبحوا قوة دولية لها وزنها، بدل ذلك، استهلكت الخلافات الداخلية النظام الرسمي العربي، وصار عاجزا عن تخطيها للنضال من أجل فرض رأيه، وانتزاع حقوقه من غيره، وبات يُجيدُ سلوكا واحدا، هو تَسوُّلُ الرضى الأمريكي، لعل وعسى، أن تحصل عبره، كل دولة عربية، على مصلحتها الأنانية، حتى إن كانت تتعارض مع المصلحة العربية الجمعية، وتتنافى، على المدى البعيد، مع مصلحتها القطرية نفسها.
إنه زمن السقوط العربي الرسمي، ونقطة الضوء الوحيدة في هذا الزمن العربي الرديء، هي المقاومة التي تتصدى بلحمها الحي للمشروع الصهيوأمريكي في منطقتنا، تتصدى له ببسالة، وبثقة مطلقة في إنجاز النصر، ولاشك في أن جماهير الأمة العربية والإسلامية ترفض التسول من أمريكا أو من غيرها، لأن لها أملا كبيرا في مقاومتها، لانتشالها من حالة الضياع هذه، التي تتردى فيها، إنها مقاومة تقتضي منا دعمها ومساندتها، بكل الوسائل والأشكال الممكنة…