في التهليل والتطبيل لـ”الدولة الاجتماعية” الزائفة…

في التهليل والتطبيل لـ”الدولة الاجتماعية” الزائفة…

عبد الرحيم ازرويل

منذ فترة، بدأ يجري الحديث في المغرب عن “الدولة الاجتماعية” وكأنها فتح كبير في مجال التدبير السياسي  للشأن العام. ويتم الحرص على تقديم هذا المفهوم باعتباره تدشينا جديدا لتعامل الدولة مع المواطنين، وحلا لمشاكلهم الصحية أساسا، ومشاكل بعض الفئات في التقاعد والتغطية الاجتماعية عموما. وتجد هذه النغمة الموسيقية آذانا صاغية لدى بعض الأطراف المحسوبة على الجناح التقدمي، إما استحسانا خجولا، أو صمتا ناطقا. هكذا، بين عشية وضحاها، كادت الحكومة الحالية أن تتحول إلى حكومة يسار الوسط، بل قُل إن شئت “حكومة اشتراكية ديموقراطية”. 

لا ريب، أن في الأمر ما يثير الاستغراب حقا، حين نقرأ وعود رئيس الحكومة بشأن “تفعيل الحماية الاجتماعية الشاملة، وإخراج مليون أسرة من دائرة الفقر والهشاشة، وتعميم التعليم الأولي، وتقليص الفوارق الاجتماعية، والتأمين الإجباري الأساسي عن المرض، وإحداث نظام للمعاشات لفئات غير المهنيين والعمال المستقلين والأشخاص غير الأجراء…”. 

 إن أول سؤال يتبادر للذهن، هو مدى قابلية هذه الوعود للأجرأة والتفعيل. هل هي مجرد شعارات جوفاء تبتغي خلق نوع من الاستحسان والانتظار الإيجابي لدى “النخبة” المشاركة في اللعبة السياسية؟ أم هي اقتناع جديد بـ”الدولة” الاجتماعية، ومنعرج في سياسة الدولة، يرمي إلى إعادة توزيع الثروة لفائدة المهمشين والمستضعفين؟

 إن كان ذلك، هل بإمكان الجماهير المعدمة أن تساهم وتشارك في تمويل صناديق هي فارغة أصلا، حتى تستطيع الاستفادة منها؟

 فعلى سبيل المثال، لم تكف الدولة عن إعلان قرب كارثة إفلاس عدة صناديق اجتماعية، وعلى رأسها صناديق التقاعد، التي موّلها العمال والموظفون منذ نهاية الخمسينيات وبداية ستينيات القرن الماضي. 

 فما سبب هذا الإفلاس المعلن، إذا علمنا أن حدا أدنى من التدبير “البنكي” لهذه الصناديق لم يكن ليؤدي بها إلى هذا الوضع الكارثي والمأزوم؟

 ثم إن التراكم الفاشل (لأسباب لا تتعلق بالتدبير فقط) يخص صناديق فئات “محظوظة”، هي فئات العمال والأجراء وموظفي القطاع العام، فما بالك بالفئات الواسعة من المعدمين، التي تعيش فقراً مطلقاً بسبب البطالة البنيوية، أكانت صريحة أم مقنعة؟ فمن أين لها المساهمة في أي رأسملة كيفما كانت؟ 

في هذا السياق يقدم الـ”رمد” RAMED، النظام الخاص بالحماية الصحية للمعوزين، في صورة مكسب جديد ستتمتع به الجماهير.

 لكن، لا يمكن أن لا يكفهر الخاطر، حين نستحضر حالة القطاع الصحي الأكثر من مزرية. ثم عندما يتذكر أغلبنا أن المستشفى العمومي كان مجانيا، مفتوحاً في وجه الجميع يوفر خدمات مقبولة؛ والحال أن ولوجه الآن يقدم كما لو كان مكسبا رائعا تهديه الحكومة للجمهور.  

بصدد هذه الاستفهامات السابقة تتولد منطقيا استفهامات أخرى: 

– هل تستطيع دولة بلد متخلف، اختار النهج الليبرالي، أن تُقوِّم التفاوتات الصارخة بين الطبقات الاجتماعية، بإصلاح يوسع بمقتضاه الغلاف الضريبي، ليشمل الأغنياء بشكل متناسب مع ثروتهم، دون أن يمس القدرة الشرائية لفقراء الطبقة المتوسسطة؟ 

 – ثم مرة أخرى، هل للتغطية الصحية معنى، إذا كان الخصاص الجذري هو ما يسم المستشفى العمومي؟ 

 – هل لتعميم التعليم جدوى إذا كان نظام التعليم منهاراً؟ 

– أيننا إذن من الدولة الاجتماعية المعلنة؟ 

 إن ما يعلن عنه كوعود استشرافية بعيد عن مفهوم الدولة الاجتماعية كما تحدده أدبيات اقتصاد السوق، التي تشترك في التأكيد على اختلاف أوجه الدولة الاجتماعية في العالم، حيث تتجاوز مجرد تدخل القطاع العمومي في إعادة توزيع الثروة.

  يشير المفهوم إلى مجموعة من الآليات والمؤسسات التي يوفرها المجتمع لذاته، بغاية ضمان تماسكه. من هذه الآليات سهر الدولة على مختلف الخدمات الاجتماعية، ضمان قانون للشغل متجدد تفاوضيا بين الدولة والنقابات، تأطير الدولة للعلاقات المؤسسة لسياسة التشغيل.. 

وإذا اعتبرنا أن الدولة الاجتماعية سليلة نظرية الاقتصادي الانجليزي الشهير Maynard Keynes John جون مينارد كينس (1883- 1946)، التي تتصور الحفاظ على مصالح نظام اقتصاد السوق، بالدفاع عن نوع من تدخل الدولة لتأمين التشغيل وإنعاش الاستهلاك، فإننا بعيدون كل البعد عن هذا النموذج، لأن كثيرا من متطلبات الاقتصاد الرأسمالي غير متوفرة في الاقتصاد المغربي، وأقلها حرية التنافس ووفرة الرساميل.

 في الأخير، أريد هنا أن أتطرق إلى ما تثيره حورية البحر هاته، أي “الدولة الاجتماعية”، من وقع أنغام مغرية ومثيرة في آذان بعض من يحسبون على اليسار. يقول أحدهم، في منبر رسمي، جواباً على منظور الوزير الأول حول الدولة الاجتماعية: “لا يمكن إلا الانخراط في التوجهات الاجتماعية، لأنها تتماشى مع مشروعنا المجتمعي الذي أخذنا به من البداية، وهو تلبية حاجيات المغاربة وتحسين مستوى عيشهم (…) نحن في حاجة إلى دولة راعية…”.   

إن فكرة الدولة الراعية l’Etat providence هاته، هي أعلى ما يتصوره الاشتراكيون المغاربة كأفق لغاياتهم السياسية – بعد صدِّهم لمثال الاشتراكية العلمية-. والحال أن لا نقاش نظريا يحصل حول الموضوع، ولا تصريح بالأسباب التي أدت إلى التخلي صمتاً عن المثل السبعينية، ولا تفسير من هذا الطرف أو ذاك عن معنى نعت الأحزاب  لذاتها بـ”الاشتراكية”!

 إنها الحقيقة المرة، التي ليس صعبا على الناس لمسها وإدراكها. لما يحصل ذلك، سيعرفون أنهم كانوا موضوع مناورة سياسية، لأن الواقع المكشوف يقول إن ما يقدم إليهم من مكتسبات زائفة في إطار من التزويق والتهليل والتطبيل المبالغ فيه، هو مجرد تضليل من الألف إلى الياء وربح للوقت. ليس إلا.

Visited 6 times, 1 visit(s) today
شارك الموضوع

عبد الرحيم ازرويل

إطار تربوي وناشط سياسي من المغرب