حوار مع زكي طه رئيس المكتب التنفيذي لمنظمة العمل اليساري الديمقراطي العلماني (2-2)
حاورته: فاطمة حوحو
* دائما تُطرح الأسئلة حول تمويل الأحزاب؟ ما هي مصادر تمويل نشاطكم السياسي؟
– أن حصانات وضمانات استقلالية أي نشاط حزبي ديمقراطي تكمن في ترابط رسوخ وفاعلية موقعه الاجتماعي ودوره النضالي وقدرته على تنمية موارده الذاتية. ولأن حاجات التنظيم تزداد بقدر تنامي فعاليته التي توفر له مزيداً من الاحتضان من قبل الفئات التي يخاطب مصالحها ويسعى للفعل بين أوساطها وحول قضاياها وحقوقها. وهذا ما يمكنه من توسيع صفوف اعضائه وانصاره، الذين يشاركون في تامين الحد الأدنى من القدرة المالية لمتطلبات نشاطه. وعلى ذلك فإن المنظمة راهناً تعتمد فقط على امكاناتها الذاتية التي يوفرها لها أعضاؤها، في الوقت الذي تبذل جهوداً مضنية سعياً منها رغم الصعوبات المحيطة لتنمية مواردها على نحو لا يجعلها مرتهنة لأي تمويل يمكن أن يشكل قيداً على دورها أو استقلاليتها السياسية.
* لماذا تغيير الاسم بحيث صار مطولا؟ وهل هو برأيكم قادر على الاستقطاب في الساحة اللبنانية في ظل الانقسام الحاصل؟
– إن اسم “منظمة العمل اليساري الديموقراطي العلماني” يتصل بكل ما تميزت به تجربتها طوال نصف قرن من صلابة نضالية واستقلالية ونزاهة فكرية وسياسية، وما انطوت عليه من دروس وما تخللها من أخطاء. ويرتبط أيضاً مع الهوية الفكرية والسياسية الجديدة التي يلتزمها مناضلوها راهناً، على نحو يعيد الاعتبار لخيار الاشتراكية باعتباره الأصل بعيداً عن حتميات الماركسية اللينينية التي لم يحكم التاريخ لمصلحتها، والتي لا ترى المنظمة مبرراً لاستمرار التزامها. هذا، ولكن من دون التنكر لها بالقدر الذي يستمر الانفتاح عليها والاستفادة مما ورد في العديد من طروحاتها ومساهمتها في كشف ما تمارسه الرأسمالية من استغلال لجهد وتعب الكادحين والعاملين لديها. ما يعني أن اسم “منظمة العمل اليساري الديمقراطي العلماني” هو تأكيد لانتماء التنظيم إلى اليسار الذي يلتزم خياراً اشتراكياً رحباً، ويحدد موقعها النضالي في الحياة السياسية وانتسابها إلى المصالح الاقتصادية والاجتماعية الطبقية، وربطها بالديمقراطية والعلمانية، مدخلاً للمساواة بين فئات المجتمع ومكوناته عبر اشراكها في التصدي لمعضلات البلد، ومعالجة أزماته ومشكلاته على نحو يقطع الطريق على تجدد الصراعات الحروب الأهلية، ويفتح مسارات التطور والتقدم. اما مسالة الاستقطاب والتاثير في حركة المجتمع فإنها تعتمد على مدى صواب التوجهات البرنامجية وقدرة التنظيم على إعادة بناء موقعه الاجتماعي عبر التوجه للفئات المتضررة باعتبارها صاحبة المصلحة في التغيير، وإلى كفاءاته في اشتقاق خطط وبرامج النضال حول قضاياها. ما يعني ورغم أهمية الاسم ورمزيته، لكنه ليس العامل المقرر في قدرة التنظيم على الاستقطاب والنجاح.
* ماهي خطة عملكم ورؤيتكم للوضع الحالي في لبنان ومستقبله السياسي في ظل الانقسامات الطائفية والمذهبية، وقد تحوّ ل الى ساحة صراع لاسيما بالنسبة لايران وسوريا؟
– نجحت الطبقة السياسية الحاكمة بموجب اتفاق الطائف في استغلال نتائج الحرب الاهلية، وتكريس طبيعة النظام الطائفي الذي ساهم ولا يزال في تكريس وتجديد الانقسام الأهلي الموروث منذ تاسيس الكيان. ورغم انتهاء الوصاية السورية بقي البلد مرتبطاً بأزمات المنطقة، وساحة مرتهنة للصراعلات الدولية والاقليمية فيها وعليها. ومع اختلال ميزان القوى لمصلحة محور الممانعة تمكن حزب الله أن يصبح شريكا مضارباً في الفساد السياسي والمحاصصة الطائفية على مواقع السلطة، مستفيداً من فائض قوته، ونجاحه في فرض أجندته السياسية سواء عبر حكومات الوحدة الوطنية، أو تعطيل الاستحقاقات الدستورية وشل مؤسسات الحكم واجهزة الدولة، أو عبر التدخل في الحرب السورية بذريعة مقاومة الارهاب الاصولي، أو ادعاء حماية البلد من الخطر الاسرائيلي. الأمر الذي أدى إلى الدفع بالبلد إلى مهاوي الفوضى السياسية والانهيار الاقتصادي والتفكك الاجتماعي على نحو شبه شامل.
وبما أن استمرار أزمة لبنان على هذا النحو يفاقم مشكلاته ويبقي مصيره معلقاً على نتائج الصراعات الإقليمية والتدخلات الاسرائيلية والايرانية والتركية والدولية المدارة اميركياً، فإن المنظمة ترى أن الانقاذ مهمة ذات أولوية راهنة على كل ماعدها. ولذلك هي تحاول القيام بدور أساسي من أجل اعادة بناء موقع اليسار الاجتماعي وتجديد الحركة الديمقراطية، والعمل على تشكيل كتلة مجتمعية فاعلة، تتجاوز انقسامات الحرب الاهلية وخنادقها الطائفية والفكرية، وتمكينها من التعبير عن المصالح الوطنية الاوسع وتحقيق اهدافها، وعليه تسعى المنظمة إلى إرساء علاقات حوار وتعاون سياسي ونضالي مع القوى والمجموعات التي ترفع رايتي الانقاذ والتغيير. علماً أن انقاذ البلد شرطه الاصلاح السياسي للنظام والغاء المحاصصة السياسية، الامر الذي يتطلب إعادة الاعتبار لبناء دولة القانون والمؤسسات والمواطنة والعدالة الاجتماعية، بما فيه تحديد دور وموقع لبنان وقطاعاته على صعيد المنطقة العربية، والاستفادة من الدروس الغنية التي انتهت إليها تجارب اللبنانيين كي لا تُهدر تضحياتهم ونضالاتهم.
أما راهناً فمن المبكر الحديث عن تحالفات سياسية بالنسبة للمنظمة مع قوى واطراف أخرى، نظراً للالتباسات التي تحيط بواقع القوى التي تدعي الانتساب إلى المعارضة الديمقراطية المستقلة الذي تلتزمه. إن ما تديره المنظمة راهناً من علاقات حالياً يقع في اطار التنسيق المتعدد الأوجه والذي يستهدف السعي إلى بلورة وجهة سياسية للمعارضة المجدية والفاعلة في مواجهة منظومة أحزاب السلطة وسياساتها وادائها الميليشياوي، مدخلاً لبناء جبهة معارضة، ذات بعد سياسي اجتماعي وديمقراطي بعيداً من التباسات التجارب الجبهوية السابقة التي انطلقت من مواقع الانقسام الأهلي الموروثة وساهمت في تكريسها وإعادة انتاجها.
* كيف تنظرون إلى الدور الذي يلعبه حزب الله، وما هو موقفكم من سلاحه؟
– لا شك أن أن المحطة الأخيرة من التحرير من الاحتلال الاسرائيلي حققتها تضحيات المقاومة الاسلامية، التي استكملت ما بدأته جبهة المقاومة الوطنية التي أطلقتها احزاب اليسار، وكان للمنظمة دور اساسي فيها أعلاناً واعلاماً ومشاركة قتالية. لكن التحرير ظل أسير الهوية الطائفية للمقاومة الاسلامية ولم يتحول انجازاً وطنياً بذرائع متنوعة. ورغم بقاء خطر العدوان الاسرائيلي قائماً، لا مبرر لاستمرار سلاح حزب الله، الذي اصبح عامل تزخيم للإنقسام الأهلي الطائفي وعدم الاستقرار، وعامل اضعاف وتجويف لمؤسسات الدولة وأجهزتها. ومصدراً لفائض قوة الحزب التي مكّنته من التحكم بقرارات الدولة السياسية وتوازنات الحكم وادارة شؤون البلاد على نحو يتناقض مع المصالح الوطنية اللبنانية السياسية والاقتصادية، ومسيء لعلاقاته العربية والدولية، جراء تدخله المباشر سياسياً وعسكرياً في ازمات دول الجوار العربي وأوضاعها الداخلية، مما كان له نتائجه السلبية المتعددة سياسة واقتصاداً واجتماعاً وثقافة.
إن حزب الله لا يتحمّل وحده مسؤولية الانهيار المقيم راهناً على جميع المستويات. لكنه طرف اساسي ورئيسي في المسؤولية عنه، باعتباره شريكا في النظام القائم على المحاصصة الطائفية والفئوية التي تشكل ذروة الفساد السياسي، الذي يظلل سياسات الطبقة الحاكمة وممارساتها التدميرية، التي يجد فيها الحزب كما سائر الاطراف مبررات وجودها وادواها، بما فيه “حقه” في الاحتفاظ بسلاحه واستعماله دفاعاً عنه. ما يجعل من المتعذر اعتماد سياسات تنهض على دور المؤسسات الشرعية، وتنفيذ اجراءات وقرارات اصلاحية تستعيد حقوق الدولة، في ظل استمرار سياسات التعطيل والأمر الواقع الميليشياوي الطائفي ــ الفئوي المفروض، على نحو يبرر للآخرين استنساخ مشاريع دويلات شبيهة، واستعادة تجارب الحرب الأهلية المدمرة. ولذلك فإن المنظمة ترى أن المدخل الطبيعي والوحيد لمعالجة معضلة سلاح الحزب باعتباره سلاحاً أهلياً، يكمن في أولوية إعادة الاعتبار لمشروع بناء دولة الرعاية الاجتماعية ، الدولة الوطنية الديمقراطية. الدولة التي يقع على عاتقها وحدها مسؤولية حماية لبنان الوطن ومواطنيه من الأخطار والاطماع الصهيونية في أرضه ومياهه وسمائه، أو ما يشابهها من اي جهة أخرى أتت. بديلاً عن إدعاء احتكار حق الدفاع عن لبنان وحماية حدوده وموارده الطبيعية من قبل حزب الله، بمعزل عن إرادة أكثرية اللبنانيين. وبعيداً عن سياسة التلزيم الفئوية والمعادلات التقسيمية، التي لا تبني دولة ولا تحمي وطناً ومواطناً.
* كان لكم اسهامات في “ثورة ١٧ تشرين”، كيف تنظرون إليها وماذا عن موقفكم من الانتخابات النيابية؟
وكيف ترون تعدد لوائح المعارضة ومن يسمون بالثوار؟ – لقد تزامن التحضير للمؤتمر الخامس، مع اندلاع انتفاضة تشرين 2019، ولذلك قررت قيادة المنظمة اعطاء الاولوية للانتساب لها والمشاركة في انشتطها، باعتبارها تشكل محطة استثنائية وحدثاً مجيداً في تاريخ لبنان الحديث. إذ احتشد مئات الالوف من اللبنانيين من سائر الاطياف وفي كل المناطق احتجاجا على سياسات السلطة وممارسات قواها، وتعبيراً عن طموحاتهم في أن يكون لهم وطن وهوية وطنية واحدة ودولة تدير شؤونهم كمواطنين متساوين في الحقوق على نحو يضمن المستقبل والعيش بكرامة. لم تكن الانتفاضة سوى تعبير عفوي عن حالة الاختناق التي بلغها وضع البلد في ظل انعدام الحياة السياسية طوال عقود متلاحقة، وعدم وجود معارضة فاعلة ومستقلة عن النظام. لذلك لم يكن من السهل ارتجال برنامج جامع للانتفاضة وقيادة موحدة قادرة على تاطير فعالياتها والتنسيق بين ساحاتها. سمح ذلك بسيادة منوعات الاستسهال والتبسيط لدى غالبية المجموعات، والتشكيلات التي نجحت قوى السلطة في استغلال شعاراتها وممارساتها، لاجهاض الانتفاضة، التي أكدت استعداد اكثرية اللبنانيين للنضال في سبيل حقوقهم وطموحاتهم. كما فتحت الافق لبناء حركة معارضة سياسية ديمقراطية، ورسّمت تحدي تشكيل كتلة اجتماعية من الفئات المتضررة تعبر عن مصالحها وحقوقها. وفي هذا السياق كان وهم القدرة العجائبية للانتخابات على تغيير توازنات وقوى النظام، رغم استغلال بعضها راية الانتفاضة للتغطية والتضليل حول انتمائها للسلطة وتسويق شعارات سياسية تشكل الوجه الآخر لما يطرحه حزب الله. في ظل خطاب التخوين المتبادل بينها.
ورغم ضعف بنية المعارضة وحالة التفكك والهامشية لدى قواها ومجموعاتها، كان قرار المنظمة المشاركة في الانتخابات ترشيحاً وتصويتاً واقتراعاً من موقع الاعتراض الديمقراطي المستقل دون اوهام، بأمل ترصيد الحسابات لاحقاً في ضوء النتائج المتوقعة للانتخابات للبناء عليها على نحو تراكمي. ولذلك شاركت المنظمة في الائتلافات التي سعت لتشكيل لوائح انتخابية موحدة للمعارضة في ظل سيل اعداد المرشحين، وبذلت جهوداً جادة في جميع مناطق تواجدها، دعماً للمرشحين المستقلين الذين يتمتعون بالحد الادنى من المصداقية والفاعلية، ولها بينهم اصدقاء وأكثر من رفيق قيادي. غير أن النتائج وتعدد اللوائح باسم الانتفاضة والمعارضة لم تتوافق مع رغبات غالبية اللبنانيين وطموحاتهم. بقدر ما كانت مصدر اطمئنان لقوى السلطة الساعية لتجديد مواقعها وتوازناتها وشرعيتها في الداخل والخارج. ما يعني ان اوضاع البلد الكارثية مرشحة لمزيد من الاحتدام على نحو يضع الاكثرية الساحقة من مواطنيه وخاصة قوى الاعتراض وتحديداً اليسار امام تحديات صعبة في ظل المتحولات الزاحفة عليه، وعلى المنطقة العربية بأسرها.