الحدود الموروثة من الاستعمار

الحدود الموروثة من الاستعمار

اليزيد البركة

يوم الخميس الماضي، أدلى رئيس أركان الجيش الجزائري بتصريحات في لقاءات عن بعد، من مقر ‏قيادة القوات البرية، تحمل عدة إشارات سياسية للداخل وخاصة للجيش، وتهديدات مكشوفة للمغرب. وقد ‏كان شهر رمضان حافلا في تنقلاته وتفقداته للنواحي العسكرية السبع في الجزائر. 

 من ضمن ما حملت تلك الإشارات، إشارة إلى جهات دولية بعد أن لاحظ المراقبون والمتتبعون ‏تصريحات العسكر والحكومة الجزائرية التي تحمل التهديد والوعيد، وكذا تحركات الجيش الجزائري ‏وتنقيل عدة أسلحة ثقيلة متطورة إلى الولايات القريبة من الحدود المغربية. تقول الإشارة: 

“إن الجزائر ‏تعرف حدودها الترابية بدقة ولا تتطلع أبدا إلى التوسع وراءها”. 

أما إشارة التهديد ضد المغرب فكانت : ‏الجزائر ستعرف في المقابل, كيف ترد وبقوة على كل من تسول له نفسه المساس بحرمة حدودها ‏ووحدتها الترابية الموروثة عن الاستعمار.‏

ويوم السبت قال الرئيس الجزائري في مقابلة مع الصحافة أن التحول في موقف اسبانيا في قضية ‏‏”الصحراء الغربية غير مقبول أخلاقيا وتاريخيا”. “وأننا نعتبرها القوّة المديرة للإقليم طالما لم يتمّ ‏التوصّل لحلّ لهذا النزاع”‏.‏ ورغم أنه تخلى عن غلواءه السابقة، لما قال إن المغرب بلد محتل للصحراء ‏إذ استعمل في تصريحه كلمة النزاع، إلا انه ما يزال هو ورئيس أركان الجيش يزيفان الواقع ويختلقان ‏تصورات لا هي مبنية على التاريخ الحقيقي، ولا على الحكمة التي انبنت عليها العلاقات الجزائرية ‏المغربية في مرحلة الكفاح ضد الاستعمار التي أنتجت تصور بناء مغرب الشعوب.

 الحركة التقدمية المغربية تعرف أن الحكام في الجزائر قد حصل لديهم في سنوات الرئيس بومدين تحول ‏عميق إزاء بناء المغرب الكبير، وذلك على إثر نجاح القيادات العسكرية التي كانت في الجيش الفرنسي ‏في تبوء قيادة الجيش الجزائري وتصفية القيادات العسكرية التي جاءت من الثورة الجزائرية، وتصفية ‏حتى العديد من القيادات السياسية التاريخية المؤمنة بالسير على درب وحدة الشعوب. لهذا لا نستغرب ‏أبدا التشبث بالحدود الموروثة من الاستعمار والتي تركها في آخر أيامه، بعد أن قضم عدة مدن وقرى ‏ومناطق، وليس التي وجدها عندما احتل الجزائر في 1830، والتي كانت ثابتة طوال مدة الحكم العثماني ‏من 1514م إلى 1830م. ‏

 نعرف جيدا أن منظمة ةلأفريقية أقرت الحدود الموروثة عن الاستعمار حتى لا ينفرط عقدها، وقد ‏تأسست بدور فاعل للمغرب في الدار البيضاء،  الذي اكتفى بالتحفظ على هذه النقطة، لكن ما شجعه على ذلك ‏هو عاملان اثنان: أولا، الوعود التي أعطيت للمغرب إبان الاستعمار من طرف قادة الثورة الجزائرية، ‏لكي تتم تسوية مشكلة الحدود بعد الاستقلال. ثانيا، الوعود التي أعطيت بعد الاستقلال في 1962 على ‏عزم الجزائر تسوية المشكل بعد بناء مؤسسات الدولة، وقد تعزز هذا التوجه التفاوضي بعد حرب ‏الرمال التي نجحت فرنسا من وراء الكواليس للضغط على المغرب بقوة لسحب قواتها العسكرية، وبعد ‏عدة وساطات نتج عنها توقيع اتفاقية وتكوين لجنة من دول افريقية للنظر في الخلاف الحدودي، وهذا ‏يفند ادعاءات أن الموضوع تم حله وتجاوزه.‏

 حاليا نلاحظ أن الرئيس الجزائري يسير على نفس خطى القيادات العسكرية التي غيرت العقيدة ‏العسكرية الجزائرية، حيث اعتبر أن المستعمر الاسباني ما يزال هو الذي يدير الصحراء، وتجاهل ‏تماما الاتفاقية الموقعة بين المغرب واسبانيا، وتجاهل رسالة اسبانيا إلى الأمم المتحدة بأنها أصبحت غير ‏مسؤولة عن الصحراء، وتجاهل المسؤولين الاسبان في 1975 إثر انسحابهم من الصحراء، إذ أنهم ‏يؤكدون أنهم أنسحبوا، والرئيس الجزائري يقول: لا، غير صحيح نحن نعترف بكم في الصحراء.‏

 وحب الاستعمار، وحتى الجري وراء جلب استعمار جديد  لأراضي جاره، ليست جديدة عند كل من قاد ‏الانقلاب ضد القيادات الوطنية الجزائرية، وعلينا استحضار اللقاء الذي جرى بين بوتفليقة وزير ‏الخارجية الجزائري، وبين وزير الخارجية الأمريكي كيسنجر، بعد بضعة أسابيع من نهاية المسيرة ‏الخضراء، إذ كان اللقاء في 17 دجنبر 1975، وقد تم رفع السرية عن عدة وثائق أمريكية، من ضمنها هذه ‏الوثيقة التي يمكن للقاريء العثور عليها في الويب بسهولة.

 وقد طغت “المسيرة” على هذا اللقاء، بجانب مواضيع أخرى، مثل الطاقة. وبدأ كيسنجر بقوله إن أمريكا ‏ضغطت على اسبانيا لكي تجد حلا للمشكلة، وأنها حاولت أيضا ثني الحسن الثاني عن الدخول إلى ‏الصحراء. فيما ركز بوتفليقة على أن أمريكا كان عليها القيام بالضغط على المغرب لوقف المسيرة. وكان ‏كيسنجر يقول إن العلاقات مع المغرب علاقات قديمة، ولا يمكن تعكيرها بقضية لا مصالح فيها لأمريكا، ‏وحاول بوتفليقة أن يقنع كيسنجر بالاستفتاء في الصحراء، وبعد أن لاحظ  كيسنجر قائلا: أنه لا يفهم حق ‏تقرير المصير بالنسبة للصحراء، ويمكنه فهم ذلك بالنسبة للفلسطينيين، ولكن تلك مشكلة مختلفة بعض ‏الشيء”.

 أجاب بوتفليقة:  “ألم يعد سكان قطر مُهمين”؟

 أجاب كيسنجر: ” ولكن لديهم شيخ ودولة ‏مستقلة”.  

وبكل بدهاء معروف عن كيسنجر كان يقاطع بوتفليقة قائلا: “لكن ما هي مصلحة أمريكا”؟  ‏في الأخير فهم بوتفليقة ما تحمل الإشارة فقال:  

“بعد عشر سنوات أو 12 سنة ستكون الصحراء مثل ‏الكويت”. 

فغرز كيسنجر السكين جيدا في الجرح وكرر: “لكن ليست لدينا مصالح خاصة”.

 قال ‏بوتفليقة: لا يمكن لدورك أن يكون هامشيا أو خاليا من المصالح، لأنه كان هناك تعاون عسكري مع ‏المغرب، ومن ثم، إذا ما أخذنا ذلك في الاعتبار، فلا يمكن أن تكون محايدا بين المغرب والجزائر. ومن ‏ثم، أفهم أنه كان عليك أن تنحاز للمغرب، أو ذلك ما بدا. 

وبوتفليقة يعني هنا أن أمركا ستكون لها مصالح ‏كبرى مع الجزائر أكبر من هذه المصالح  مع المغرب”. 

وأضاف: إذا كانت لديك مشكلة مع كوبا أو فيتنام ‏أو كامبوديا، سوف يسعدنا أن .. أجاب كيسنجر: “لا يتفهم رجالنا في الأمم المتحدة دائما علاقتنا. ولكنني ‏أتفق معك أن هناك علاقة إيجابية للغاية، وأنا أقدر ذلك”. وأضاف: دعني أفكر بشأن ذلك وسوف ‏أتواصل معك عبر سفيرنا.

 من هنا نشأ تياران قويان في أمريكا من قضية الصحراء، تيار معادٍ للمغرب، وله قنوات مع الجزائر، ‏وتيار متعاطف مع المغرب، وله قنوات معه. وقد تعزز أكثر في سنوات ترامب.‏

عندما كان هناك قادة بنوا الجزائر على قاعدة الثورة الجزائرية، كان الشهيد المهدي بنبركة مع هذه الثورة ‏قلبا وقالبا، حتى أثناء المفاوضات السرية بين جبهة التحرير وفرنسا كان في خضمها. ولما اندلعت حرب ‏الرمال شجبها ولام المغرب، لكن في نفس الوقت لم يسمح في حقوق المغرب، ولم يؤيد الخريطة التي ‏تركها المستعمر الفرنسي، وكيف له ذلك وهو الذي وزع الخريطة التي أعدها علال الفاسي على وفود ‏الأحزاب الثلاث المشاركة في مؤتمر 28 – 29 أبريل 1958 في طنجة. وتتضمن الحدود كما كانت ‏قبل استعمار فرنسا في 1830. وتسبب بذلك في تهديد جبهة التحرير الجزائرية بالانسحاب، متذرعة بأن المرحلة ‏هي مرحلة الوقوف في وجه الاستعمار وليس البحث في الحدود، وقد توقفت جلسات المؤتمر لعدة ‏ساعات بعد احتجاجات جبهة التحرير، ومن هنا جاءت الوعود التي أعطوها، وعلى أساسها لم يقبل محمد ‏الخامس كل الاغراءات الفرنسية لإعادة الصحراء الشرقية للمغرب إذا ما توقف عن دعم الثورة ‏الجزائرية. لكن المهدي بنبركة في نفس الوقت لم يؤيد أحمد بنبلة في وجهة نظره بعد الاستقلال، بل دعا إلى حل في ‏إطار التكامل الاقتصادي عن طريق الاستغلال المشترك لخيرات المناطق المتنازع عليها.

 وهناك عدد ‏ممن يخفون هذا الطرح ويركزون فقط على شجب الحرب ولوم المغرب. والبعض الآخر على النقيض، ‏ما يزال يتشبث بما كان يعول عليه الشهيد بنبركة في توجهات جبهة التحرير الجزائرية في ذلك الوقت، ويسحب نفس تلك ‏التوجهات على الحاضر، في حين أن كل الأحزاب التي كان يعول عليها في الشرق الأوسط وشمال ‏افريقيا بأن تجر معها قاطرة التحرير الوطني في افريقيا، انتهى بها المطاف إلى نقيضها وأصبحت في ‏خبر كان، أو دبت في أوصالها فئات اجتماعية معادية لأي تحرر. 

وبالنظر إلى الجزائر الآن، لا أمل في ‏الأحزاب المعادية لحقوق الشعب الجزائري، والتي وقفت مع النظام العسكري، ومن يعتقد أن هذا النظام أزلي وما يزال يصف أعمدته التي يقوم عليها بـ”إخواننا في الجزائر”، ويسعى للتواصل معها، ويبحث عن قواسم مشتركة معها فهو واهم.

Visited 70 times, 1 visit(s) today
شارك الموضوع

اليزيد البركة

كاتب وصحفي مغربي