القدس حزينة.. وداعا شيرين أبو عاقلة

القدس حزينة.. وداعا شيرين أبو عاقلة

أسيل الجندي*

(بيت حنينا) القدس المحتلة – في بلدة بيت حنينا في القدس المحتلة وفي منعطف يتجه إلى اليمين ويُعرف مقدسيا بـ “دخلة جنّة عدن”، اتجهت الأنظار والقلوب والمركبات كما عدسات الكاميرات وحاملوها الذين وقفوا عاجزين عن التقاط الصور وإجراء المقابلات لمحتوى مواد صحفية حملت عنوانا لم يتمنوا أن يغطوه يوما هو: استشهاد الصحفية المقدسية شيرين أبو عاقلة.

الحزن داخل منزل العائلة عميق، وغياب شيرين جسديا وحضورها على شاشة التلفزيون مع شعار الحداد على القناة التي تعمل بها كمراسلة منذ ربع قرن مفجع، وفي المنزل يسود الصمت الذي تخلله بين الفينة والأخرى نقاشات عن ترتيبات الجنازة والقُدّاس ونظرة الوداع الأخيرة.

“فلفل” الكلب الذي تربيه شيرين منذ سنوات ينظر بين عشرات الوجوه بحثا عنها، وتزداد حركة رأسه يمينا ويسارا كلّما قال أحدهم “شوشو”، وبعد مرور 3 ساعات أُخرج من المنزل لتخفيف القلق الذي شعر به مع ازدحام الغرف بتوافد المزيد من المُعزين باستشهاد صاحبته.

لينا أبو عاقلة، ابنة شقيق شيرين، تحاول التخفيف من حزن والدتها تارة ثمّ تحاول أخريات مواساتها، وبين الفينة والأخرى تتلقى الاتصالات من والدها، الذي ينتظر الجميع وصوله للبلاد ويناقشا معا تطورات مشوار شيرين من جنين إلى نابلس ثمّ إلى رام الله.

لم يكن من السهل أن تتحدث عن عمّتها الوحيدة التي فقدتها بشكل مفاجئ وأليم، لكنها قالت بصوت مرتعش “عمتي هي قدوتي بكل شيء وهي صديقتي وأمي وأختي.. منذ صغري أفتش بين دفاترها التي تكتب عليها نصوص تقاريرها.. أتقمص شخصيتها وأُلقي النصوص ثم أختمها بالقول: شيرين أبو عاقلة.. الجزيرة.. القدس المحتلة”.

قطع بكاء لينا حديثها مع الجزيرة نت مرارا، وتخلل نوبات بكائها الشديد مواقف حرصت على سردها عن عمّتها الراحلة، فقالت إن شيرين كانت تدعمها بكل قراراتها ومن بينها نيتها دراسة تخصص الإعلام على مقاعد الجامعة، لكنها كانت تقول لها دائما إن هذه المهنة صعبة.تقول لينا “بالفعل كبرتُ وأدركتُ كم هذه المهنة صعبة، فلجأت لدراسة العلوم السياسية ثم حصلت على شهادة الماجستير في حقوق الإنسان.. لذلك أطالب وسأسعى وأتمنى أن يُفتح تحقيق نزيه في جريمة قتل عمّتي”.

آخر ما كانت تتوقعه لينا أن تكون شيرين هي الخبر الذي تتناقله وسائل الإعلام يوما، وأكدت أنها تواصلت مع عمتها قبل استشهادها بساعات وأخبرتها الأخيرة أنها متجهة إلى جنين للتغطية متمنية أن تمر التغطية بهدوء، لكن لم تمر التغطية كذلك ولن تعود شيرين سوى بالتابوت.

تسمّرت لينا أمام شاشة الجزيرة ودخلت في نوبة بكاء جديدة ليس قبل أن تقول إنهم قضوا عطلة نهاية الأسبوع الماضي عند عمّتهم الحنونة، ولم تكن تعلم أنها كانت المرّة الأخيرة التي ستراها بها على قيد الحياة.

أمام المنزل وحوله رُفعت أعلام فلسطين وتجمع عشرات المقدسيين، الذين توحدوا على حبّ شيرين رغم اختلاف أطيافهم وفئاتهم العمرية، ومن بينهم ماجد التميمي الذي يعيش بجوار منزل عائلة شيرين منذ عام 1963. تحدث هذا الرجل بصوت منخفض عن طفولته مع شيرين وشقيقها طوني، وقال إن والدتهما كانت تُدرسه معهما في المنزل، وإن شيرين كانت تأكل كمية قليلة جدا من الطعام، ولطالما كانت والدتها تركض خلفها لتكمل ما تبقى من طعامها.

وعن ملامح شخصية شيرين الطفلة قال ماجد “كانت أكثر أطفال الحي هدوءاً..

 تعلمت العزف على آلة البيانو في مدرستها وكنتُ بدوري أعلمها العزف على آلة الأورغ، وكنا نلمس مثابرتها وحرصها على إكمال مسيرتها التعليمية، وعندما كبرت كانت قدوة لنا في أن النجاح لا يتحقق إلا بحب المهنة والانتماء لها”.

المقدسي محمود جدّة وقف أمام المنزل مذهولا من وقع الخبر الذي يقول إنه نزل على كل فلسطيني بكافة أصقاع الأرض كالصاعقة، مضيفا في حديثه للجزيرة نت أن العزاء سيقام في كل بيت فلسطيني حزنا على فقدان هذه الهامة الصحفية.

يقف بجوار محمود الأسير المقدسي المحرر بلال عودة الذي قضى 18 عاما خلف قضبان السجون، وعن شيرين قال إنه دخل السجن وهو يتابع تغطياتها الاستثنائية عن اجتياح الضفة الغربية خلال الانتفاضة الثانية، وخرج منه وتابع تغطياتها المختلفة من بينها جنازات الشهداء في عدة مدن فلسطينية، ومن المؤلم أن يشاهد اليوم جنازتها بعد ارتقائها شهيدة هي أيضا.

“لن تمحى من ذاكرتنا تفاصيل الدور الإنساني الصادق في توثيق فترة زمنية مهمة من تاريخ نضال الشعب الفلسطيني بلمسة وأسلوب خاص على مدار أكثر من ربع قرن.. واليوم قررت شيرين أن توثق نهاية رحلتها الصحفية بدمها لتكمل رسالتها قبل الرحيل”.

شخصيات اعتبارية تدخل المنزل ترتجل الكلمات لترثي شيرين بعبارات صادقة ثم تخرج، ومن بين هؤلاء عضو الكنيست عايدة توما التي غلبتها الدموع، عندما قالت إن شيرين خصصت جزءا كبيرا من حياتها لكشف جرائم الاحتلال، وبعملية قتلها صباح اليوم كشفت الوجه الحقيقي والقبيح له، فكانت أكبر عملية كشف للحقيقة كان يمكن أن تطمح لها خلال مسيرتها الصحفية.

“شيرين بشجاعتها ما كان يمكن إلا أن تكون ملتصقة بشعبها واليوم أتى الالتصاق النهائي بالاستشهاد”.

قصص كثيرة عن شجاعة شيرين وحذرها الشديد في الميدان في الوقت ذاته سمعناه طيلة ساعات تواجدنا أمام منزل العائلة، وخلال مغادرتنا كان المسعف المقدسي فادي عبيدي الذي يعمل في جمعية الهلال الأحمر الفلسطيني يروي تفاصيل تحرر أسرى صفقة وفاء الأحرار عام 2011 حينما كانت شيرين تنتظر وصول المحررين إلى أحد حواجز الضفة الغربية.

يقول فادي إن شيرين والطاقم المرافق لها وقفوا بجوار الحاجز واستُهدفوا بوابل من القنابل الصوتية فاستُدعي هو لإسعافها، وفي طريقه استُهدفت سيارة الإسعاف بوابل من القنابل أيضا، وقال “لطالما استُهدفنا في الميدان جنبا إلى جنب مع الصحفيين.. لكنني كنتُ أريد أن ألتقي بها دائما في الميدان لا أن أسير في جنازتها. (عن موقع “الجزيرة”)

* صحفية من مدينة القدس

Visited 10 times, 1 visit(s) today
شارك الموضوع

السؤال الآن

منصة إلكترونية مستقلة