نافذة بطرس الأكبر على أوروبا التي أطاحت بها موسكو
د. زياد منصور
بحلول الذكرى 350 لميلاد بطرس الأكبر، فإن التخطيط المدني (وليس فقط) تراث هذا القيصر، الذي استطاع “تثبيت روسيا على قدميها”، شكل “قفزة ثقافية نوعية” في البلد الذي ورثه.
يعتقد أن عبارة “النافذة المفتوحة إلى أوروبا” والتي فتحها بطرس الأول، لاقت الكثير من النقد التاريخي، واعتبرت تسللاً لضيف غير مرغوب به في أوروبا -ضيف ثقيل كان لا يسمح له بالدخول من الباب حتى ولو سعى للدخول من الكوة. فلفترة طويلة، كان ينظر إلى سانت بطرسبرغ في كل من أوروبا نفسها، “كمدينة بعيدة عن الحضارة، رغم الاعتراف الضمني بأنها مدينة الجمال وعجائب بلدان ما بعد منتصف الليل”، ولم يكن أحد رغم ذلك يريدها أن تكون هذه النافذة بالذات.
على مدى مئتي عام بعد حكم بطرس الأكبر، كانت العاصمتان، موسكو وسانت بطرسبرغ، ترمزان إلى حقبتين مختلفتين-روسيا قبل دخولها إلى أوروبا تحت قيادة بطرس الأكبر. وروسيا بعد ذلك.
كانت موسكو، مع الكرملين، والتخطيط العفوي، والبناء غير المنظم، والشوارع الملتوية والمرافق السيئة، تجسيدًا للموسكوفية الأصولية المتخلفة، والأرثوذكسية الجامدة، أي تعود لعصري إيفان الرهيب وأليكسي ميخائيلوفيتش. ترمز مدينة بطرسبورغ، بتصميمها المعتاد، والهندسة المعمارية الأوروبية، والشوارع المستقيمة، والحدائق والميادين، إلى الواجهة الأمامية للإمبراطورية الروسية، الموجهة ثقافيًا نحو الغرب، والتي نحتتها يدي “الجالس على العرش” بطرس على حساب تاريخ المدينة القديمة- موسكو. من المعروف أن سانت بطرسبرغ صممت من قبل بطرس وبناها خلفاؤه كواجهة رمزية للسلطة المتطورة التي أنشأها بطرس بشكل متلاحق.
لكن لم يتم تأسيس بطرسبورغ مع بداية إصلاحات بطرس، ولم تصبح عاصمة على الإطلاق حتى عام 1714، أي قبل وفاة القيصر بعشر سنوات. وحتى المرسوم الخاص بنقل العاصمة إلى ضفاف نهر نيفا لم يصدر أصلاً، فقد نفذ القيصر نقل العاصمة دون إشعار مسبق – إذ، في إمبراطورية استبدادية، فإن العاصمة توجد حيث يوجد القيصر. من ناحية أخرى، أصبحت موسكو شبه مقاطعة لمدة قرنين من الزمان، “أرملة تحمل اللون الأرجواني”، تتلاشى أمام العاصمة الجديدة الأصغر سنًا.
لكن الحديث عن موسكو في بداية عهد بطرس، عن “روما الثالثة”، التي نمت وتضخمت (على الرغم من غارات التتار والعديد من الحرائق)، حيث وفي تلك اللحظة كان عمر هذه المنطقة ما يزيد على خمسة آلاف سنة، هذا عدا الكرملين وكاتدرائياته وقاعاته؟ فما هي المساحة الحضرية ذات القبة الذهبية والحجر الأبيض التي ورثها بطرس في بداية عهده، عندما لم يكن هناك حديث حتى عن بطرسبورغ؟
روما الثالثة كانت مدينة فضفاضة، فوضوية، غير منهجية ومهملة، في أواخر القرن السابع عشر، فبإرادتها الحرة، لم تفكر حتى في الخروج من الطين النتن، الذي انتشر في العصور الوسطى بعد الأورطة الذهبية. بصرف النظر عن الكرملين وكيتاي غورود (مدينة الصين)، كانت موسكو قبل عهد بطرس، وفي الواقع كأي مدينة روسية أخرى في ذلك الوقت، عبارة عن تجمع من الداتشات (البيوت الخشبية أو الحجرية) تجمعات عملاقة، “قطاع خاص”، إقليم من المساكن الفردية، تمتد أمامها الحدائق والبساتين، تقطعها الشوارع -والطرق الكبيرة والصغيرة، إلى ممرات متعرجة، وممرات بين الساحات والممرات. كانت الشوارع الكبيرة مليئة بالفوضى، كأنها أثقال على الصدر والروح، مع بترتيب عبثي للمباني الصغيرة -المتاجر، والأكشاك الخشبية، محلات للحلاقة، والحدادة. في موسكو، كما هو الحال في أي مدينة روسية تقريبًا في تلك الحقبة، لم تكن هناك شوارع بالمعنى الحديث -كانت بالأحرى طرقًا وممرات، تتبع التضاريس، وتقطع طريق التطور الفوضوي غير المتكافئ لقطع الأراضي الكبيرة والصغيرة المحاطة بأسوار عالية.
منذ عهد إيفان الرهيب، الذي توفي قبل مائة عام قبل بطرس الرهيب، فإن موسكو المدينة الخشبية عرفت عشرات الحرائق تقريبًا حتى الرماد، ثم كان يصار إلى إعادة بنائها، تمت إضافة عدة مئات من المنازل الحجرية الجديدة لـ “النخبة” – من جميع الأنواع من البويار، والكتبة والتجار الأثرياء. صحيح أن هذه المنازل كانت غير مرئية تقريبًا ولا يمكن مشاهدتها من الشوارع -كانت جميعها مخبأة في أعماق الأفنية والحدائق، محاطة، كقاعدة عامة، بمطابخ خشبية واسطبلات وأكواخ للخدم والأقنان والحظائر والأقبية والخزائن. على طول الشوارع كانت هناك صفوف متواصلة من الأسوار المزدوجة منعاً لتسلل اللصوص و”الغرباء” مع البوابات عريضة، ومنافذ ضيقة تمكن من رؤية العابر الغريب.
ذكر المؤرخ البارز لتاريخ موسكو بطرس سيتين في أعماله، أنه في بداية عهد بطرس الأول لم يكن هناك في موسكو، ولا رصيف حجري واحد، باستثناء مساحة صغيرة مرصوفة بالحجارة في الفناء البطريركي في الكرملين –فقط كانت هناك الأرصفة المصنوعة من جذوع الأشجار وفي عدة شوارع مركزية، حتى لا تغرق عجلات عربات التي تشدها الأحصنة، وعربات القيصر والنبلاء في الوحل أثناء مغادرتهم الكرملين إلى القصور والأديرة القريبة من موسكو في رحلة للصلاة. لم يكن ركوب عربات الخيل على الأرصفة الخشبية كان مرهقاً، حيث كانت تتعرض للخراب بسرعة، ونادراً ما كان يتم إصلاحها، وقليلاً ما كان يتم تبديلها، وغالبًا ما كانت تسرق وتنهب الألواح الخشبية الجديدة على الأرصفة. كان يتم وضع أرصفة جديدة فوق تلك القديمة، التي كانت تتحول إلى سيئة، وكانت تغرق في عمق التراب.
معظم الشوارع الفرعية وجميع الأزقة تقريبًا لم تكن ممهدة على الإطلاق، كانت دائماً موحلة طوال الخريف والربيع، يغمرها الطين والوحول، في الشتاء كان بالإمكان السير عليها على الثلج المتراكم. كان الطين في شوارع موسكو، والذي كان يعيق الحركة، وتغرق فيه الأحذية وعجلات العربات وعربات، ممزوجاً بشكل كثيف بالرواسب والفضلات وجميع أنواع الجيف. يمكن القول إنه ليس دائماً كان عمال النظافة يقومون بتنظيف شوارع “روما الثالثة” الروحانية (على عكس روما الأولى) حيث كان المشهد مختلفاً.
في بداية عهد بطرس الأول لم يكن هناك إضاءة في للشوارع في موسكو. في الأمسيات المظلمة، كان المشاة يتحركون في الظلام أو على أضواء الفوانيس والشموع، وكانت ترافق عربات النبلاء مجموعة من الخدم حاملي المشاعل. كان ممنوعا السير في الشوارع ليلا. خلال عطلات الأعياد، عند مفترق الطرقات، أو المصلبيات، التي كانت بمثابة ساحات وميادين، كانت يتم حرق براميل من الصمغ، وفي الشتاء – كانت تشعل النيران الي يلتف حولها العديد من التجار، والمارة واي طل عن العمل، ويدفئون أنفسهم.
في القرن السابع عشر، لم تكن هناك أماكن عامة بالمعنى الحديث للكلمة-أو ساحات وشوارع وبالطبع شوارع للمشاة أو الجسور ذات المناظر الطبيعية الواقعة على نهر موسكو. تم الانتهاء من بناء أول جسر رئيسي، ما سمي بجسر الحجر العظيم، أو جسر جميع القديسين، فقط في عام 1687، قبل عامين من وصول بطرس إلى السلطة. اعتبر السكان أي ساحة أو «مصلبية» مكانًا للبازار العفوي. لم تكن هناك أي حديقة عامة. ذلك انه لم تكن هناك أية حاجة لها: معظم الساحات الخاصة الكبيرة والصغيرة في موسكو لديها حديقة خاصة بها -حديقة فواكه وثمار وخضار. إن مدينة مثل مدينة موسكو في نهاية القرن السابع عشر -بداية القرن الثامن عشر، بالطبع، لا يمكن أن تصبح واجهة للتحديث والتجديد للموسكوبية الجديدة، والتي كان يحلم بوجود مدينة كهذه المتربع الأبدي على العرش.
في نهاية صيف عام 1698، عاد القيصر الشاب بطرس الأول على عجل إلى موسكو من رحلته الأولى والتي استمرت لنصف عام في أوروبا مع السفارة الكبرى. لم يسبق أن غادر القيصر أو الدوق الأكبر لموسكوفيا بلاده. خلال الرحلة، زار بطرس المدن الأوروبية -ريغا وكوينيجسبرج وأمستردام ولاهاي ولندن وديرزدن وفيينا. عاش في أمستردام ولندن لعدة أشهر. في هولندا وإنجلترا، بحلول الوقت الذي تلاشت فيه الثورات البرجوازية قبل 100 و50 عامًا، شرع كلاهما في طريق الرأسمالية -كانت هذه البلدان الأكثر تقدمًا في العالم من الناحية الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والعلمية والتقنية – مع وجود للبرلمانات، والمساواة بين المواطنين أمام القانون، الحكم الذاتي المدني، وحرمة الملكية الخاصة، والتجارة والصناعة المتطورة. لقد بدأت بالفعل “حقبة جديدة” للبشرية هناك. في بلدان أخرى من أوروبا الغربية -فرنسا والسويد والدنمارك والولايات الألمانية -على الرغم من الحفاظ على بقايا العصور الوسطى، إلا أن القنانة في نسختها الموسكوبية إما لم تكن موجودة أو اختفت بالفعل.
تنقلّ بطرس الأكبر لمدة عام ونصف في المدن الأوروبية، وقد صُدم بالجانب المادي للحياة اليومية الأوروبية: مستوى المعيشة، والمدارس والجامعات، والتكنولوجيا، والمصانع، والأكاديميات، ومركز سك النقود، والمراصد، وأسواق الأوراق المالية. بالطبع، كان مندهشًا أيضًا من تنظيم الفضاء الحضري، الذي لم تعرفه موسكو من قبل: العديد من المباني البارزة في عظمتها وهندستها المعمارية، والمباني الحجرية الصلبة في المدن ذات خطوط الشوارع المتسقة إلى حد ما، ورصف الشوارع المستمر بالحجر، الفصل بين ممر العربات والأرصفة للمشاة، وتنظيم الساحات، وقنوات أمستردام مع حركة سفن مكثفة، والحدائق العامة وحدائق المدينة، وإضاءة الشوارع في الليل-مصابيح الزيت، والنظافة النسبية في الشوارع الرئيسية -لم يكن أي من هذا موجودًا في موسكو في نهاية القرن السابع عشر.
بالعودة إلى موسكو في أيام ما قبل الخريف الممطرة في آب 1698، إذ بعد إعدام الرماة المتمردين (الستيرلتسي –الحرس الخاص) على نطاق واسع، بدأ “العاهل على العرش” في العمل، من بين أمور قام بها، بذل جهود كبيرة لفرض تغيير عاصمته، كي تتحول إلى ما يشبه المدينة الأوروبية. بعد أن علق القيصر بطرس جثث الرماة مقطوعة الرأس على جذوع الأشجار المتدلية من كوات الكرملين، بعد أن غرس الرؤوس المقطوعة على الأوتاد، انتقل بطرس إلى المرافق الحضرية بطريقة غربية -أولاً وقبل كل شيء، أمر بتطهير الميدان الأحمر من الأبنية غير المصرح بها والقائمة ليس في الأماكن المخصصة لها “-منها الأكواخ “والبسطات والخيم. أثار هذا الأمر إعجاب أي عابر سبيل أو أجنبي، خصوصاً تلك الخطوات المتمثلة برغبة القيصر في “إضفاء مزيد من الروعة والجمال على المدينة”. وتعرض “المخالفون” لقرار القيصر بالتهديد بعقوبة شديدة – بالجلد والغرامة. في نفس الأيام من خريف عام 1698، أمر “القيصر التقدمي” بوضع ثمانية فوانيس زيت ليلية أمام منزله في قرية بريوبراجينسكي – وهي كانت أول إنارة دائمة للشوارع في روسيا.
السنوات التالية ، خطّت بالسوط، حيث كانت تصدر المراسيم تباعاً من قبل الإصلاحي الأول بطرس خصوصاً فيما يتعلق بأعمال التزيين والتجميل والتحسين في موسكو أخرى: في عام 1699 – صدر مرسوم بشأن تنظيف شوارع من القمامة: «حيث يمنع في موسكو وفي الشوارع الكبيرة والأزقة رمي النفايات والجيف للنفايات في أي مكان، أو في مقبل أي فناء أي أحد كان» ؛ مرسوم بشأن أعمال البناء في الكرملين والمدينة الصينية فقط منازل من الحجر على طول الخطوط الحمراء للشوارع، وليس داخل الفناء كما كان من قبل؛ مراسيم بشأن سقف المنازل بالقرميد وصفائح الحديد، وتركيب مصابيح الزيت في الشوارع، وإنشاء الأرصفة في موسكو من “الحجر البري” (المرصوفة بالحصى) وعلى حساب السكان في منازلهم، مرسوم بشأن الرسم الإلزامي للرسومات وموافقة السلطات على أي مشروع لبناء جديد (كل ما تم بناؤه مؤخرًا بدون موافقة معمارية ورسم ، يأمر الملك بتهديمه بلا رحمة) وهكذا دواليك.
بإرادة مدمر «ميراث الأجداد» المقصود القيصر بطرس، الذي وضع روسيا على رجليها (ومن أجل منفعتها)، فإن موسكو على مضض، كانت تخرج ببطء ولكن بثبات من المستنقع القديم. كانت تتحول تدريجياً وفي بعض الأماكن إلى مدينة أوروبية. لكن من الواضح أن وتيرة هذه الأعمال التجميلية في المدينة التي لم يكن يحبها القيصر (لأنها ارتبطت بذكريات قاسية من الطفولة)، عملياً لم تكن لتناسب نشاط القيصر المستبد النشط.
نادرًا ما كان يزور الكرملين في موسكو، فقط في الاستراحات «وعند انتهاء الشؤون العسكرية»، فجدرانه وأبراجه وغرفه، كانت مليئة بمؤامرات الحاشية والبويار، أخيراً أدار القيصر بسرعة ظهره لموسكو، مفتونًا بحل إقامة بديلها، حيث سيطر عليه حلم بناء المدينة الجنة، فبدأ ببنائها من الصفر على الأهواز التي تم غزوها وانتزعت من السويد للتو، في وسط الغابات الكثيفة التي يعود تاريخها إلى قرون في دلتا نيفا. في هذه الغابة بناءً على أوامره، تم دفع حشود من الأقنان الروس إلى هذه الغابات لتجفيف المستنقعات ودفع الأكوام وسحب الحجارة وتقطيعها. عشرات الآلاف منهم غطوا الأرض بسخاء بعظامهم تحت أساسات قصور ومنازل المستقبل وفق مشاريع “نموذجية”. وأصبحت موسكو الآسيوية، التي لم يغربها بطرس، شبه مقاطعة لمدة قرنين من الزمان.
من وجهة نظر حضرية بحتة، أصبحت بطرسبورغ العادية بمنازلها “النموذجية” العائدة لسكان البلدة “البارزين” و “الأثرياء” و “المتواضعين” – أول مدينة روسية أوروبية كبيرة ولا تزال حقيقية -حقًا نقيض موسكو المترنحة. بدلاً من «آسيا الذهبية الخاملة، التي كانت كثيرة القباب» -والأبراج العالية لكنائس الباروك تحت إطار القباب المصبوبة، وبدلاً من «الشوارع المنحنية» -الممتدة إلى ما لا نهاية، تم تصميم وبناء الأبنية الحجرية الناعمة «لواجهة المدينة الصلبة».
ولكن، من خلال إدراك الجزء الخارجي والتقني فقط من الحضارة الأوروبية، على الأرجح، مثله مثل العديد من الحكام الاستبداديين في روسيا لاحقا، لم يرغب بطرس في فهم العلاقة السببية بين المنظمة العامة الأوروبية وإنجازاتها التقنية والاقتصادية، أو اعتبرها غير ضرورية، بل ضارة ومثيرة للفتنة، والتي سعى إلى استعارتها بمثل هذا العطش الذي لا يعرف الكلل وزرعها في التربة الروسية.
لم يكن القيصر يريد أن يعرف أن التنوير والتقدم والازدهار ليسوا في الباروكات والقفاطين الأوروبية، وليس في الشوارع المرصوفة بالحصى والخطوط المستمرة للواجهات، وليس في النزوات الغريبة، ولكن في العقول والمؤسسات العامة: الحرية والنفس -الاحترام، حقوق الإنسان، حرمة الملكية الخاصة كانت بالنسبة للإمبراطور الروسي الأول، إن لم تكن عبارة فارغة، فمن الواضح أنه شيء لا لزوم له، وغير ضروري، ومن الواضح أنه غير مناسب للتربة الروسية.
بعد عام من عودته من الخارج، وقبل سنوات قليلة من تأسيس سانت بطرسبرغ، بدأ القيصر إصلاحًا لإنشاء حكومة ذاتية بلدية في موسكو والمدن الأخرى للمواطنين الأحرار، والتجار، والحرفيين، وإنشاء “غرفة بورمستر” “، أو” مجلس المدينة “-نسخة رسمية خارجية بحتة عن حكومة ذاتية منتخبة للمدينة، والتي رآها بطرس في أوروبا. ومع ذلك، كان بطرس بحاجة في المقام الأول إلى “مجلس المدينة” هذا من أجل تحصيل ضرائب أكثر كفاءة لحروبه المستمرة.
بعد ان أنشأ جنته الشمالية اعتماداً على خرائط المهندسين المعماريين الأوروبيين، في محاولته تقليد ونموذج أمستردام، وهي مثله المدني الأعلى. أمر بطرس بقطع جزيرة فاسيليفسكي بأكملها بشبكة من القنوات، على أمل أنه في النظام الإداري المفضل في روسيا، ستنشأ وتزدهر ريادة الأعمال الخاصة، كما هو الحال في أمستردام، إلى هنا -ستسافر القوارب التجارية على طول القنوات، وتحمل البضائع المختلفة ذهابا وإيابا. لكن استنساخ أمستردام في جزيرة فاسيليفسكي لم يحدث.
مع القنوات، ولكن بدون الليبرالية الاقتصادية والحكم الذاتي الحضري الحقيقي، لم يكن من الممكن أن تنشأ أمستردام على ضفاف نهر نيفا في بلد آسيوي استبدادي ومستعبد ومحروم من حقوقه وفاسد تمامًا. لم يستقر التجار في جزيرة فاسيليفسكي، واستقر عليها المسؤولون الصغار والمتوسطون من مجلس الزمالة الذي أنشأه بطرس ولم يكن هناك من ينقل البضائع عبر القنوات، لذلك كان لابد من ملء القنوات المحفورة قريبًا.
أراد بطرس إنشاء نسخة من أمستردام أو مدينة لندن، لكن النتيجة كانت بيروقراطية عسكرية حضرية باردة، والتي نافست لمدة 200 عام موسكو النبيلة المتعجرفة، حتى، في جولة جديدة من التاريخ، فإن عاصمة الدولة مختلفة تمامًا، والتي نشأت على أنقاض الإمبراطورية التي أنشأها بطرس، عادت مرة أخرى إلى موسكو “الآسيوية”.