في ضيافة الرئيس أوبيانغ OBIANG

في ضيافة الرئيس أوبيانغ OBIANG

جورج الراسي

إذا كنت لا  تعرف من هو الرئيس OBIANG فأنت قطعا خارج التاريخ والجغرافية، لأنه أقدم رؤساء العالم، لا تتفوق عليه في هذا المجال سوى ملكة بريطانيا اليزابيت الثانية، التي أقامت الدنيا مؤخرا ولم تقعدها بمناسبة اليوبيل البلاتيني لتربعها على العرش، لكن الملكة لا تحكم. أما الرئيس OBIANG فهو الحاكم الفعلي لبلاده غينيا الإستوائية منذ 43 عاما بالتمام والكمال. فقد وصل إلى السلطة بانقلاب عسكري نفذه في 3 آب/ أغسطس من عام 1979 بصفته عقيدا في الجيش، وحل محل أحد أقاربه الذي حكم البلاد نحو عشر سنوات منذ استقلالها عن اسبانيا في 29 أيلول/ سبتمبر  من عام 1968.

في صبيحة يوم 15 أكتوبر/ تشرين الأول من عام 1990 (أذكر ذلك التاريخ جيدا لأنه يصادف عيد ميلادي)، زارني أحد الزملاء الأفارقة من الذين كانوا يعملون معي في مجلة DIALOGUE التي  كنت أصدرها في باريس، وقال لي مبتهجا: “مررت بالأمس على  سفارة غينيا الإستوائية فاخبرني السفير أنهم يودون دعوتك لزيارة العاصمة MALABO  وإجراء حديث مع الرئيس OBIANG فما رأيك…؟

طبعا رحبت بالفكرة ترحيبا شديدا بخاصة وأن المجلة كانت تولي اهتماما خاصا لأوضاع القارة الإفريقية، وقد رفعت على غلافها شعار: “مجلة إفريقيا والعالم العربي…

Le mensuel de l’Afrique et du Monde Arabe“…

مع العلم أن أكثر من ثلثي العرب هم من الأفارقة بالمعنى القاري للكلمة…

لا بد من الإشارة هنا إلى أن هناك ثلاث دول تحمل اسم “غينيا”، أهمها غينيا التي عاصمتها كوناكري، وتعرف باسم Guiné Conakry التي استقلت في شهر  تشرين الأول / أكتوبر من عام 1958، وكانت في طليعة الدول الإفريقية المستقلة بزعامة المناضل أحمد سيكوتوري، أحد اقطاب العالم الثالث ودول عدم الانحياز آنذاك مع عبد الناصر وثيتو ونهرو… ويبلغ عدد سكانها نحو 15 مليون نسمة، وتعتبر بلدا فرنكوفونيا…

وهناك غينيا- بيساو Guinée- Bissau، وهي بلد صغير يقع جنوب السنغال، لا يتجاوز عدد سكانه مليوني نسمة، كان مستعمرة برتغالية، ونشأت فيه حركة تحرر ناشطة..

وهناك ثالثا غينيا الإستوائية La Guinée  Équatoriale، وهي أصغر الثلاثي، إذ لا يتجاوز عدد سكانها مليون ونصف مليون نسمة،  كانت مستعمرة اسبانية وهي محور حديثنا هنا…

اسم رئيسها  الكامل هو OBIANG Ngema Mbasogo، واحتفل عام 2019 بمرور أول أربعين سنة على تسلمه مقاليد الأمور… وقد تجاوز اليوم الثمانين من العمر…

سفر مع الساحر…

لا أخفيكم أن أول ما فعلته بعد استلام الدعوة أنني فرشت على مكتبي مجموعة خرائط لعموم إفريقيا، بحثا عن البلد الذي أقصده، ومع الاستعانة بعدسة مكبرة اكتشفت بقعة سوداء صغيرة في عمق خليج غينيا، مما زاد من درجة حشريتي لاكتشاف تلك البلاد الغائرة في عمق القارة، مع العلم أن مساحتها تصل إلى نحو ثلاثة أضعاف مساحة لبنان، لكن موزعة بين جزء قاري وجزيرة محاذية في عرض المحيط..

على كل حال، لم تمض أيام قليلة حتى اتصل بي السفير يشكرني على قبول الدعوة، ويخبرني أنه سيرافقني في السفر وسيهتم بكل التفاصيل المتعلقة ببطاقات الدرجة الأولى والتأشيرات وبقية الاستعدادات، وتم الاتفاق على أن نلتقي في المطار في الوقت المحدد. وهكذا كان..

في الطائرة جلس السفير على يساري، وجلس على يميني شاب إفريقي، مما أثار فضولي، فسألته عن وجهة سفره. 

أجاب:

Malabo

– هل أنت صحفي…؟

– لا..

سبحان الله – قلت في نفسي – يبدو أنها جهة مقصودة ولا علم لي بذلك…!

– هل تعمل هناك…؟

– لا

– هل لديك أقارب أو أهل  هناك..؟

– لا

–  لا بد إذن أنك رجل أعمال…

– لا… أنا ذاهب لمقابلة الرئيس…

(سبحان الله قلت في نفسي مرة أخرى… يبدو أن الرئيس ينظم دعوة عامة…). واستطرد مضيفا:

– إنني أزور الرئيس مرتين في العام لطرد الأرواح  الشريرة من حوله..!!

– نعم..؟؟

– أنا أحمل له في كل مرة حقيبتين من التمائم والتعويذات (يسميهما الأفارقة gris-gris) التي تحميه من عيون الحساد ومن دسائس المتآمرين…

(آخ لو سمع بك الحكام العرب.. قلت في نفسي مرة أخرى…).

– ما اسمك..؟

– مامادو…

– اسمع يا مامادو… يجب أن تعطيني على الفور كل أرقام الهواتف وعناوين الأماكن التي تتواجد فيها في فرنسا وخارجها.. وسوف تكون أول شخص أريد رؤيته عند عودتي إلى باريس… سيكون لديك عمل عندي على مدار العام..!!

عند هذا الكشف العظيم زاد استمتاعي بالرحلة.. وعلى يميني طارد الأرواح الشريرة.. فقد  أيقنت حينها أنني مسافر إلى عالم آخر.. وأن أبوابا كثيرة كانت مغلقة ستفتح أمامي من الآن فصاعدا…

على خطى فينيقيا

لكي تسافر إلى Malabo من باريس ليس هناك خط مباشر. عليك أن تسافر على الخطوط الجوية التابعة للكاميرون، إلى الكاميرون أولا، ومن ثم تنقلك طائرة أخرى إلى مالابو بعد التوقف في مدينة Douala العاصمة  الاقتصادية..

هنا في مطار هذه المدينة  تراءى لي مشهد خرافي.

هل تتصورون من وقف حيث أقف الآن… قبل نحو  ثلاثة آلاف سنة..؟

– إنه الرحالة الفينيقي حانون، الذي أرسله فرعون مصر لكي يستكشف له أعماق القارة… ربما سمعتم به…

وقف حانون في هذه النقطة بالذات التي أقف فيها الآن، فرأى جبلا يقذف نارا.. جبل بركاني.. كتب عنه في سجل رحلته: “لقد رأيت عربة الآلهة…!”، استعار مشهدا من الميثولوجيا الفينيقية…

على متن طائرة بخارية

ما كدت أستفيق من صدمتي الساحر ورحالة فينيقيا، حتى وصلت الطائرة الثانية التي ستنقلنا  أخيرا إلى مالابو…

لا شك أنكم سمعتم بالمراكب البخارية التي يركبها القراصنة لاصطياد ضحاياهم في عرض المحيط.. تمخر الأمواج والرب راعيها بقوة دفع البخار..

لكنكم قطعا لم تسمعوا بالطائرات البخارية.. كتلك الطائرة التي نستقلها الآن، والتي ستنقلنا إلى مقصدنا…

ولولا وجود طارد الأرواح الشريرة إلى يميني لما تجرأت على ركوبها…

كل الطائرات التي أعرفها بجناحين، إلا تلك الطائرة بدا لي أنها بجناح واحد…

لا تتصورون كيف كانت تتمايل يمنة ويسرى، وكأنها تقوم بعرض من الألعاب البهلوانية لم يطلب أحد منها أحد القيام به…

هل تصدقون أنها عبرت وسط غابة من الأشجار الباسقة – ربما كانت من أشجار جوز الهند أو الكاكاو أو ما شابه..- وأنه كان من الممكن جدا أن تترك أحد جناحيها معلقا على غصن شجرة.. وربما الجناحين معا…

بدا لي بعد هذا  أن الطيار ابن بلد… ويعرفها شجرة شجرة…

في حضرة الرئيس

وصلنا سالمين والرب راعينا…

جرى استقبالي بحفاوة تليق بصحفي آت من باريس لمقابلة الرئيس.

أخذت إلى فندق متواض، هو أفضل ما كان متوفرا في ذلك الوقت.. يشبه إلى حد ما تلك البيوت البقاعية المعدة لتوضيب الكبتاغون… لكنه لطيف وعلى مرمى حجر من وسط المدينة…

قبل أن يتركني مرافقي آخذ قسطا من الراحة، بعد كل تلك المفاجآت قال لي مبتهجا: – سأخبر السفاره الفرنسية أن صحغيا جاء من باريس لمقابلة الرئيس…

قلت له في نفسي: حل عني أنت والسفير… وشكرته بلطف على  تلك اللفتة التي لم أر ضرورة  لها…

في صباح اليوم التالي، اليوم الموعود، جاءت سيارة الرئاسة لكي تأخذني إلى القصر الرئاسي حيث الرئيس بانتظاري.. أدخلت إلى غرفة أنيقة مفروشة بكنبات وثيرة من القماش الأحمر… وقد استقر عليها عدد كبير من الضيوف… أدركت فورا أنهم أعضاء مجلس الوزراء..

 رحب بي الرئيس وجلست قبالته، ودارت المقابلة على ما يرام.. لكن ما لم أكن أعرفه أنه كان يجري بثها على الهواء مباشرة على الشاشة الصغيرة.. بحيث أنني أصبحت أشهر من نار على علم في البلاد بأسرها. بين ليلة و ضحاها…

أهم ما جاء فيها، طلب الرئيس من الدول الكبرى إلغاء ديون الدول الفقيرة (واضح أنه كان يعتبرني وصيا على الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن.. وأنا عاجز عن إيفاء ديوني الخاصة..)… وفجر قنبلة صغيرة بإعلانه عن اكتشاف النفط بكميات  كبيرة جدا في مياه خليج غينيا، معلنا أن الإنتاج سيبدأ في العام المقبل…! (قلت في نفسي ألم يكن بإمكانك أن تؤخر دعوتي إلى العام المقبل..؟) لأن ما شاهدته حتى تلك اللحظة كان يوحي بأن علي أن أمد يدي على جيبي لدعم ميزانية البلاد…

على كل حال، واضح بأن طارد الأرواح الشريرة قد أدى دوره على  أكمل وجه، بإبعاد وزراء الطاقة الذين نعرفهم عن ثروة غينيا النفطية…!

تكريما لي على جهودي جرى في اليوم التالي تنظيم جولة لي سيرا على الأقدام في أرجاء المدينة.. لم تكن تخلو من المفاجآت.. فقد أخذوني لزيارة أهم ثلاث مخازن كبيرة موجودة في العاصمة super-market… تبين أنها كلها مملوكة من طرف مهاجرين لبنانيين! كلهم شيعة من أهل الجنوب.. بقي عالقا في ذهني اسم واحد من بيت بيضون… (أرجو أن لا تكون قد سمعت بهم المصارف اللبنانية!)..

لكن تلك لم تكن المفاجأة الوحيدة… فقد وعدوني بسهرة راقية…

وفي مساء ذلك اليوم عدنا إلى شوارع تلك المدينة المتواضعة، وإذا بنا فجأة أمام مدخل درج مضاء بألون فاقعة… نزلنا  بضع درجات إلى الطابق السفلي، فإذا بنا في عالم آخر… باريس.. لندن.. هونغ كونغ.. مربع ليلي يضاهي أرقى المرابع: موسيقى صاخبة.. حوريات يتمايلن في كل اتجاه.. فاتنات يتبرعن بكل الخدمات.. كؤوس تدور بكل ما يخطر على بال..

لكن المفاجأة لم تتوقف هنا.. إذ جاؤوا بصاحب المربع لكي أتعرف عليه.. لعل وعسى.. إذا به لبناني من آل سكر من بلدة حمانا… رحب بي أيما ترحيب… (وبعد شوي قلبها دبكة..)… وين في لبناني في دبكة…

علمت بعد ذلك من ألسنة السوء أنه مقرب جدا من الرئيس، وأنه جعل من مربعه  “مركز  تنصت”، إذ زرع ميكروفونات في كل زوايا الـ Super night club لكي ينقل  للرئيس كل ما يدور فيه، بخاصة وأنه المكان الوحيد في المدينة الذي يرتاده الوزراء وذوي الشأن…

انتهت السهرة على سلام.. وعدت إلى الفندق وقد تجاوزت الساعة الواحدة صباحا… وما كدت أدخل غرفتي وأضع رأسي على الوسادة، حتى سمعت قرعا خفيفا على الباب… الله يستر.. تحاملت على  نفسي وقمت  أفتح الباب، وإذا بي أمام شتلة سمراء جدا  تتمايل غنجا ودلالا  وتقول لي: – أريد أن أقضي الليل معك…

عند هذا الحد تتوقف الحكاية…

وأترك لأفكاركم الملتوية أن تذهب حيث تشاء…

Visited 12 times, 1 visit(s) today
شارك الموضوع

جورج الراسي

صحفي وكاتب لبناني