مظفر النواب: قمت بعمليّة في فلسطين… كتبت عن الحشاشين… وأكلت مع فلاحي الأهوار
حسام الدين محمد
اختبأت هذه المقابلة في أوراقي قرابة ربع قرن.
كان مظفر النواب في زيارة إلى لندن أواخر تسعينيات القرن الماضي، وكنت، أنا والصديق الشاعر الراحل أمجد ناصر، نعمل على ملف يتضمن إقامة حوارات مع الشخصيات الثقافية العراقية المؤثرة لاستفتائها حول كيفية الخروج من الاستعصاء الذي كانت البلاد تقبع فيه. كان صدام حسين ما زال على سدة السلطة، وكان العراقيون يعانون من وطأة العقوبات الغربية والاستبداد. وكان «انتظار البرابرة» كما تقترح قصيدة قسطنطين كافافيس، هو الحلّ الوحيد!
بدا الشاعر، خلال المقابلة، رقيقا أنيسا. اختفت صورة المسرح العالي والشتائم السياسية، والقصائد الشيوعية التي «يداعي» فيها المنجل «الإقطاعي» ويرفض المناضل إعلان «البراءة» من الحزب.
بدا الشاعر اللطيف بعيدا عن أسباب شهرته، التي اعتدنا على سردها في الحكايا التي كنا نتداولها عنه، ومنها رفضه الصارم لطلب مسؤول عربي خلال أمسية شعرية بأن «يستثني» (أي يستثني زعيم البلاد) من تعميمه الذي لا يستثني فيه أحدا من الشتيمة.
لم أعرف، يقينا، السبب الذي جعلني أحجم عن نشر المقابلة (وهذا، على أي حال، شأني عموما في شؤون الكتابة والنشر) لكن وفاته، وحيدا، بضيافة كريمة من أحد أمراء الخليج الذين كانوا أحد مواضيع هجائه، وحديث صديق مشترك لي عن عزلته ويأسه قبل وفاته جعلاني أبحث عنها.
انضافت بعد ذلك المعارك التي ثارت حول مظفر، والاتهامات له بقصور الوعي الأيديولوجي، والريفية، والطائفية، والشتائمية، وتجريده من دور مفترض له في تطوير الشعر العربي، وتقويم أثره على الشعر العراقي المحكي، والعربي الفصيح، ثم بحثي في مسار حياته الغرائبي، كلها أمور جعلتني أرى أن استنهاض أجواء المقابلة الآن، والتعليق عليها، مناسبة مفيدة، نقديا وتاريخيا، لإعادة قراءة النوّاب، سيرة وشعرا.
كان ضروريا أن أسأل مظفر، في بداية الحوار، عن تاريخ أسرته، فقال إن القصص التي سمعها من العائلة أن أصلها من الجزيرة العربية، وأنها هاجرت في أيام العباسيين إلى العراق، ثم هاجرت مجددا، بسبب الاضطهادات الدينية إلى الهند، حيث شاركت في حكم المناطق الشمالية منها حتى دخول الاستعمار البريطاني، حين خيروهم بمنفى فرجعوا للعراق.
استعدت، وأنا أقرأ هذا الرد، الآن بعد أن مرت مياه كثيرة تحت الجسور، متابعتي مسلسلا تاريخيا هنديا، عن الهند بعد سنوات قليلة من الاستقلال عن بريطانيا، على «نتفلكس» مؤخرا، حيث تظهر إحدى شخصيات الدراما، في شخص زعيم لأحد أقاليم الهند تحت اسم عائلة النواب وكان في تلك الدراما أيضا مظاهر اضطهاد للشيعة في هند الاستقلال.
من الضروري الإشارة أيضا إلى أن لفظة نواب، كانت ما تزال تستخدم، في اللغة الهندية، موروثة من الإمبراطورية المغولية، للإشارة إلى الحاكم المحلي المسلم لمنطقة من الهند، أثناء وبعيد الاحتلال البريطاني للهند.
سألت النواب إن كانت هناك نظرة إليهم، كعائلة، كغرباء، فقال إن تلك النظرة كانت تواجه كثيرين في العراق، وأن سلطات الاحتلال المتكررة، من عثمانيين وفرس، كانت تقوم بإقصاء جزء من العراقيين بدعوى تبعيتهم لتركيا أو إيران، وهو ما فعلته سلطة صدام أيضا بطرد الكثير من العراقيين واعتبارهم إيرانيين.
السياسة والدين في تاريخ عائلي
وجهت أسئلتي بعد ذلك للتقصي حول كيف تشكّلت الأساسات الأدبية لشخصيته وكتاباته. قال مظفر إن «من الصعب أن أنسب كتاباتي لأشخاص محددين» لكنّه أكد إعجابه بشاعر بعينه: المتنبي. لماذا؟ سألت مظفر. «لأنه في شخصية المتنبي تبلورت صراعات عصره».
ألا ينسحب هذا الجواب على النواب نفسه؟
سلّطت المقالات التي نشرت أخيرا أضواء لم يذكرها النواب في مقابلته معي، ومنها ما نشره الروائي السوري ابراهيم الجبين، في مقالة له عن أن النواب اسماعيلي المذهب، ولم يكن معلوما لي، أن جد النواب كان ممثل الأغا خان في العراق، وأن منزلهم في شريعة (جادة) النواب في بغداد، كان مركزا رسميا للمذهب.
تفحص هذا التاريخ الطويل الديني – العائليّ، الذي تندمج فيه السياسة بالدين بشكل يصعب فصمه، يمكن ان يقدّم تفسيرا مهما لشخصية النواب الشعرية والسياسية، بما في ذلك النزوع الجارف لديه للانشقاق عن السرديّات الدينية – السياسية الكبرى، والتحاقه بالمهمشين، كما حصل في انضمامه لـ»القيادة المركزية» المنشقة عن الحزب الشيوعي الرسمي.
تبدو حياة النواب هنا فصلا من كتاب كبير للتداخل، أيضا، بين الشيوعيين، والشيعة عموما، بالتبادل بين قراءة ذلك ضمن سياق التمرّدات التاريخية الشيعية على السلطات المركزية الإسلامية، وقراءته ضمن التأثر المتبادل بين الحزب والشيعة، الذي وصل ذروته في دخوله مدن «العتبات المقدسة» وانخراط بعض الشيوخ فيه، بحيث أصبحت عاشوراء وسيرة الإمام الحسين وواقعة الطف في كربلاء مناسبات للعمل الجماهيري الشيوعي.
تتناسب، ضمن هذا السياق، الشخصية التاريخية لآل النواب، الإسماعيليين القادمين من الهند، مع الانشقاق اليساري على الحزب الشيوعي، والذي قاد تمردا فاشلا في الجنوب، وتندرج في ذلك تجربة النواب في أهوار العراق، مرورا بسجنه والحكم عليه بالإعدام وفراره إلى إيران ثم إعادة تسليمه لسلطات العراق، وتحوّله كذلك إلى رحالة ثوري أممي، في ارتريا وظفار واليمن (يحكي النواب عن مشاركته حتى في عملية فدائية واحدة في أغوار فلسطين).
بالعودة إلى المتنبي، يمكن اعتبار جواب النواب تقليديا، فهناك عدد كبير من الشعراء العرب صرّحوا عن إعجابهم بالمتنبي، أو اعتبروه مثالهم الأعلى، لكن جذور النواب «التاريخية» للاقتراب من نار المتنبي اللاهبة تبدو أكثر إقناعا.
كنت قد ترجمت مادة لولفهارد هاينريش، بروفيسور اللغة العربية في جامعة هارفرد، نشرت في مجلة «نزوى» عام 1999، يناقض فيها آراء باحثين قبله، مثل بلاشير، ماسينيون، وطه حسين، تعتبر المتنبي قرمطيا، قائلا إنه لا معنى لادعائه النبوة «إلا إن كان يأمل أن يعتبر الإمام السابع محمد بن إسماعيل» متسائلا في أي فرقة دينية يمكن أن يكون لمزعم النبوة معنى؟
كانت الكوفة، في مراهقة المتنبي، «حاضنة للغنوصية الإسلامية» وكانت «الفرقة الإسماعيلية، قد بدأت بإعادة كتابة أساطيرها الغنوصية» لكن فكرة تجلي شخص بشري كاشفا عن ألوهيته لم يكن معروفا في الإسماعيلية، لكن في فرق غنوصية أخرى من «الغلاة» ومنهم أتباع اسحق الأحمر وابن نصير، الذي انتشروا في منطقة حلب واللاذقية.
يتجاهل هذا التحليل أن الإسماعيلية أنتجت وقائع يتم فيها تأليه أشخاص، كما حصل في شخص الحاكم بأمر الله، كما تتجاهل النزوع الشخصي لشاعر من طراز المتنبي، والذي أصبح طرازا يتتبعه شعراء آخرون، وأن النزوع لتأليه للشخصيات المقدسة دينيا يعبّر عن نزوع شعبيّ دينيّ موجود حتى ضمن كافة الأديان والمذاهب.
غير أن ما يهمّ في التدليل على إحساس النواب العميق بقرابته مع المتنبي، ليس الاجتهادات اللاهوتية، أو «الحاضنة الغنوصية» الإسماعيلية فحسب، بل العلاقة العضوية للشخصين بالتاريخ السياسي – الديني للمنطقة العربية عبر الشعر والسيرة العجيبتين.
اختار النواب في مقابلتي القديمة هذه معه على اعتبار النزوع «النبوي» لدى المتنبي أمرا متعلقا بشخص الشاعر لا ميوله الدينية، حيث قال إن «الاعتداد الكبير بنفسه كان في مواجهة التفكك. هذه لم تكن غطرسة. حين يظهر شاعر معتد بنفسه ويتكلم بصدق فهذا ناتج عن ضرورة.» وأكد النواب إن المتنبي «لم يكن مغرورا بل كان يحتج بكبريائه على الانحطاط الحاصل». الكبرياء، بهذا المعنى، «كبرياء تواجه فيها عصرك. لكن التكبر على الناس هذه قضية أخرى».
تقدّم سيرة المتنبي، في الحقيقة، إضاءات أعمق على قضايا أخرى في شخصية وسيرة النواب، وبينها مسألة الإقذاع في الشتم، ومعلومة لكل قراء المتنبي أن القصيدة التي تسببت في قتله، كانت قصيدة مشينة لتاريخه، ففيها هجاء شائن ومتشف في شخص كان ذنبه أن قوما قتلوا أبيه وسبوا أمه، فكتب فيه قصيدة «ما أنصف القوم ضبّة وأمه الطرطبة» وعيّره في «القصيدة القاتلة» (والبائسة) تلك بالوصف الذي اشتهر النواب باستخدامه ضد الزعماء العرب.
مشهورة أيضا قصيدة المتنبي في هجاء كافور الإخشيدي، وفيها ما يسيء لشخص بلونه، وهذا كان، حتى في مقاييس ذلك الزمن، معارضا لأخلاق الإسلام.
تجنب مظفر الحديث عن شعراء عرب يحبهم. «أحب قصائد معينة وليس شعراء». «أحب القصائد التي تلائم فهمي ومزاجي ومقدار استيعابي للقصيدة. أحس من بدايتها أنها قصيدة جيدة تدل على خيال الشاعر». وهذه القصائد التي أحبها مظفر كثيرة، لكنّه، على الأغلب، قال هذا، كنوع من حسن التخلص.
القدس عروس: إشكاليات الرؤية الجندرية
يثير التأمل، في هذا السياق، أن انتقاد النواب تركز على مسألة إقذاعه وهبوط الشعريّة لديه حين تصعد السرديّة الطائفية، كما أشار إلى ذلك الأكاديمي الفلسطيني – السوري أحمد نسيم برقاوي، أو التناقض الكبير في مستويات شعره السياسي وغير السياسي، كما أشار كثيرون، بينهم الأكاديمي السوري محمد الخليل، لكنني لم أقرأ، ضمن ما قرأت من آراء، نقدا له على تهافت الرؤية الجندرية لدى شاعر كانت الشيوعية واليسار مصادره الفكرية، كما حين يُشتم الزعيم الذكر باعتبار أمه الأنثى مومسا، أو حين تعتبر فلسطين «عروسا» تغتصب.
تضاعف هذه الاستعارات الجندرية المزعجة من تهافت تلك الأشعار التي انتُقدت، ولا يفيد كثيرا الدفاع عنها باعتبارها نسيج السياق الزمنيّ لصاحبها، فنحن نتحدث عن شخص شيوعيّ من عائلة دينيّة (أي يُفترض، أخلاقيا، ألا تشتم الناس بأمهاتهم) كما أننا نتحدث عن شخص كان شائعا عنه أنه لم يكن «تقليديا» في أهوائه الجنسية، ولا يمكن ألا يدرك مطاحن «الصراع الطبقي» والفقر، وأن الحروب تخلّف، بالضرورة، ظروف بيع الأجساد والأرواح.
أما تمظهرات الطائفيّة في سيرته أو شعره فتحتاج مبحثا طويلا، ولا بأس مع ذلك، أن نشير إلى فكرة أن الهويّات الثقافية، بما فيها الدين والمذهب، تخترق مظاهر السياسة في عالمنا العربي (كما يمكن تتبعها، بيسر، في ثقافات عالمية أخرى) لكن هذا لا يعني أن ظواهر السياسة الحديثة لم تخترق، بدورها، آليات اشتغال الهويات الثقافية، وأن تنتج عن ذلك حواصل هجينة من أنماط غريبة، كتأثر الحركات السياسية الإسلامية، وخصوصا الراديكالية منها، بنماذج الشيوعية وأفلام الرعب وألعاب الفيديو.
أشار مظفر أيضا إلى أهمية الجواهري حيث رأى أنه «يختلف عن كل شعرائنا العراقيين». يشترك مظفر مع الجواهري في الإعجاب بالمتنبي لكنه يعتبر أيضا أن «أثر التراث عظيم عليه. من المعري والحطيئة والشنفرى وغيرهم». يدافع النواب أيضا عن قصائد المديح لدى الجواهري حيث يرى إنه كان يعتبرها «ردا للجميل» ودائما، بالعودة للاستشهاد بالمتنبي: «فليسعد النطق إن لم تسعد الحال». يرى أيضا أن الجواهري كان قريبا من اليسار «لكنه نسيج بيئة معينة وتربية معينة جعلت منه الجواهري».
يفيد أيضا تفحص إشارات النواب إلى الشعراء الذين أثروا فيه، ومنها تخصيصه للمعرّي، الذي كان أيضا على المذهب الإسماعيلي (هناك مصادر تاريخية تقول إنه ذهب إلى بغداد للكشف عن أحوال الدعوة الإسماعيلية فيها وأن الحاكم بأمر الله دعاه إلى القاهرة) ويمكن، مع بعض التطفيف، سحب رد المعرّي على الشريف المرتضى بتلميح من قصيدة للمتنبي، على مواقف النواب التي ميّزته في السياسة والشعر عن التيّار الشيوعيّ – الشيعيّ العام.
تجنب مظفر الحديث عن شعراء عرب يحبهم. «أحب قصائد معينة وليس شعراء». «أحب القصائد التي تلائم فهمي ومزاجي ومقدار استيعابي للقصيدة. أحس من بدايتها أنها قصيدة جيدة تدل على خيال الشاعر». وهذه القصائد التي أحبها مظفر كثيرة، لكنّه، على الأغلب، قال هذا، كنوع من حسن التخلص.
قال النواب إنه تأثر بكل ما في التراث العربي – الإسلامي وكذلك بالآداب المترجمة للأمم الأخرى، وإن اهتمامه الأساسي هو الشعر، وأن اشتغاله تركز على تكثيف المعنى والصيغ اللغوية، والإحساس باللغة وبموسقة دلالاتها وإيحاءاتها، لكنه لم يكتف بالشعر، بل كتب أيضا مسرحية، وكان يرسم، وعضوا في جمعية الفنانين العراقيين، و»شاركت بمعارضة عديدة كان آخرها معرض في الكوفة».
لعب الرسم، كما يقول دورا كبيرا في شعره، لكن تنقله باستمرار أثّر على قدرته على الرسم. «أنا متنقل باستمرار والرسم يحتاج لاستقرار، ولذلك اكتفي بالأشياء التي أستطيع حملها سريعا».
يتذكر النواب أستاذه حافظ الدروبي ويقول إنه كان من جيل الرواد الأول من الرسامين في العراق الحديث. «كان في بعض المحاضرات في مرسم في كلية الآداب يستخدم فانوسا سحريا، ويضع كونشرتو بيانو لبيتهوفن أو تشايكوفسكي ويقوم الطلاب بترجمة هذا كله على شكل دوائر وألوان حيث يربط بين اللون و»التون مال الصوت» (تدرجات الصوت)!
كان الطلاب يقومون بترجمة الصوت العريض بلون فيه عرض وسعة، وهذه، كما قال النواب، كانت رابطة استفاد منها في رسمه وشعره.
عن المسرحية التي كتبها يقول مظفر إنها تتناول الفترة التي عاشها معتقلا مع سياسيين وسجناء عاديين بينهم سرّاق وحشاشون ومجانين. «لم نكن نرى السماء بسبب الضباب وأنفاس المساجين».
أثّرت على النواب، كما يقول، «جماليات بعض أقوال المتصوفة وأشعارهم، مثل الحلاج وابن عربي ورابعة وأبو يزيد البسطامي، وكان لها تأثير واضح على فهمي للحياة والإنسان» و»لكن قبل الآداب العالمية والرسم كانت التجربة الحياتية».
جلجامش في الأهوار
سألت النواب إن كان اتجاهه للشعر قد جاء استجابة لطرح سياسي فرأى إنها لم تكن استجابة سياسية تماما مشيرا إلى الأثر الكبير الذي تركته العاميّة عليه حين ذهب إلى أهوار العمارة. «أعطاني سماعي للمغنين. الأهوار والقصب وعالم المياه الذي يشبه بدء الخليقة». رأى الشاعر أنه في تلك المنطقة كان يمكن «أن تحس بجلجامش أكثر من أي مكان في العراق».
وجد الشاعر في الأهوار «عالم موسيقى» وشبهه بـ»الطين المختمر» يعجن النحات الطين عدة مرات حتى يصبح طينا مختمرا و»بمجرد أن تأخذ طينة وتشتغل عليها تجد مواضيع كثيرة» رأى في الأهوار «سيولة ورقة في عالم مائي» لكن أيضا الآلام: «الجوع والقصب ومتاعب المعيشة وكلها تنعكس قسوة في الألفاظ وصور تعبّر عن الألم بشكل حاد».
وصف النواب وضع فلاحي الأهوار وعلاقتهم القاسية بالطبيعة. «يجرح القصب الفلاح بكثافته، ويخوض الناس في الماء خلال الشتاء القارس شبه عراة. يأخذ حزمة يسميها البور يلبسه كغطاء للمنطقة السفلى من جسمه». لا تنفصل قسوة الطبيعة على الفلاحين عن قسوة البشر. «كان هناك إقطاع يبطش بأولئك الفلاحين بطشا شديدا ويسومهم أجورا زهيدة لأنه يمتلك الأرض وما عليها» والآن، كما يقول النواب، «وصلنا لشخص يمتلك الأرض ومن عليها أيضا».
أشار النواب في المقابلة إلى أنه لا يشعر، رغم كل شيء، بالعبث، وذلك فـ»الخلاص صار ممكنا».
يستعيد النواب تجربة «الكفاح المسلح» ويعيد القول إن «البؤرة الثورية» التي تم بناؤها في الأهوار «تم التآمر عليها من كل الجهات، بمن فيهم السوفييت، فاستشهد أشخاص وسجن آخرون بأحكام ثقيلة» لكن تلك التجربة، كانت برأيه، «تركت بصمة مهمة في التاريخ العراقي الحديث» وربما كان «الضياع وإشكاليات المعارضة العراقية تأكيد على صحة ما استنتج في ذلك الوقت حول الكفاح المسلح».
استذكر النواب التفاف «جماهير واسعة» حول ذلك التيار، وقال إن رفاقه «صمدوا مع الفلاحين وأكلنا وشربنا معهم شاي وخبز».
نقلت له رأي البعض الذي يقول إن شعره الأفضل هو المكتوب بالعامية العراقية فقال إنه يجد نفسه في المكانين. «هناك قضايا تكتب بالفصحى وأخرى تكتب بالعامية.» يجد هذا الاتهام مناسبة للنقد فيقول: «هناك تيار عام يدعي الحداثة. ليست الحداثة أن أريد أن أصير حديثا وأكتب بل أن أفهم معطيات العصر. أن أشعر بمشاعر الناس. أن تكون على إلمام باللون والموسيقى. هذا الاختمار هو ما يصنع الحداثة». انتقد النواب أيضا «الموضات» التي تنتهي في الغرب فإذا بها تظهر في بلادنا. «أنا أصنع حداثتي التي أفهمها والتي آخذها من شعبي وليس من صور مصنوعة في الغرب».
أكد النواب، في حينه، إنه كان لا يزال يكتب بالعامية، أما عن عودته للوزن والقافية فلا يعني «عودة للكلاسيكية». يقول: «أنا أستخدمها كضربات مثل «ضربات القدر».
قلت له إننا «كأننا أمام مظفرين»! فقال: «الوتريات مطبوعة والمسامرة مطبوعة. هناك تفعيلة وإيقاع مستعملة في الأماكن التي أريد. لا يوجد شعر يبتدئ من الصفر ومن العدم. الشرط هو ألا يخضعني الشكل لقيمه». ينتقد النواب مقولة نزار قباني «تفجير اللغة» فيقول: «ماذا يعني تفجير اللغة. اللغة تكتب بها كيف تفجرها؟».
لماذا لا تنشد قصائدك القديمة؟
أشرت على النواب إلى أن رواية «وليمة لأعشاب البحر» للروائي السوري حيدر حيدر، قدّمت تلك التجربة روائيا، فقال إن الرواية ذكرتهم بالأسماء لكنهم كانوا بعيدين عن بعضهم البعض، واكتفى حيدر بالتواصل مع قسم من الشباب الذين شاركوا بالتجربة «وصاغ عمله الروائي».
هل رأى النواب أنه كان هناك «إغماط لحقه» في السياسة والشعر؟
رد قائلا: «يهمني أن أكتب كما عشت تجربتي. قريب من الناس ومفهوم منهم ولي جسور معهم».
استنكر النواب أن يقول بعض الشعراء عن بعض أعماله «هذا مو شعر» وقال «أنا لا أقول إن شعرهم ليس شعرا لكنني أقول إنني لست ضمن إطارهم».
هل يضيرك هذا؟ هل تشعر بالأسى منه؟ سألت النواب.
«لا يضيرني» قال. «المسائل لابد أن تفهم يوما ما. عندما كتبت الوتريات كانت مفاجأة للناس ثم صارت متداولة في كل البلدان العربية وحتى إيران».
فوجئ النواب بوجود طبعات لكتبه «مثل دار صحارى. طبعوا الكتاب في القدس لكنهم بعثوا لي بنسخة، وجاءتني طبعة جديدة من إيران مغلفة غلاف كرتون».
يحتج النواب على تثبيت الناس له ضمن حقبة «الوتريات». «يأتي أحيانا أشخاص في أمسية فيطالبونك بقراءة الوتريات فأقول لهم: يا با الوتريات صار لها 20 سنة. هناك قصائد جديدة. في أمسية بلومزبري (منطقة وسط لندن) ناس قالوا لماذا لم تنشد قصائدك القديمة لنردد معك؟
حين سألته عن البلاد التي أحبّها لجأ مجددا إلى شعر المتنبي قائلا: «وكل امرئ يولي الجميل محبب وكل مكان ينبت العز طيب» مضيفا: «المكان الذي يحافظ فيه الإنسان على كرامته حتى الصحراء هو أفضل من أي مدينة تعيش فيها وحولك ذئاب تتناهشك».
يستذكر النواب إقامة قصيرة في مصر. «عشت سنة ونصف هناك. أحب القاهرة جدا ولي أصدقاء كثر. وصلتها صدفة وأنا مريض جدا فاعتنت بي عائلة الفنانة محسنة توفيق».
سألته عن «بلاد الشام» فقال: أول مكان طلعته من العراق هو لبنان ثم سوريا. كان لديه، كما قال، «معارف في سوريا لا أستطيع أن أصف الود الذي يحيطونني به» أما عن مواقف السلطات منه فيقول إنه كان «حرا في ما أقوله. أحكي بقسوة أحيانا ولا يتعرضون لي».
أقام الشاعر أيضا في ليبيا حيث حاول، كما قال، «خلق حركة أدبية. لكن الناس كانت عندها مشاغلها».
أما اليونان وفرنسا، «اليونانيون أقرب لنا بالعادات والتقاليد والمجتمع فيه بساطة المجتمعات العربية. الصديق يزورك دون موعد وهم عاطفيون» لكن، «الفرح الحقيقي هو العراق».
كان الشرق يغري الشاعر أكثر من الغرب. «ليس لديّ ولع بالبلدان الأوروبية لولا الأصدقاء. عالم أراه في السينما. أما عالم الشرق ففيه غموض إيحائي وتوازن كما فيه أناس تموت من الجوع. في بومباي عربة تلمّ الأموات يوميا. عالم يثيرك للكتابة عنه لتحكي عن هموم الناس».
تعرضنا طبعا لشؤون السياسة أيام المقابلة فسألته عن مفارقة أن الشيوعيين كانوا يتهمون البعثيين بالقدوم إلى السلطة بـ»قطار أمريكي» وأن أحد أقطابهم، علي صالح السعدي ذكر ذلك صراحة، وكيف أنهم آلوا إلى التنسيق مع الأمريكيين لإزاحة صدام، ففتح النواب باب الذكريات عن السعدي، قائلا إنهما كانا معا في دورة ضباط وكانا يعرفه من أيام العهد الملكي، فقال إن الأمريكيين يريدون رأس الشعب العراقي، وأن «الذين يستنجدون بالأمريكان ليسوا معارضة».
بقي النواب بقي على موقفه هذا، وقام في أمسية شعرية عام 2004 بإلقاء قصيدة بالمحكية خاطب العراق فيها بالقول «كأنك كربلاء كبيرة» وقال لأمريكا: «يا أمريكا حربنا وياك كسر خشوم»!