سؤال الانتقال الثالث في كتاب جمال المحافظ : حفريات صحفية: من المجلة الحائطية إلى حائط الفايسبوك
إدريس جبرى
معرفة الدكتور جمال المحافظ بالكتابة أي بكتبه: (مفاتيح الكتابة عنده)
“لم أتشرف بمعرفة سابقة بالأستاذ جمال المحافظ، على غرار بعض أصدقائه وزملائه في المهنة والتخييم والصُّحبة. جالسته سويعات معدودات، في سياق محدود، وتجاذبنا أطراف الحديث في سياق غير السياق.. وراح كل إلى حال سبيله حتى أهداني، وببذخ وسمو، كتابه: الصحافيون المغاربة، والأداء النقابي في الإعلام، السياق والتحولات، (12 ماي 2022). بدأت أتفحص الكتاب واستكشف خريطته ومحتوياته… وأربط بين الصحافة والنقابة، وبين الإعلام والنقابة… سلمتني إلى فرضية مفادها أن: الكتابة، هي بطاقة تعريف للكاتب وتنوير لمساره ورؤاه ومواقفه واختياراته الكبرى… فنحن نقرأ الكتاب فتبدأ عمليات التعرف على الكاتب ومساره، واستكشاف خريطة الكتاب ومحتوياته…
ما إن قرأت كتابي الرفيق جمال، بمضمونها في جمعية لاميج، أولها، الصحافيون المغاربة والأداء النقابي في الإعلام؟ (2018)، وكتابه الأخير، حفريات صحفية، من المجلة الحائطية إلى حائط الفايس بوك (2022)، ناهيك عما اطلعت عليه من مقالات ودراسات نشرها في مختلف المنابر الإعلامية والثقافية… حتى بدأتُ أرسم للمواطن جمال المحافظ ملامح شخصية مخصوصة على عادة فعل التشكيليين والرسامين والروائيين، صُورةٌ وتَمثلٌ قد تساعد على فهم المكتوب وغاياته، والكاتب وسيرته ومساره… وهما سيرة للكاتب ولجيل بأكمله…(فيما يكتب الرفيق جمال، بوح وتوثيق لسيرته الخاصة، وسيرة جيله ورفاقه..)، بل أكثر من ذلك، فإن الدكتور جمال، مخلص للكتابة العلمية الأكاديمية المرنة (Soft)، إلا في حالات تؤكد القاعدة وتشهد لها، وبأفق نقابي “نضالي” غيور على مهنته ووطنه، وبنَفَسٍ احتجاجي تقطر من عباراته ومواقفه وبعض أحكامه، وبنزوع مثالي حالم لا يعترف بالحدود والحواجز، ولا يتردد في الصدح بما يعتقد حقيقة (على تعذر القبض عليها)، وفي إصدار الأحكام، بحس أخلاقي ومهني، وبمرجعية قانونية، على صعوبة التوفيق بين الأخلاق والقانون… وبين السوريالية والواقعية… وقانون ديمقراطي(ص282) وبانتصار لخط سياسي محفوظ. .وخط نقدي يقظ ملازم لما يكتب (الصحافة الحزبية والصحافة المستقلة)
من تقديم ذ. إدريس اليزمي، (رئيس مجلس الجالية المغربية في الخارج، ورئيس المجلس الوطني لحقوق الإنسان قبلا)
هناك من الكتاب من يصدر كتابه دون تقديم من أحد، كما هو حال عبد الرزاق الحنوشي الذي لم يقدم له كاتب ما كتابه. ذلك اختيار مشروع. وهناك من الكتاب من يفضل أن يقدم لكتابه مؤلف حجة في مجال الكتابة والتأليف. ذلك حال الباحث جمال المحافظ. فقد اختار أن يقدم لكتابه الأول، الصحافيون المغاربة، الأستاذ عبد الله البقالي، من موقع خبرته الصحافية والإعلامية، وبصفته رئيس النقابة الوطنية للصحافة المغربية، وحجة معتمدة في موضوع الكتاب ومخرجاته.
لكن في كتاب: حفريات صحفية، من المجلة الحائطية إلى حائط الفايس بوك (2021)، اختار الدكتور المحافظ هذه المرة أن يقدمه لكتابه الأستاذ إدريس اليزمي. لماذا؟ يظهر أن السبب، بعيدا عن الصحبة والصداقة، كامن في رمزية الرجل، وخبرته في مجال حقوق الإنسان، والمرافع عنها في المغرب وخارجه. فهو السيد حقوق الإنسان، Les droits de Humains Mr . فالتقديم للكتاب تشريف له ولكاتبه، ودعم رمزي لهما. وإذا جاد الزمن وجاد بحضوره البهي، لتقديم ثانٍ للكتاب وتوقيعه في المعرض الدولي للكتاب في دورته 27، فذلك إمعان في التشريف، وإشهاد على مقامك العالي عنده وفي قيمة الكتاب، وحرصك على استحضار حقوق الإنسان ومقتضياتها في العمل الصحافي والإعلامي….
- عن الكلمة الضرورية لمحمد القرطيطي (رئيس الجامعة الوطنية للتخييم)
شاهد على تجربة المجلة الحائطية
لم يكتف الدكتور جمال المحافظ بتقديم إدريس اليزمي(جمال المحافظ…المهنة والتاريخ والمواطن) لكتابه حفريات الصحفية، تقديما باذخا وملما، وبلغة عربية منتقاة، بل ارتأى، في حدود علم القارئ، أن تكون كلمة الأستاذ محمد القرطيطي، رئيس الجامعة الوطنية للتخييم، وداعمة للكتاب، موازبة للكتاب. وحسنا فعل المواطن جمال، ليس فقط ردا لجميل حاصل، ولكن لأنه صورة أخرى من رفيقه القرطيطي، في مجال التخييم والتكوين الجمعوي. وهي كلمة لا بد منها فعلا، لأنها بمثابة مفتاح سري لقراءة حفريات الصحفية، ونفض الغبار على الآثار التي غطتها لمدى من الزمن. فهو يتولى تقديم معالم الدخول الى عوالم الكتاب ومعرفة أسرار زمن المجلة الحائطية، أو موضة الثمانينيات بلغة ذ. اليزمي، قبل أن يتجاوز الموضة، ويثور عن القسم الثاني من اسمه (المحافظ)، ليواكب التحولات السريعة في مجال الصحافة والإعلام والاتصال، مع الثورة الرقمية، مجسدة في حائط الفايس بوك…
بالمناسبة، أرجح السبب الرئيس في حديث ذ. إدريس اليزمي في تقديمه للكتاب عن حكايته مع السي محمد الحيحي بباريس سنة 1991، والتذكير بصلاته الوثيقة بالشهيد المهدي بنبركة، وبترأسه للجمعية المغربية لحقوق الإنسان (1989-1992)، وتأسيسه للجمعية المغربية لتربية الشبيبة(لاميج سنة 1956). هذه الجمعية الوطنية الرائدة، لم تكن جمعية عادية، بل كانت مدرسة للتكوين على المواطنة، والتدريب على الكتابة في قضايا وطنية وقومية ودولية. وذ. جمال المحافظ، خريج هذه المدارس والمسهم فيها، وواحد من أبنائها البررة. بل أكثر من ذلك امتداد حي لرموزها، من أمثال الراحل سي محمد الحيحي، وقرينه المفكر الراحل محمد عابد الجابري، ومحمد العربي المساري بامتداده في المرحوم علال الفاسي، وعبد الكريم غلاب. وهو ثمرة من ثمارهم الطيبة اليانعة. لعل منها كتاب حفريات صحفية، بجناحين، يصعب فهم الكتاب وكاتبه دون استحضار، جناح الناشط المجتمعي لجمال، الذي شغلته بالتعبير الشعري الجميل لمراد القادري( رئيس بيت الشعر في المغرب) “قضايا التربية والتثقيف والتنشئة الاجتماعية …جاء مدادها من محبرة المُربي والحقوقي محمد الحيحي، وجناح الصحافي الإعلامي الذي نشأ في حضن السياسي والإعلامي محمد العربي المساري…
عن الحفريات الصحفية وعسر الانتقال
يتضمن كتاب حفريات صحافية للدكتور جمال المحافظ، ما يقرب من مائة مقالة صحافية، بأحجام مختلفة، ومواضيع متنوعة، وأحداث عديدة، وحضور شخصيات وازنة، وفي مجالات كثيرة،.. نشرها الكاتب الصحافي المواطن المحافظ ما بين 2018 و2020، وفي مختلف الصحف والمواقع الاليكترونية المغربية والعربية.، وغن غاب عني الناظم لها، وخلفيات ترتيبها كما وردت في الكتاب..
في الحقيقة ذهلت ذهولا كبيرا، وأنا أقرأ الكتاب وأجول في أروقته الممتدة، وهو يجول العالم في ثوان معدودات، في أمريكا وفرنسا وروسيا، فتركيا والجزائر وفلسطين… لكن دون أن يغفل التركيز عن هموم وطنه ويطرح أسئلتها الصغيرة والكبيرة، ويذكر أسماء أعلامها القدامى والمحدثين، وفي مجالات مهنية ومعرفية مختلفة، في الصحافة والإعلام، كما في السياسة والمجتمع المدني، في الأحزاب والمستقلين، كما في الفكر والثقافة والسلطة… ومن مختلف المناطق الجغرافية للمملكة، في الشمال(الريف وحراكه) والجنوب والشرق والغرب، وبوطنية عالية. بل الأدهى من ذلك تتبعه للراهن المغربي، وحقوق الانسان ووباء كرونا وواقع الصحافة الورقية وواقع اللغة العربية في الاعلام، وحركة المقاطعة وقضية الإعدام ، وسؤال الديمقراطية في المغرب وحقوق الإنسان والحريات بكل أنواعها، وأخلاقيات مهنة الصحافة وإكراهاتها، ورسالة الفقيه البصري وتداعياتها، وجرأة الأشعري وشجاعة المساري… ومواقف بنبركة، وقيم الحيحي، ومواقف اليوسفي… واستقلالية بوعبيد، ورهان المصدقية مع يونس مجاهد، ومحنة حسن أوريد ومستقبله (وعندي فيها نظر، أشير إلى مقال سابق، بعنوان: الحق في اليأس، أو حسن أوريد والبوح الديبلوماسي)… كل ذلك كان مرفوقا ومزينا بصور ورموز مصاحبة، ورسوم وعلامات وشاشات، وخطوط وعناوين مرفقة، وحوارات مقتطفة من حوارات حصرية لجيل التأسيس والاستمرارية…
يصعب على القارئ مثلي أن يستوعب كل ما ورد في كتاب حفريات صحفية، ويتمثل كل القضايا والأحداث والمواقف والرؤى التي تعرض إليها، باليسر المطلوب، أو بالأحرى أن يجد له خيطا ناظما يجعله بوصلة في طريق القراءة والتحليل واستخلاص ما يجب. ومع ذلك، أعتقد أن سؤال الانتقال قد يكون الخيط الرفيع الذي يخترق الكتاب، بطريقة أو بأخرى. وإليكم ادعائي وزعمي للتأمل..
حكاية أفلاطون، أو سؤال الانتقال من الورقي/الكتابة إلى الرقمي
يتحدث أفلاطون في محاورته الشهيرة: فيدرس، عن الخطابة وعن الحب ثم عن الكتابة، أما الحب فليس هذا فضاؤه، أما الخطابة، فممارسة يومية، نعيها أو لا نعيها، ولسنا بصدد الحديث عنها، أما الكتابة أو اختـراع الكتابة، فيدخل في سؤال الانتقال… من… إلى.. .
يعتبر الإله تحوت في الأساطير المصرية القديمة، أنه أول من اكتشف علم العدد والحساب والهندسة والفلك، واكتشف الحروف الأبجدية أو الكتابة وعرضها على الملك الفرعوني ثاموس الأشموني الكوني، قائلا:” هناك أيها الملك معرفة ستجعل المصريين أحكم وأكثر قدرة على التذكر، لقد اكتشفت سر الحكمة والتذكر”
فأجاب الملك…” إنها هذا الاختراع سينتهي بمن سيعلمونه إلى ضعف التذكر لأنهم سيتوقفون عن تمرين ذاكرتهم حين يعتمدون على المكتوب”. لقد رفض الملك الكتابة ودعا إلى تدميرها والقضاء على آثارها، لأنها خطر على المستقبل البشري، لقدرتها على تخزين المعارف بالقوة نفسها للذاكرة، إن الكتابة، في هذا التصور، تجمد الفكر وتشل حركته.. مع ذلك انتصرت الكتابة أي الذاكرة والمكتوب والمطبوع والمخزن في الكتب والذاكرات الإنسانية. الكتابة قادرة على جعل المعرفة الإنسانية خالدة، ومع ذلك فالملك ثاموس الأشموني الكوني، رفض الهدية، قائلا: “إن الكتابة هي في الواقع عدو المعرفة الحقيقية، لأن الخطاب الصحيح هو الذي يبلغ شفهيا، القادر على نقش على روح المستمع، في حين أن الكلمة المكتوبة تبقى ثابتة في سكون وصمت دائم”
كان زمن المجلة الحائطية زمنا جميلا، بالنسبة للرفيق جمال(ص141)، زمن الطفولة والطهر والصدق والأمانة، والجرأة والشجاعة والتفاني والوطنية والتضحيات، وغيرها من القيم النبيلة، ربما التي بدأت تتحل بتحلل شروط إنتاجها. وكانت الكتابة والرسوم والألوان والخطوط البهية على المجلة الحائطية، وكان التواصل والإخبار والتثقيف والترفيه والحوار والنقاش في قضايا الوطن، والأمة والإنسانية…كانت الكتابة على المجلة الحائطية بخط اليد…ورعشاته، وتدفقاته، وتذبدباته…
غير أن التاريخ ماكر، إذ وصل الإنسان إلى مرحلة تدمير الكتابة واللغة مذ اكتشف آلة افتراضية بلا قلب ولا روح، بمجرد اختـراع الأنترنيت والفضاء الافتراضي والوسائط الاجتماعية… إنه انتقال من المجلة الحائطية بحروفها وألوانها وأبجديتها، ووعيها الجماعي.. إلى حائط فايس بوك، نسبح فيه دون رقيب ولا حدود… إنه الانتقال من الشفهي إلى الكتابي، ومن الكتابي إلى الافتراضي…أما الانتقال الرابع فعلمه عند الله…والله أعلم../
*نص مداخلة في قراءة الكتاب بالدورة 27 للمعرض الدولي للنشر والكتاب بالرباط، 2022.