شتلات التبغ في الجنوب أسيرة الاحتكار والفساد… فمتى تتحرر؟
حسين عطايا
تعتبر شتلة التبغ رفيقة درب أهل جنوب لبنان منذ حوالي قرن من الزمن، وتُشكل حياةً ومُعيناً لعائلات كثيرة، ارتبط بها الجنوبيون لا سيما في المناطق المُحاذية لفلسطين المحتلة، حيث طبيعة الارض الجبلية، لا تصُلح إلا لزراعة بعض انواع الحبوب ولشتلة التبغ، في ظل ندرة المياه، لذا لجأ الجنوبيون إلى زراعة التبغ في بعض القرى وشكلت بالنسبة لهم عائد وحيد يعتاشون منه.
في العام ١٩٣٥، في عهد الانتداب الفرنسي، تم إنشاء إدارة حصر التبغ والتنباك، وتُختصر بكلمة “الريجي”، وهي عبارة عن ” مونوبول ” اي مؤسسة إحتكارية لها حصرية تجارة وتوزيع وصناعة التبغ ، ومنوط بها إعطاء تراخيص الاستثمار لزراعة التبغ.
وقد واجه المزارعون والعمال مشكلات بسبب حصرية القرارات بهذه الادارة فتظاهروا وأضربوا مرات ومرات، ووقع من بينهم شهداء وجرحى ومعتقلين، في بدايات تأسيس الريجي رفض ابناء الجنوب الاحتكار، فشهدت منطقة بنت جبيل تظاهرةً زُج بنتيجتها في السجن العديد من أبناء المدينة وجوارها الذين حرضوا على التظاهر امام سرايا المدينة، ومن بينهم أبو نعيم بزي، وحصلت انتفاضة لمزارعي التبغ في النبطية في شهر كانون من العام 1972، سقط خلالها شهيدان من المزارعين هما حسن حايك ونعمة درويش، تبعها تحركات واسعة أدت إلى تحقيق مطلب رفع أسعار التبغ.
جاءت الحرب الاهلية في العام ١٩٧٥ واستمرت حتى اوائل التسعينات، حيث شهدت تلك الفترة فوضى وانفلات حابل الحصرية نتيجة اعمال التهريب وإنحلال الدولة اللبنانية وأجهزتها، إلى أن وضعت الحرب اوزارها نتيجة اتفاق الطائف وتم إعادة ترتيب تلك الادارة، لكن نتيجة سياسة المحاصصة اصبحت إدارة الريجي من حصة الطائفة الشيعية بعد توزيع المغانم على الميليشيات اللبنانية التي اصبحت جزءاً من الدولة اللبنانية .
مرحلةً جديدة من عمر الريجي
عُيّن ناصيف صبحي سقلاوي مديراً عاماً الريجي في العام 1993 ثم عين في العام 2002 رئيساً للجنة الإدارة إلى جانب منصبه كمدير عام. ومن تلك اللحظة اصبحت إدارة حصر التبغ والتنباك إحدى الأدوات الطيعة بيد حركة امل ورئيسها نبيه بري في بازار الاستثمار السياسي، وبالتالي اصبح من يُريد الحصول على تراخيص الاستثمار لزراعة التبغ في ارضه يجب أن يكون متزلما لهذه الحركة او أحد مسؤوليها او ممن يمتلكون حظوةً بعلاقات طيبة مع الحركة وقياداتها الفاعلة.
ما بعد العام ٢٠٠٠ وتحرير الجنوب
بعد الخامس والعشرين من أيار من العام ٢٠٠٠ تاريخ انسحاب القوات الاسرائيلية من مناطق الشريط الحدودي المحتلة، دخل حزب الله على الخط ليشارك حركة امل ويتقاسم معها المنافع والحصص العائدة للطائفة الشيعية، فصار لا يصل إلى اكثرية المزارعين من ابناء الطائفة وغير المنتمين للثنائي سوى فُتات ما يتبقى عنهما.
مُعاناةٍ جديدة لأهل الجنوب حصلت بعد العام ٢٠٠٠، إذ ان عمد الثنائي المهيمن إلى استقطاب الناس عبر توزيع تراخيص الاستثمار لزراعة الدخان فاصبحت الرخصة لاربع دونومات بدل دونم واحد واستفاد منها المحاسيب والازلام.
ماهية التراخيص
رخصة الاستثمار تُعطى للمزارع ليزرع اربع دونومات على ان تستلم الريجي ما قدره اربعمائة كيلوغرام فقط وفقاً للسعر الذي يتم تحديده مع بداية كل موسم، وما يزيد عن هذه الكمية يضطر المزارع إلى بيعه بأسعار أرخص للتجار، او للذين يملكون رخصة زراعة لكنهم لم يزرعوا ابداً .ومن هنا نشأت فئتين ممن يحملون تراخيص الاستثمار.
الاولى: وهي من المزارعين والذين يعملون طيلة العام بدءاً من تحضير مشاتل الزراعة ” رش البذار والعناية بها لتصبح شتولاً صالحة للزراعة، ومن ثم زراعتها في الارض، وبعدها القطاف ومن ثم يأتي موسم التصفيط وبعدها تجهيز التبغ بالخيش ومن ثم موسم التسليم في اواخر تشرين الاول حتى اواخر كل عام .
والثانية: مجموعة التجار الذين يحملون تراخيص استثمار لكنهم لا يزرعون التبغ بل ينتظرون نهاية الموسم فيشترون ما يفيض عن المزارعين وبأسعار بخسة ورخيصة ويبيعونها للريجي وفق السعر الرائج وبالتالي يحققون مكاسب وارباح على حساب المزارعين.
واسعار الربجي لم تكن يوماً مُنصفة للمزارعين وخصوصا تدهور العملة إثر انتفاضة العام ٢٠٢١، حين قام بعض المزارعين من رميش وعيترون وشقرا وغيرها من القرى المؤثرة في زراعة التبغ بانتفاضة بوجه إدارة الريجي، معترضين الاعتراض على عدم عدالة الاسعار، بحيث بات المزراع لا يحقق ارباحاً لا بل لا يستطيع تأمين كلفة الزراعة من حراثة الارض والاسمدة واليد العاملة.
لكن الذي حصل أن “الريجي” بما تملكه من مونة على حملة التراخيص والاستثمار والتجار، يُضاف على ذلك بأن رئيس نقابة مُزارعي التبغ هو حسن فقيه القيادي في حركة امل والاتحاد العمالي العام، والذي بحكم موقعه أفشل انتفاضة المزارعين الرافضين لتسليم محصولهم من التبغ وفقاً لاسعار الريجي السائدة وبالتالي نجحت الريجي في فرض شروطها وتعثرت انتفاضة المزارعين.
ماذا يقول المزارعون؟
وفي جولة لنا على عدد من المزارعين في وما يتوقعونه من موسم هذا العام، قال لنا ابو محمود من بلدة طيرحرفا: “في العام الماضي حاولنا أن ننتقض ونواجه إدارة الريجي ولكن للأسف عدم وحدة المزارعين نتيجة انتمائهم السياسي كان سبباً في إفشال حراكنا، خصوصاً ان السعر لم يكن ليُعيد لنا فقط ما نستثمره في الارض، فحراثة الدونم كانت تُكلف ٥٠ الف اليوم اصبحت ٤٥٠ الف، طن الاسمدة كنا نشتريه بمئتي دولار اليوم سعره ثمانيمائة دولار، وإذا اضفنا سعر الخيش والخيطان وغيرها من مواد وزيادة عليها اليد العاملة حقيقة يكون عملنا مجرد “سخرة ” اي مجاناً خدمة للريجي لتحقق ارباحاً على حسابناو .إذا لم يكن سعر كيلو الدخان ٢٥٠ الف ليرة لا يمكن ان نستمر بالزراعة”.
أما ابو علي من عيتا الشعب فيقول: “في العام الماضي واجهنا الريجي ولكن للاسف ولأن ” دود الخل منه وفيه ” ومنقسمين بين جماعة فلان وجماعة علتان خسرنا مواجهتنا واضطرينا ان نسلم محصولنا للريجي وفق السعر الموضوع من قبلهم “.
من جهته، يقول ابو ميشال من رميش: مشكلتنا ليست فقط محصورة مع إدارة الريجي بل هي تتوزع على شقين، الاول هو ما يسمونه المراقب والذي هو وحده يمتلك حق وقرار تسعير كيلو التبغ لانه يمتلك هامشاً في التسعير ما بين الاربعين الفاً وصولاً الى خمسين الف ليرة لبنانية، وهؤلا المراقبين هم من المحسوبين على مدير عام الريجي ناصيف سقلاوي وبالتالي يتم التسعير بناء على صاحب المحصول اي المزارع بقدر قرب هذا المزارع من الثنائي ومعارفه ومن يوصي به يكون له السعر الاعلى . والثاني مع مجموعة التجار وهم لا يزرعون ولا يعلمون حقيقة كلفة الانتاج ومتاعب الزراعة وما يعتريها من صعاب بل يأتون في اخر الموسم فيشترون الزائد من المحصول عن مجموعة ما يجب ان يُسلمه المزارع للريجي ويشترونه ومن ثم ونتيجة علاقاتهم الطيبة مع المراقبين يحصلون على أسعار جيدة فيحققون ارباحاً من دون تعب ووجع قلب” .
ويضيف: “نحن نطالب الريجي مراقبة اصحاب التراخيص لمعرفة من هو المزارع الحقيقي ومن هو التاجر، ونتمنى ان تكون اسعار هذا العام افضل”.
يُزرع تبغ الجنوب في أكثر من 190 بلدة وقرية جنوبية، والثقل الأساسي لهذه الزراعة منطقة بنت جبيل. وتحتل بلدة عيترون المرتبة الاولى بزراعة وانتاج التبغ، والذي يبلغ سنوياً ما يقارب أربعماية ألف كيلو غرام، ويعمل في هذه الزراعة حوالي الألف شخص من ابناء البلدة، وتأتي بلدة رميش هي المرتبة الثانية ويبلغ انتاجها السنوي من اراضيها الخصبة ذات التربة الحمراء 375 ألف كيلو غرام، وبعدهما عيتا الشعب وبلدات أخرى مثل صديقين وزبقين ورب ثلاثين والقنطرة وغيرها، وتبلغ الكمية التي تتسلمها إدارة الريجي من مزارعي الجنوب سنويا 5,4 ملايين كيلو غرام، وقد انخفض موسم 2021 بنسبة تفوق الثلاثين بالمئة، تصدر منها الريجي القسم الأكبر المقدر ستين بالمئة، فيما تقوم باستخدام الكميات المتبقية في تصنيع السجائر في مصانع الادارة في الحدث، ولا سيما سجائر “سيدرز” الوطنية.
يعد قطاع التبغ في لبنان، بحسب إدارة الريجي واحداً من ابرز القطاعات الداعمة للخزينة اللبنانية، حيث بلغت عائداتها 444 مليون دولار في العام 2017. ولأن كل شيء في لبنان يتم حسابه على اساس المردود السياسي ، فالريجي هي إحدى ادوات الثنائي أمل ـــ حزب الله، للإمساك بلقمة عيش الجنوبيين، وعلى الرغم من كل المتغيرات من الواضح أن المعارضة لا تملك المال والسلطة وبالتالي سيبقى الجنوبيون متروكين لقدرهم في مقارعة الاحتلال المقنع الجديد باسم الطائفة والمقاومة وما ينتُج عنها من وصايةٍ الى حد ارهاب كل معارض عبر معزوفة التخوين او انه ضد المقاومة ومع التطبيع او انه شيعة سفارات.