صديقي منصف المرزوقي…
جورج الرّاسي
لم يكن قد مضى على وجودي في تلك المدينة “النائية” سوى بضعة أشهر حتى وجدتني وسط جرف “ثوري” غير متوقع…
مدينة Strasbourg أكثر المدن الفرنسية “ألمانية”، عاصمة منطقة الـAlsace Lorraine التي كانت مدار نزاع مع ألمانيا على مدى قرون. كما أنها أكثر المدن الفرنسية يهودية، إذ تضم القسم الأكبر من الجالية اليهودية في فرنسا.
التوقيت لم يكن حياديا. نحن في النصف الأول من العام 1969. في 28 أبريل- نيسان من تلك السنة قدم الجنرال ديغول استقالته، وأعلن انسحابه من الحياة العامة، بعد فشله في الاستفتاء الذي تقدم به لإعادة صياغة مؤسسات الجمهورية وإقرار نظام “مشاركة” الجماعات المحلية.
ولم يكن قد مضى وقت طويل على اندلاع الثورة الطلابية في فرنسا، في أيار- مايو من العام المنصرم 1968، التي زلزات حكم ديغول وأحدثت ثورة فعلية في العلاقات الاجتماعية، وبخاصة في المسائل الجنسية، والتي جعلت جان-بول ساتر يقف على أبواب الجامعات لكي يوزع جريدة Libération التي عكست أوجه ذلك الانقلاب المجتمعي غير المسبوق.. ولعل أول المستفيدين من ذلك كانت مشافي ومستوصفات الإجهاض.. ومنع الحمل…!
إضافة إلى ذلك، فلم يكن قد مضى على الهزيمة العربية النكراء في حزيران- جوان1967 سوى أقل من عامين، شهدا انطلاق العمل الفدائي الفلسطيني واتخاذه من لبنان مقرا وممرا له، مع ما تسبب ذلك من كوارث، لم يكن أقلها في ذلك الوقت تدمير الأسطول الجوي المدني اللبناني في مطار بيروت أواخر العام 1968.
في وسط هذه المعمعة العربية والفرنسية، وجدتني أضع رجلي في تلك المدينة التي كانت أحد مراكز الثقل الأساسية في الثورة الطلابية، وهي تضم جالية عربية مهمة معظم أفرادها من الطلاب، مع أغلبية واضحة للتوانسة المتغلغلين في كل مفاصل الحياة: في قطاع التعليم وفي قطاع الصحة وفي قطاع الخدمات والفنادق والمطاعم الخ…
والحقيقة أن اختياري لتلك المدينة كان بمحض الصدفة، إذ أن أصدقاء لي سبقوني إليها من بيروت وحجزوا لي غرفة، على أن أكمل ماستر العلوم الاجتماعية الذي بدأته في “مدرسة الآداب العليا” في بيروت في جامعتها الأوروبية.
والواقع أنها مدينه جميلة، فإضافة إلى جامعتها الأوروبية، هنالك مقر البرلمان الأوروبي والكاتدرائية التاريخية، ومنتزه الـ Orangerie، وهو نسخة مصغرة عن غابة بولونيا الباريسية Bois de Boulogne، ومقهى االـMino، وهو أشبه ما يكون بهورس- شو طلابي.. ومظاهر عمرانية كثيرة تذكر بالجار الألماني.. ولا أنسى بالطبع أكلة الـ choucroute، وهي خليط من الملفوف والـ saucisse ، غنية بالسعرات الحرارية التي تساعد على تحمل برودة الطقس في الشتاء… (لا أعرف آذا كانت حلال أم لا…).. أما البيرة (أو “الجعة”، كما تسميها المسلسلات المكسيكية في أبشع ترجمة سمعتها في حياتي)، فإذا أردتها على أصولها يمكنك أن تركب الباص إلى مدينة khol الألمانية الحدودية وشربها هناك… (لا أدري إذا كانت حلال أيضا...)..
المهم أنني استلمت غرفتي عند وصولي: بضعة أمتار مربعة تتسع إلى فرشة على الأرض (لا تصلح إلا لشيء واحد، لن أقوله لكم حفاظا على الآداب العامة..)، ومكتب (عفوا… طاولة خشبية مهلهلة)، مع كرسي طبعا. على أن “المنافع” الأخرى مشتركة مع الجيران، وتقع في آخر ممر طويل couloir من المستحسن أن لا تسلكه في الليل، لأنك لا تعرف إلى إين ستصل…
وبالمناسبة فإن لمثل هذه الغرف تعريف في فرنسا هو chambre de bonne، أي بالعربي الفصيح “غرفة الخادمات”.. وهي تمتاز عدا عن المؤهلات التي ذكرتها، بأن سقفها ليس أفقيا، بل هو ينحدر نحو الأسفل ويطل على فناء داخلي يجلب الهم والغم، أو على الشارع الخارجي إذا كنت محظوظا، وقد كنت بالفعل محظوظا تلك المرة….
في هذه الظروف التاريخية والحياتية وجدتني أحط الرحال في Strasbourg..
ومنذ اللحظة الأولى كما ذكرت، وجدتني تلقائيا على رأس مسيرة ثورية من نوع آخر. فقد استقبلني الإخوة، ومعظمهم من أقطار المغرب العربي استقبالا يليق بالمهدي المنتظر، على أساس أنني آتٍ من الشرق.. أي من خطوط النار…
ولم أكد أفرد أغراضي القليلة حتى وجدتني أمام مهمة أولى. فقد كان في المدينة جمعية تحمل اسم “العدل و السلام في فلسطين Justice et paix en Palestine ، يرعاها قس بروتستاتنتي يدعى Ambroise Monod، ما لبث أن أصبح صديقي. وأولى هداياه لي بالتضامن والتكافل مع أعضاء الجمعية من عرب وفرنسيين كانت أن أقوم بالإشراف على حفل يقام في 15 أيار – مايو، في ذكرى قيام دولة إسرائيل، لشرح القضية الفلسطينية للجمهور الفرنسي…
وقد اختبرت لإقامة ذلك الحفل قاعة سينما في أكبر ساحات المدينة ساحة Kléber..
وهكذا كان.
أول طالبي الكلام كان شابا تونسبا (بالطبع)، صعد إلى المنصة ووقف إلى جانبي وأخرج ورقة من جيبه، وبدأ يقرأ بطلاقة نصا منمقا… نظرت إلى الورقة التي يحملها فإذا هي ورقة بيضاء ناصعة البياض..! (يا شياطن يا توانسة.. حتى هذه غلبتونا فيها…!).
علمت فيما بعد أنه يعمل مع محمد الصياح الذي كان مديرا للحزب الدستوري، حزب الرئيس بورقيبة، وكان يحاول بطريقة ذكيه تبرير الموقف الذي اتخذه الرئيس خلال زيارته للأردن عام 1965، قبل عامين من الهزيمة، والخطاب الشهير الذي ألقاه حينها في مدينة أريحا ودعا فيه إلى إيجاد تسوية سلمية للقضية الفلسطينية… وقد استحق عليه لعنات الأمة حتى رحيله…
أما ثاني طالبي الكلام فقد كان تونسيا أيضا، القى كلمة متزنة تنم عن وعي سياسي.. وعرفني عن نفسه بأنه: منصف المرزوقي…
(عند هذا الحد صعد أحد الرفاق في الجمعية إلى المنصة، وهمس في أذني أن معظم الجالسين في الصف الأمامي في القاعة هم من أعوان الأمن في المنطقة…).
يعني شي بطمن…..
كنت مطمئنا على على كل حال أن القس سوف يحميني… وسوف يغفر لي كل خطاياي السابقة واللاحقة.. إذا إقتضى الأمر…
المهم انتهى الحفل بسلام، واقتصرت عواقبه على اهتمام ملحوظ من طرف “أعوان الأمن” بنشاطي ونشاط الجمعية …
توطدت علاقتي مع منصف الذي كان يتابع دراسة طب الأعصاب neurologie في المدينة.. وقبل نهاية العام الدراسي جاءني وقال لي: جورج.. أود زيارة بيروت هذا الصيف مع زوجتي …
أجبته: .. ستكون ضيفي…
وبالفعل جاء منصف في مطلع الصيف مع زوجته الفرنسية، فوضعت منزل العائلة بتصرفه لأن الجميع كان قد غادر إلى الجبل …
الانحراف الكبير La grande dérive
منذ آخر وداع لنا في بيروت عام 1969 لم أعد أرى منصف على مدار ثلاثه عقود، وربما أكثر.. مرة واحدة فقط كنت مدعوا لحضور مؤتمر للأحزاب (الثورية طبعا) في ليبيا، وكان هو حاضرا على رأس حزبه الوليد، فتقاطعت خطانا على مدخل مطعم الفندق الذي تمت استضافتنا فيه… فكان السلام سريعا جدا… ولماما…
يجب أن نتذكر أن طرابلس في تلك المرحلة كانت ممرا إجباريا لكل الأحزاب ولكل السياسيين التونسيين.
ومن منا لا يذكر اتفاق “جربه”عام 1984، الذي يرسي دعائم شبه “وحدة اندماجية” بين البلدين، والذي قام بطبخه وزير خارجية بورقيبة آنذاك محمد المصمودي، مستفيدا من كون الرئيس في حالة غياب عن الوعي… فلما استفاق من غيبوبته جن جنونه وطار صوابه، فألغى الاتفاق وطرد وزير خارجيته…!
من الواضح أن منصف كان يخطط لمستقبله..
بالطبع كانت تصلني أصداء نشاطات منصف في باريس التي انتقل إليها، وبخاصة ما يتعلق بالدفاع عن حقوق الإنسان العربي أساسا، الأمر الذي جعله يتخذ موقف المعارض لحكم الرئيس زين العابدين بن علي الذي استمر قرابة ربع قرن
كان يكتب المقالات في بعض الصحف العربية والفرنسية، ويصدر بعض النشرات، من ضمنها كتيب بالفرنسية يحمل عنوان: “أيها العرب لو تتكلمون ” Arabes si vous parliez – ومعظم تلك الكتابات تندرج تحت عنوان: حقوق الإنسان…
وقد تحلقت حوله مجموعة من المثقفين تحمل ذلك الشعار، ما لبثت أن تحولت إلى “حزب جمهوري”، يريد أن يحتل موقعه على الخريطة السياسية في تونس.
ودارت الأيام، واندلعت “ثورة الياسمين” في تونس مطلع العام 2011 ، وهرب بن علي معتقدا أنه سيعود بعد أيام، وعاد منصف ألى تونس بعد أن كانت محرمة عليه. وفي خضم تلك الفوضى التي عمت البلاد حينها عرف كيف يلعبها “بيضة القبان”، وهي لعبة كنا نظن أنها حكرا على بعض الموهوبين، أمثال الزعيم اللبناني وليد جنبلاط، أو لائحة عرب إسرائيل، أو بعض الأحزاب الصغيرة في الديموقراطيات الغربية…
وفي الوقت الذي كانت فيه القوى الرئيسية في البلاد، سواء كانت ليبرالية أو إسلامية، تنظم صفوفها استعدادا للجوالات اللاحقة لا محالة، عرف منصف كيف يقتنص تلك اللحظة لكي يعينه الدستور التأسيسي رئيسا مؤقتا للبلاد…
طبعا فرحت لذلك.. لكنني لم أتصل به… فمن عاداتي السيئة جدا أنه كلما تسلم أحد أصدقائي منصبا في الدولة – من “مختار” و طالع – تنقطع صلتي به تلقائيا .. وهذه مسألة تحتاج إلى محلل نفسي بلا شك…
المهم أن منصف وصل إلى قصر قرطاج… وهنا بدأت الكوارث.. وأريد أن أتوقف عند اثنتين منها فقط: طريقة التعامل مع الصحافة، وتبني طروحات التيار الشمولي…
هل من المعقول أن يكون الهم الأول لرئيس بلاد تعيش أخطر مرحلة في تاريخها المعاصر أن يحصي كم قبض ذلك الصحفي أو تلك الإعلامية من النظام السابق...؟
البلاد قايمة قاعدة والمرزوقي يستدعي مجموعة من “الخبراء” ينبشوا له كل وثائق قصر قرطاج لكي يصدر “الكتاب الأسود” بحق كل الصحفيين الذين “قبضوا” من النظام السابق …!!
وحدها الصحفية السابقة والنائبة الحالية في البرلمان اللبناني بولا يعقوبيان عرفت كيف تعلق على الموضوع، إذ قامت بتصحيح ما جاء في ذلك الكتاب الذي أدرج اسمها في عداد “القابضين”، وأعلنت أنها لم تقبض مليون دولار فقط.. بل مليونين…
ومعروف عن هذه النائبة أنها لا تحتفظ بلسانها في جيبها، كما يقول المثل الفرنسي..n’a pas sa langue dans sa poche ، وهي التي صرحت على الملأ في برنامج تلفزيوني واسع المشاهدة، ردا على بعض الأنذال الذين حاولوا المس بشرفها، أن جهازها التناسلي ملك لها وهي حرة بالتصرف به كما تشاء.. وهذه لعمري وجهة نظر محترمة…
ثم إن منصف كتب في صحف عديدة يعرف أن تمويلها لا يهبط من السماء… وأكثر من ذلك لا يخفى على أحد أن الصحافة العربية “الحرة” لا وجود لها، لا في داخل العالم العربي ولا في خارجه… نحن ليس عندنا صحافة بالمعنى الصحيح، بل عندنا “أبواق”، بمعنى أنها تعكس رأي ممولها...
يمكنك أن تكون ماو تسي تونغ، ولكن عندما تكتب في تلك الصحيفة أو تلك، فأنت لا تختلف كثيرا عن العمال الآسيويين في بعض الدول.. سوى أنك في غرفة مكيفة… وهم يعملون في ظل حرارة كاوية من 40 درجة وما فوق…
بمعنى آخر، ليس عندنا صحافة علاقتها مباشرة مع قرائها…
المطب الثاني الذي وقع فيه المرزوقي، هو تبنيه لطروحات الإخوان المسلمين. هم أحرار فيما يريدون. لكن هل مهمة مثقف ليبرالي مدافع عن حقوق الإنسان أن يتحول إلى ناطق بلسان يوسف القرضاوي…؟
من لم ير ذلك المشهد الغريب العجيب والمرزوقي جالس في ركن من أركان بيته، بعد أن دعا إليه كاميرات التلفزيون المحلي والأجنبي، وأجهش بالبكاء أمامهم عند الإعلان عن وفاة الرئيس المصري السابق محمد مرسي عام 2019…!
كان يمسح دموعه كلما ابتعدت الكاميرات ثم تنهمر بغزارة كلما اقتربت..!
يعني قدرات تمثيلية لم تظهر عليه من قبل… حتى أن أحد الخبثاء اتصل بي ليقول: هذه عليها مكافأة حرزانة..!
وقد اختارته عائلة مرسي فيما بعد رئيسا شرفيا “لمؤسسة محمد مرسي للديموقراطية“..
وأوحى للكثيرين أنه أصبح يعمل بالريموت كونترول… ففي كل صباح قبل صياح الديك يكون قد شتم مصر والسعودية والإمارات… والجزائر أيضا… على الريق.. وقبل تناول وجبة الفطور… بكلام آخر انتقل من “مناضل ليبرالي” على أقل تقدير، إلى من يحتل موقع متقدم فيما يعرف اليوم “بالأممية الإسلامية”…
ويعرف المتابعون أن الجيش المصري استولى على السلطة بعدما اطلع على وثائق تؤكد سعي الحكم الديموقراطي في أميركا أيام أوباما إلى رمي المنطقة في أحضان الإخوان… ولكن هذه مسألة أخرى…
في انتخابات العام 2014 لم يحصل المرزوقي إلا على أقل من 2 بالمئة من الأصوات، وفاز فيها فوزا كبيرا المخضرم الباجي قائد السبسي حامل الإرث البورقيبي…
واليوم تعيش البلاد على وقع تحولات مصيرية، يجب ان لا يخطئ أحد الحساب فيها…
فهل يراجع منصف حساباته فيها ويستدرك الأمر قبل فوات الأوان..؟
وهو على كل حال مرحب به في منزلي متى شاء، فأنا أضع الصداقة فوق كل المراتب.. وفي منزلة تعلو على كل الأعتبارات…